عناصر الخطبة
1/الابتلاء سنة كونية 2/تنوع الفتن وكثرة الابتلاءات 3/فتنة الابتلاء والتمحيص 4/صور من امتحان الصابرين 5/من وسائل الوقاية والنجاة من الفتن.اقتباس
إن المسلم في هذا الزمن محاصَر بسيل جارف من الفتن تتطلب منه الصبر والثبات، فكم في الطريق من مزالق! وكم فيها من متساقط!، المؤمن محتاج إلى الصبر في مواجهة فتن الدنيا وشهواتها، وفي مواجهة مكائد الأعداء، وفي مواجهة الإغراءات بالمناصب والأموال، وفي مواجهة طوفان الشبهات الجارف الذي يشوش على الناس ثباتهم....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي الهدى ورسول السَّلام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليماً.
أما بعد: فإني مبلّغك ونفسي وصية من الله أن نتقي الله، فلنأخذها بقوة، ولنأمر قومنا يأخذوا بها، والله مع المتقين.
سُنَّة من سُنَن الله تتكرَّر في كل حين، وتتنوع أشكالها وتتفاوت في قوتها وتأثيرها.. لكنها كلها غايتها واحدة (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[الأنفال:37]، و(فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت:3].
سُنَّة نطق بها الكتاب العزيز مستنكرًا على مَن استنكرها (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت:2].
الدنيا بما فيها من شهوات وأهواء، الممات والحشر والنشر وأهوال الآخرة، التسلط والقتال والحرب، الغرور والإعجاب بالنفس، قلب الحقائق واختلال الموازين، الابتلاء بالسراء والضراء، الخلاف والفُرْقَة، التعصُّب والهوى، تلك سهام من الفتن وشرور من المِحَن تحاصر المسلم في هذا الزمن، والفتن في هذا الزمن قد انعقد لواؤها واشتد أوارها.
هناك فتنة الأهل والأَحبّاء، (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[التغابن:15]، وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين.. فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة وهي مع ذلك راقية في مجتمعها متحضرة في حياتها، ويجدها غنية قوية وهي مشاقة لله.
وهنالك الفتنة الكبرى أكبر من هذا كله وأعنف، فتنة النفس والشهوة. إنها فتن تنوعت، ولكنها كلها تدع الحليم حيراناً، وتعدمه إفصاحاً وبياناً. إن هذه الفتن التي أطلت بأعناقها إنما هي محض ابتلاء من الله (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا)[آل عمران: 141]، و(وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[العنكبوت:11].
ومع شدة هذه الفتن وعظم آثارها فثمت فتنة يعظم خطرها ويغفل الكثيرون عنها.. إنها فتنة سهولة المعصية وقربها وضعف الرادع عنها، وشدة الصوارف عن الطاعة وقلة المعين عليها.. إنها فتنة الابتلاء والتمحيص.
أخبر ربنا أنه حرم الصيد على المحرمين، وفي عمرة الحديبية يكثر حولهم الصيد ويسهل صيده بأيديهم ورماحهم فيدخلون دائرة الابتلاء والتمحيص ليعلم الله من يخافه بالغيب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[المائدة:94].
إنها رسالة من الله لعباده تعلن لهم أنه يوم أن تتيسر سبل الذنوب، وتضعف الدوافع للعبادة فإنكم أمام ابتلاء وامتحان ينكشف فيه مَن يعبد الله في كل ظرف ومَن يعبده على حرف .. ويتبين فيه الذين صدقوا وينكشف الكاذبون.
حينما تتيسر المعصية حتى تكون بين يديك وحينما تسهل لك ذنوب الخلوات؛ فاعلم أنك في دائرة الابتلاء والتمحيص ليعلم الله من يخافه بالغيب.
كل الأوضاع التي اختلفت.. كل الفتن التي ظهرت، وكل الضغوطات بل والمخاطر التي تمرُّ بك اليوم، خلفها حكمةٌ من حِكَم الله.. (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[الأنفال:37]، انظر حولك وسترى حتمًا كم من الرفقاء قد سقطوا.. ولم يبقَ من التزامهم إلا الذكرى. لا ينثني عزمك.. هذا امتحانٌ عظيمٌ لإيمانك. إنها فتنة التمحيص.
حينما تتخلف عن إجابة نداء الله لأن الصوت الذي يوقظك قد اختفى وفقدت ما يوقظك ومن يوقظك؛ فاعلم أنك في دائرة الابتلاء.. أتبقى محافظًا على الصلاة أم تعتذر وتستسلم للصوارف.. إنها فتنة التمحيص ليعلم الله الصادقين ويعلم الكاذبين.
عندما تكثر مظاهر التبرج والسفور، وتطل فتن النساء بأعناقها فأنت في دائرة الابتلاء.. أتصبر وتغضّ بصرك وتتقي الله أم تطلق لبصرك العنان بحجة كثرة المغريات.. (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)[الفرقان:20].
عندما تعف نفسك يا مسلم، وتعفين يا مسلمة عن العشق المحرم ترون من حولكم ومن هم في بيئتكم وأعماركم غارقون في العلاقات المحرمة بعد أن كان هذا الأمر نادرًا سابقًا .. أتحفظون أنفسكم أم تتنازلون وتخوضون مع الخائضين؟ إنّها فتنة التمحيص.
عندما تكون وحدك وليس بينك وبين فتن الشهوات إلا لمسات أصابعك على شاشة هاتفك بعد أن كان من الصعب الوصول إليها سابقًا.. أتخشى الله؟ أم تجعله أهون الناظرين إليك؟ إنّها فتنة التمحيص.
عندما تسمع النداء للصلاة تترك البيع والشراء وتجيب نداء الله لتكون من (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور:37]، فيكون جزاؤهم (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)[النور:38].
وترى حولك قومًا يؤثرون الحياة الدنيا ويحبون العاجلة (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)[الإنسان:27]؛ فاعلم حينها أنك في ابتلاء وامتحان ليعلم الله الصادقين في إيمانهم وليميز المحبين له والمعظِّمين لشعائره وأولئك الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها.. إنها فتنة التمحيص.
عندما ترى قومًا يقفون صفوفًا ليشتروا ذنوبهم بحر أموالهم، وترى آخرين يتركون أهليهم ونساءهم في مواطن الشبهات ومعاطن الشبهات، وأنت تمارس قوامتك وتقي أهلك نار الفتن وجحيم الآخرة فأنت تعيش في دائرة الابتلاء ليعلم الله من يخافه بالغيب، ويبلو أخباركم.. إنها فتنة التمحيص.
عندما تذهبين أختي المسلمة لشراء عباءة فلا تجدين إلا المخصّرة منها والملونة ولا تجدين من اللباس إلا الضيّق والعاري بعد أن كان اللباس المحتشم هو الغالب والسائد في مجتمعنا.. فهل يا ترى أتحافظين على حشمتك أم تتنازلين تحت ضغط الواقع؟ إنّها فتنة التمحيص.
في دول مسلمة تدرس الفتاة سنين طويلة لتبحث بعدها عن وظيفة فلا تجد إلا ما يصادم حياءها وحشمتها ويتعارض مع خصوصيتها وهنا يكون الابتلاء والامتحان: أتكون ممن يؤثر الله على ما سواه، أم تكون ممن اتخذ إلهه هواه؟ أتكون ممن يبيع حياءه بعرض من الدنيا أنم يكون شعارها:
أصون ديني بمالي لا أضيعه *** لا بارك الله بعد الدين بالمال
إنها فتنة التمحيص ليعلم الله من يخافه بالغيب.
عندما ترى المسلمة الخائفة الوجلة نساء مسلمات يتهافتن على كشف الوجوه اتباعًا لشهوة أو تأثرًا بشبهة فهنا يكون الابتلاء.. أتثبت على حجابها متبعة هدي أسلافها مؤثرة ما يُرضي ربها أم تضعف وتنجرف لتفتن وتُفتن.. إنها فتنة التمحيص ليبلو الله أخباركم ويمتحن قلوبكم للتقوى.
إنها فتنة التمحيص يا عباد الله: أتصبرون.. أتثبتون.. أم تبدلون وتنكصون، فاثبتوا يا عباد الله واصبروا (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[آل عمران:186].
إنّه امتحان للصابرين فيه أجر خمسين من الصحابة. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من ورائكم أيام الصبر، الصبرُ فيهن كقبضٍ على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين". قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم أو خمسين منا؟ قال: "خمسين منكم".
فاللهم إنا نسألك الثبات حتى نلقاك، ونعوذ بك أن نَضِل أن نُضَل أو نفتن أو نُفتن.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر".
إن المسلم في هذا الزمن محاصَر بسيل جارف من الفتن تتطلب منه الصبر والثبات، فكم في الطريق من مزالق! وكم فيها من متساقط!، المؤمن محتاج إلى الصبر في مواجهة فتن الدنيا وشهواتها، وفي مواجهة مكائد الأعداء، وفي مواجهة الإغراءات بالمناصب والأموال، وفي مواجهة طوفان الشبهات الجارف الذي يشوش على الناس ثباتهم (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10].
وفتنة التمحيص كأي فتنة ليس لها من دون الله كاشفة، ومن هنا تشتد الحاجة عند الفتن إلى اللجوء إلى الله -تعالى- عبادةً ودعاءً وتوكلاً وإنابةً، وابتهالاً بين يديه -تعالى- أن ينقذ النفوس منها وينجيها من شرها.
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بقوة الله -تعالى- يستمد منها العون وكان -صلى الله عليه وسلم- "إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"، والعبادة في الإسلام زاد الطريق ومدد الروح وجلاء القلب. ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة، وفي الحديث: "العبادة في الهرج -أي: أيام الفتن- كهجرة إليَّ".
فما أحوجنا إلى الالتجاء إلى الله والتلذذ بطاعته بدلاً من الخوض مع الخائضين!! ما أحوجنا ونحن أمام فتنة الابتلاء والتمحيص إلى ربط القلوب بالله والفرار من الله إلى الله.
ما أحوجنا إلى تقوية الجانب العبادي والبعد عن المتشابه "فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه"، وكل أمر لا تحب أن تلقى الله عليه فاتركه ثم لا يضرك متى أدركك الموت (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
التعليقات