فضائل التقوى

الشيخ د محمود بن أحمد الدوسري

2023-02-25 - 1444/08/05
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/عنوان السعادة وعلامة الفلاح 2/حقيقة التقوى 3/حاجة العباد إلى تقوى الله 4/فضائل التقوى 5/ثمرات التقوى في الدنيا والآخرة.

اقتباس

فالمُتَّقون درجات، وعلى حسب تفاوتهم في التقوى؛ يتفاضلون في الكرامة عند الله -تعالى-. فأكرُمهم عند الله أشدُّهم اتِّقاءً له؛ بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، والله عليمٌ بالمتقين، خبير بهم....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعد: فإنَّ التقوى هي عُنوان السَّعادة، وعلامةُ الفلاح في الدنيا والآخرة. وحقيقةُ التقوى؛ تتمثَّل في قولِ عمرَ بنِ عبد العزيز -رحمه الله-: "ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليطِ فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله تركُ ما حرَّمَ اللهُ، وأداءُ ما افْتَرَضَ الله، فمَنْ رُزِقَ بعد ذلك خيراً فهو خيرٌ إلى خير"(تاريخ مدينة دمشق: 45/230).

 

وقال طَلْقُ بنُ حبيب -رحمه الله-: "التقوى أنْ تعملَ بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأنْ تتركَ معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عِقابَ الله"(تفسير ابن كثير: 1/85).

 

ولأهمية التقوى؛ فقد أمَرَ اللهُ بها نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)[الأحزاب: 1]. "أي: يا أيها الذي مَنَّ اللهُ عليه بالنُّبوة، واخْتَصَّه بوحيه، وفَضَّلَه على سائر الخَلْق، اشْكُرْ نِعمَةَ ربِّك عليك، باستعمال تَقْواه، فأنتَ أَولى بها من غيرك"(تفسير السعدي: ص 657).

 

وأمَرَ اللهُ المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى، فقال -سبحانه-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[المائدة: 2]. قال الماوردي -رحمه الله-: "نَدَبَ اللهُ -تعالى- إلى التعاون بالبر، وقَرَنَه بالتقوى له؛ لأنَّ في التقوى رضا الله، وفي البِرِّ رضا الناس. ومَنْ جَمَعَ بين رضا اللهِ ورضا الناس فقد تَمَّتْ سعادتُه، وعمَّتْ نِعمتُه"(تفسير القرطبي: 6/47).

 

 عباد الله: إنَّ للتقوى فضائلَ كثيرةً ومُتنوِّعة، ومن أبرزها:

 1- التقوى طريق الهداية: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال: 29]. فهذا وَعْدٌ من الله -تعالى- بأنَّ مَن اتَّقاه -بِفِعْلِ أوامرِه وترك زواجِرِه- جَعَلَ في قلبه نوراً يَفهم به ما يُلقى إليه، وجَعَلَ له فَيْصَلاً يَفْصِلُ به بين الحق والباطل، ووفَّقَه لمعرفة الحقِّ من الباطل، والهدى والضلال، والحلال والحرام، فكان ذلك سبب نَصره ونَجاته ومَخْرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتَكْفير ذنوبه وسترها عن الناس؛ بل ينال المُتَّقي أجراً عظيماً، وثواباً جزيلاً(تفسير السعدي: ص 319).

 

2- التقوى مِفتاح العلم: قال الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 282]؛ فتقوى الله هي مِفتاحُ مغاليقِ القلوب والعقول، وتقوى الله وسيلةٌ إلى حصول العلم. وأوضحُ مثالٍ عليه؛ قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا): أي: عِلْمًا تُفَرِّقون به بين الحقائقِ، والحقِّ والباطل(تفسير السعدي: ص 961).

 

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إنما قَصر بنا عن علمِ ما جهلنا؛ تقصيرُنا في العمل بما عَلِمنا. ولو عَمِلْنا ببعض ما عَلِمْنا؛ لأورثنا عِلْمًا لا تقوم به أبدانُنا، قال الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ)(تفسير القرطبي: 13/324).

 

3- التقوى نورٌ يُضيءُ الطريق: قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الحديد: 28]. قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "وفي هذا دليلٌ على أن التقوى من أسباب حصول العلم، وما أكثر الذين يَنْشُدون العلم، وينشدون الحِفْظ، ويطلبون الفهم؛ فنقول: إنَّ تحصيله يسير، وذلك بتقوى الله -عز وجل- وتحقيقِ الإيمان، الذي هو مُوجِبُ العلم، فاعملْ بما عَلِمْتَ؛ يحصلْ لك عِلْمُ ما لم تعلم، فتقوى الله -عز وجل- من أسباب زيادة العلم ولا شك، ولهذا قال: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)؛ أي: تَسِيرون به، أي: بسببه سَيْراً صحيحاً، يوصِلُكم إلى الله -عز وجل-"(تفسير ابن عثيمين: 15/55).

 

 4- بالتقوى يُقبل العمل: قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27]. وهم الذين "يكون عملُهم خالِصاً لوجه الله، مُتَّبِعين فيه لِسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(تفسير السعدي: ص 228).

 

 قال عامر: "لَحَرْفٌ في كتاب الله أُعْطاه أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعاً. فقيل له: وما ذاك يا أبا عمرو؟ قال: أنْ يجعلني اللهُ من المتقين؛ فإنه قال: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ)"(الطبقات الكبرى، لابن سعد: 7/106).

 

وأمَّا غير المُتَّقين، فيُقال لهم: (أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ)[التوبة: 53].

 

5- التقوى عُنوانُ الكرامة: بالتقوى يُصبح المرءُ كريماً عند الله -تعالى-، قال -سبحانه-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]؛ فالمُتَّقون درجات، وعلى حسب تفاوتهم في التقوى؛ يتفاضلون في الكرامة عند الله -تعالى-. فأكرُمهم عند الله أشدُّهم اتِّقاءً له؛ بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، والله عليمٌ بالمتقين، خبير بهم (قوت القلوب، لأبي طالب المكي (2/83).

 

6- التقوى خَيرُ زاد: قال -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)[البقرة: 197]. أمَرَ اللهُ -تعالى- بالتَّزود لسفر الحج، وأمَّا الزاد الحقيقي المستمر نفعُه لصاحبه في دنياه وأُخراه، فهو زاد التقوى، الذي هو زادٌ إلى دار المتقين الجنة، وهو المُوصِلُ لأكملِ لَذَّة، وأجلِّ نعيم، فهذا مدحٌ للتقوى. (تفسير السعدي: ص 91).

 

7- التقوى مِفتاح التَّيسيرِ، والرِّزقِ الوفير، والأَجْرِ الجَزِيل: قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3]؛ فالله -تعالى- يَسُوق الرِّزقَ للمُتَّقِي من وجهٍ لا يحتسبه، ولا يشعر به. والتقوى سبب للخروج من كلِّ ضيقٍ، قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4]. والتقوى سببٌ لتكفيرِ السيئات، وزيادةِ الحسنات: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق: 5](تفسير السعدي: ص 870).

 

 8- التقوى سببٌ لِجَلْبِ البَرَكات: قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[الأعراف: 96]. أي: لو آمنوا بقلوبهم إيماناً صادِقاً صدَّقَتْه الأعمالُ، واتقوا اللهَ -تعالى-؛ لَفَتَحَ عليهم بركاتٍ السماء والأرض، فأرسلَ السماءَ عليهم مِدراراً، وأنبتَ لهم من الأرض ما به يعيشون، في أخْصَبِ عَيشٍ وأغزَرِ رِزق. (تفسير السعدي: ص 298).

 

 9- التقوى وِقايةٌ من الذنوب: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف: 201]. يُخبر -تعالى- عن عباده المتقين أنهم إذا مسَّهم طائِفٌ من الشيطان بالوسوسةِ أو الهمِّ بالمعصية أو ارتكابِها؛ تذكَّروا عِقابَ الله، وجزيلَ ثوابه، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله -تعالى-، ورجعوا إليه من قريب، (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)؛ أي: قد استقاموا، وصَحَوا مِمَّا كانوا فيه.(تفسير ابن كثير: 3/534).

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أيها المسلمون: ومن فضائل التقوى:

 10- مَحبَّةُ اللهِ ونُصْرتُه للمُتَّقين: فتقوى الله سببٌ لِمَحبَّتِه، ونُصرتِه التي حُرِمَ منها كثير من المسلمين، قال -سبحانه-: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 194]؛ وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: 128].

 

 11- التقوى مَنجاةٌ من المهالك: في الدنيا والآخرة، قال -سبحانه-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[مريم: 71، 72]. فإذا "مَرَّ الخلائِقُ كلُّهم على النار، وسَقَطَ فيها مَنْ سَقَطَ من الكفار، والعُصاةِ ذوي المعاصي بِحَسَبِهم؛ نجَّى اللهُ -تعالى- المؤمنين المُتَّقين منها بِحَسَبِ أعمالهم. فجَوَازُهم على الصِّراط وسرعتُهم بِقَدْرِ أعمالهم التي كانت في الدنيا"(تفسير ابن كثير: 5/256).

 

 وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر: 60، 61]. "لَمَّا ذَكَرَ حالةَ المُتكبِّرين، ذَكَرَ حالةَ المتقين، فقال: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ)؛ أي: بنجاتهم؛ وذلك لأنَّ معهم آلَةَ النجاة، وهي تقوى الله -تعالى-، التي هي العُدَّة عند كلِّ هولٍ وشدة"(تفسير السعدي: ص 728).

 

 12- تكريمُ الله -تعالى- للمتقين: قال -تعالى-: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)[مريم: 85]؛ يَحشر اللهُ -تعالى- المتقين إلى موقف القيامة مُكَرَّمين، مُبَجَّلين مُعَظَّمين، وُفُوداً إليه، والوافِدُ لا بد أنْ يكون في قلبه من الرجاء، وحُسْنِ الظنِّ بالوافِدِ إليه ما هو معلوم. فالمُتَّقون يَفِدون إلى الرحمن، راجين منه رحمتَه، وعَظِيمَ إحسانه، والفوزَ بعطاياه في دار رضوانه، واثِقين بفضله -سبحانه-( تفسير السعدي: ص 500).

 

 13- الجنةُ دار المُتقين: فالقرآن مليءٌ بالآيات الدالة على أنَّ أهل الجنة هم أهلُ التُّقى؛ من مثل قوله -تعالى-: (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ)[النحل: 30، 31]؛ وقوله -سبحانه-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر: 54، 55].

 

اللهم آتِ نُفوسَنا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ ولِيُّها ومَولاها.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life