عناصر الخطبة
1/ من فضائل سورة الكهف 2/ قصة أصحاب الكهف 3/ دروس مستفادة من القصةاقتباس
هذه قصة شبانٍ آمنوا بالله وحده بين قوم يعبدون غير الله -تعالى-، فلم يستطيعوا أن يجهروا بالحق في بيئة تعج بالشرك والمشركين، فخرجوا من أرض قومهم إلى كهف قريب من مدينتهم ليعبدوا الله فيه؛ فضرب الله -تعالى- على آذانهم النوم فناموا أكثر من ثلاثمائة سنة، وبقوا تلك المدة على حالتهم لم يتغيروا..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: يا أهل الجمعة، لعل الكثير منكم قرأ اليوم سورة الكهف؛ فقد جاء الترغيب في قراءتها هذا اليوم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" رواه الحاكم والبيهقي وهو صحيح.
إن هذه السورة الكريمة أنزلها الله -تعالى- على رسوله محمد -عليه الصلاة والسلام- في مكة حينما بلغ أذى المشركين للمسلمين الغاية، فجاءت هذه السورة لتفتح للسابقين الأولين أبواب الفرج، وترسم أمامهم طريق الأمل، وسبيل الخروج من الضيق الذي يعانونه إلى سعة عظمى تنتظر موكبهم الكريم.
ولقد كان من وسائل التأثير التي اتخذتها هذه السورة: وسيلةُ القصة، فكان من القصص التي ذكرتها: قصة أصحاب الكهف، وهي أول قصة فيها. يقول الله -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) [الكهف:9]، إلى قوله -تعالى-: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف:26].
عباد الله: هذه قصة شبانٍ آمنوا بالله وحده بين قوم يعبدون غير الله -تعالى-، فلم يستطيعوا أن يجهروا بالحق في بيئة تعج بالشرك والمشركين، فخرجوا من أرض قومهم إلى كهف قريب من مدينتهم ليعبدوا الله فيه؛ فضرب الله -تعالى- على آذانهم النوم فناموا أكثر من ثلاثمائة سنة، وبقوا تلك المدة على حالتهم لم يتغيروا.
ثم أيقظهم الله -عز وجل- بعد ذلك فقاموا من نومهم وظنوا أنهم ما ناموا إلا يومًا واحداً؛ فأجسادهم لم تتغير، وشعورهم كما هي عليه، وأظفارهم لم تطل.
فاحتاجوا إلى الطعام، فأرسلوا واحداً منهم إلى المدينة لجلب ذلك، فرجع بالطعام إلى رفاقه، وقد كُشف أمرهم لأهل المدينة، بالدراهم التي اشترى بها صاحبهم. فأماتهم الله -تعالى- بعد أن أطلع أهلَ المدينة على قصتهم؛ لتكون للناس عظة وعبرة.
أيها المسلمون: هذه القصة قصة عجيبة؛ ولذلك تداولتها الأجيال جيلاً بعد جيل إلى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله -تعالى- هذه الآيات على رسوله -عليه الصلاة والسلام- ليبين أنها قصة فيها عظات وعبر، لكنه يقول لرسوله وللناس: إن في خلق الله ما هو أعجب من ذلك. يقول -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) [الكهف: 9]. والرقيم: هو اللوح الذي كتبت فيه أسماؤهم.
لقد أجمل الله -تعالى- قصتهم في ثلاث آيات بيّن فيها خروجهم ودعاءهم ثم إماتتهم ثم إيقاظهم. قال -تعالى-: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) [الكهف:] (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) [الكهف:10- 12].
وهذا الأسلوب القائم على الإجمال ثم التفصيل مما يشوق المتابع للقصة؛ فقد جاء التفصيل بعد هذا الإجمال يبين للناس أن القرآن الكريم سيذكر خبرهم العجيب كما هو عليه من غير تحريف ولا كذب كما هي عادة بعض القُصّاص، وكما هي عادة القصص التي تتناقلها الألسنة، فبين -تعالى- أن هؤلاء المؤمنين كانوا شبابًا آمنوا بالله -تعالى- وزادهم الله ثباتًا وهدى، وقوّى قلوبهم لاتباع الحق بين قومهم المشركين الذين حادوا عن سبيل الحق فعبدوا غير الله -تعالى- من غير برهان فجاؤوا بأعظم فرية. قال -تعالى-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) [الكهف:13-15].
عباد الله: إن هؤلاء الشباب الصالحين عندما عرفوا الحق لم يترددوا في قبوله والتضحية في سبيله؛ فقد فارقوا الأهلَ والجيران والمحبوبات والوطن فاعتزلوا فراراً بدين الله -تعالى-، كما فعل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخلّفين وراءهم علائق دنياهم ليفوزوا بدينهم، وهذا فيه رسالة للناس وخاصة للشباب؛ لأنهم أصحاب أذهان صافية، فهم أسرع لقبول الحق، هذه الرسالة مضمونها: أن الدنيا بجميع ملذاتها ومتعلقاتها إذا كانت تقف عائقًا أمام الحق فإنها تترك وتهجر، ويُنتقل عنها إلى المكان الذي يسهل لزوم الحق فيه والعمل به. قال -تعالى-: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:100].
أيها الأحبة الكرام: إن البيئة الفاسدة عقديًا وعمليًا وخُلقيًا تؤثّر على الإنسان الصالح مع مرور الزمن، فهؤلاء الشباب كانوا يستطيعون أن يخفوا إيمانهم بين قومهم ويعبدوا الله في السر، لكنهم خافوا إن استمروا بين قومهم وهم يرون تلك المنكرات؛ فلذلك لجؤوا إلى العزلة التي وجدوا فيها صلاحَ الدين والدنيا. قال -تعالى-: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا) [الكهف:16]، فوصلوا إلى الكهف، فضرب الله -تعالى- عليهم النوم الطويل فناموا، فحفظ الله أجسامهم من البلى فلم تأكلها الأرض خلال تلك المدة الطويلة.
وكان من إكرام الله لهم أن الشمس إذا طلعت من المشرق تميل عن مكانهم إلى جهة اليمين، وإذا غربت تتركهم إلى جهة اليسار، فلا تؤذيهم حرارة الشمس ولا ينقطع عنهم الهواء. قال -تعالى-: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) [الكهف:17-18].
أيها المسلمون: إن المسلم إذا كان من الأتقياء الصالحين الذين آثروا الآخرة على الدنيا، وقدموا مرضاة الله على شهوات أنفسهم؛ فإن الله يرعاهم ويحوطهم بعنايته وحفظه، ويدفع عنهم السوء بقدر ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح. قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38].
ويجعل من أحوالهم عبرة للمعتبرين يتعظون بها، وتسلك بالاقتداء بهم طريق الحق أحياء وأمواتًا؛ وهذا يربي المسلم على أن القيام بالحق باطنًا وظاهراً يرفع شأن صاحبه، ويصبح له درعًا حصينة تدفع عنه الضر (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى:36].
عباد الله: وكما أن الله جعل بهم آية حينما أنامهم تلك المدة الطويلة حافظًا لهم، أيقظهم بعد ذلك دون تغير، فجعل بعضهم يسأل بعضًا عن المدة التي ناموها، فقال بعضهم: نمنا يومًا أو بعض يوم، وبعضهم فوّض الأمر إلى الله -تعالى-، وانشغلوا بما هو أهم لهم من معرفة الزمن الذي لبثوه وهو البحث عن الطعام، فأرسلوا واحداً منهم إلى السوق ليشتري لهم طعامًا، وكانت لديهم عُملة من الفضة، وحذروا صاحبهم من أي عمل يعمله يكون سببًا لكشف أمرهم؛ لأن أهل المدينة لو اطلّعوا عليهم فإنهم إما أن يقتلوهم وإما أن يردوهم إلى الكفر بالله -تعالى-، وهم لا يدرون أن أهل جيلهم قد مات وجاء جيل آخر عقبهم!.
قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف:19-20].
عباد الله: إن هاتين الآيتين تشيران إلى أن على الإنسان أن لا يشغل بالَه بالأشياء التي لا تُعلم أو التي لا فائدة من معرفتها، بل عليه أن يشغل نفسه بما ينفعه من أمر دينه ودنياه. وأن على المسلم أن يتحرى الحلالَ الطيب فيأخذه ويترك الحرام الخبيث فيجتنبه. وأن عليه أن يكون حذراً من الأمور المكروهة، ويتخذ الوسائل المناسبة لحمايته منها، وأن لا يتمنى لقاء الفتن، ويسأل الله العافية منها؛ فإنها لو أصابته في دينه فاستجاب لها فقد يموت عليها ويخسر بذلك خسرانً مبينا.
أيها المسلمون: فلما كشف البائعُ أمرَ الدراهم بدأ خبر الفتية ينتشر في المدينة، ولعل أهل تلك المدينة قد تناقلوا الخبر عمن قبلهم بأن فتية تركوا المدينة في ذلك الزمن.
وكان أهل المدينة وقت إيقاظ هؤلاء الفتية مؤمنين، فكان في ذلك عبرة وآية على إمكان البعث، وتقوية لإيمان أهل المدينة بيوم القيامة؛ لوجود المنكرين والمشككين في زمانهم، فكانت هذه الحادثة رداً على المنكرين، وتقوية لإيمان المؤمنين.
فلما رآهم أهل المدينة واطلّعوا على قصتهم أمات الله هؤلاء الفتية؛ لتمام حصول العبرة، فاختلف الناس المؤمنون: ماذا يفعلون بهم؟ فقال بعضهم: نبني عليهم بنيانًا يمنع الناس من الاقتراب منهم؛ خشية أن يؤذوا أجسادهم، لكن أهل الكلمة والسلطان فيهم قالوا: نبني على مكانهم مسجداً للعبادة؛ إكرامًا لهم، وتعهداً لهم.
وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى، لكن في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- جاء النهي عن ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" رواه مسلم.
قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) [الكهف:21].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها المسلمون، لما شاعت قصة أهل الكهف صارت حديثَ النوادي والألسنة في ذلك الزمان وبعده، حتى اختلف أهل الكتاب في عدد هؤلاء الفتية على ثلاثة أقوال، حكم القرآن على اثنين منها بالإبطال؛ لأنها كانت قائمة على الظن والحدس، ولم يتعقب القولَ الثالث منها ليدل على صحته. فالقول الأول أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، والقول الثاني أنهم خمسة سادسهم كلبهم، والقول الثالث أنهم سبعة ثامنهم كلبهم، وهذا هو الصحيح.
لكن الله -تعالى- نهى رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن مجادلة أهل الكتاب واستفتائهم في شأنهم؛ لأنهم لا علم لهم بذلك على وجه الحقيقة، ولأنه لا عبرة من معرفة العدد، إنما العبرة بحصول الحدث.
قال -تعالى-: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:22].
عباد الله: ذكر الإمام الطبري في تفسيره أن المشركين لما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختبرين له -كما علمهم أهل الكتاب- عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وَعَدَهُم -صلى الله عليه وسلم- بالإجابة عن سؤالهم الغد، ولم يقل: إن شاء الله، فلم يأته جبريل إلا بعد خمسة عشر يومًا، وقيل غير ذلك، وأنزل الله -تعالى-: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) [الكهف:24].
وهذا يعلمنا قول: [إن شاء الله] عند إرادة الفعل في المستقبل، وأن نذكر الله عند النسيان؛ لأن ذكر الله يذكّر الإنسان ما نسي.
ثم أخبر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالمدة التي بقي فيها أهل الكهف نيامًا في كهفهم أنها ثلاثمائة سنة بالتاريخ الشمسي الذي كان عليه أصحاب الكهف وهو تاريخ الروم النصارى، وبالتاريخ القمري -وهو تاريخ العرب والمسلمين- ثلاثمائة وتسع سنين، وذلك أن الفرق بين التاريخ الشمسي والقمري سنة قمرية زائدة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسية، ففي ثلاثمائة سنة شمسية تسع سنوات قمرية، قال -تعالى-: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف:25].
أيها الأحبة الكرام: ثم ختم الله -تعالى- القصة بدرس عظيم وهو أن على الإنسان إذا سئل عن شيء لا يعلم الجواب عنه أن يكل أمره إلى الله -تعالى-، وبهذا أمر الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي نهاية القصة أشار -سبحانه وتعالى- إلى سعة سمعه وبصره وإحاطته بخلقه، وأنه لا وليَّ للخلق من دون الله -تعالى-، وأنه المتفرد في حكمه بين عباده من غير شريك. قال -تعالى-: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف:26].
فيا أيها المسلمون: ينبغي لنا أن نستحضر هذه المعاني عند قراءة هذه القصة يوم الجمعة وفي غير الجمعة؛ لكي نستفيد علمًا وعملا.
نسأل الله -تعالى- أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا.
هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد...
التعليقات