عناصر الخطبة
1/القصص جنود وعبر 2/غضب نبي الله يونس لمعاداة قومه لله وتركه لهم 3/فساهم فكان من المدحضين 4/التقام الحوت له وتنجية الله له 5/دروس وعبر من قصة نبي الله يونساقتباس
ساق الله له حوتاً عظيماً فالتقمه، وأمر الله -تعالى- الحوت أن لا يأكل له لحماً، ولا يهشمَ له عظماً؛ فليس لك برزق، ولا طعام! فلبث في بطنه ما شاء أن يلبث! وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه. قيل: بعض يوم، وقال قتادة: مكث فيه ثلاثاً. وقيل: بل مكث في جوفه أربعين يوماً، والله أعلم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: فلقد صدق الله؛ ومن أحسن من الله قيلا! (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف:111]! أجل -أيها الإخوة- في قصصهم؛ في قصص أنبياء الله صفوة الخلق عبرة لأولي الألباب -أصحاب العقول- عبرة في أخبارهم التي ظهر فيها تأييد الله لهم وثناؤه عليهم. وفي أخبارهم التي استدركها الله عليهم وعتب فيها عليهم حينما غلبت عليهم الصفة البشرية؛ ليبرُز موقف لم يوافقوا عليه. ومع ذلك سجله القرآن؛ ليقف القارئ على الخطأ وتصويبه وفي كلٍ درس وعظة (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف:176] (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود:120].
القصص جند من جنود الله يثبت الله به القلوب، ويدفع عنها السآمة والكروب؛ فتستجم لتواصل سيرها إلى الله، وتستجد نشاطها، وتعرف أن الحياة جُبلت على تقلبات؛ فتدفع مرها بحلوها، وعسرها بانتظار يسرها (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح:5]، "وإن النصر مع الصبر" والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا". والاختلاف الكثير لا يزال الإنسان يشهده يشتد بروزه حينا، ويخف حيناً آخر إلا أن المؤمن على بينة من ربه يلهج: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)[آل عمران:8].
أيها الإخوة: لنا تأملات ووقفات مختصرة حول نبي ذكره الله باسمه ست مرات، وفي مرة سابعة وصف بأنه ذو النون، وفي ثامنة قال عنه: صاحب الحوت؛ إنه يونس بن متى أحد أنبياء الله من ذرية إبراهيم -عليه السلام-.
بعثه الله إلى قومه -وعادة الظالمين أن يعادوا المرسلين-؛ فلم يتحمل أن يرى قوماً يعادون خالقهم، ويختارون غير طريق ربهم؛ فاشتدت غيرته أن رأى قوماً معرضين وعلى حرمات الله مجترئين.
ورحم الله يونس بن متى غاضب قومه، وأبق منهم وولى هارباً عنهم، وظن أنه بلغ معذرة عند ربه وأدى ما عليه، وأنه في حل من رسالة ربه.
قال الله -تعالى-: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)[الأنبياء:87]؛ أي: لن نضيق عليه بسبب خروجه منهم وعدم صبره عليهم. وهنا بدأ الابتلاء، وسجل الموقف ليحفظ؛ ليجتنب ويحذر أن يتكرر من أحد آخر، فصاحبه غير معذور (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)[القلم:48].
وأعظم به من درس؛ فأفعال الأفاضل قد يكون منها ما ليس بفاضل، ولكن لا يلغي فضله ولا يجوز أن تطوى بسببه مناقبه، وتمحى سيرته.
ألم يقل الله في أبينا آدم: (وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[طه:121] ما أعظمها من أوصاف! عصيان وغواية.
الله أكبر: عصيان وغواية ممن خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته. ولكن العارف بربه الذي يدرك حقيقة الاختبار، وعظم الابتلاء إن كان قد أساء في الخروج فهو بتوفيق الله يحسن العودة والولوج (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)[طه:122].
فيونس خرج من قومه ولكن إلى أين!؟
قال الله -تعالى-: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)[الصافات:140] سفينة في البحر، والبر والبحر وما تحتهما وما فوقهما كله فملك لله، ومسخر بأمره (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ)[الجاثية:12]، (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ)[الجاثية:22]، (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)[البقرة:284]
ركب يونس -عليه السلام- الفلك فشقت طريقها في عرض البحر؛ فالماء من تحتهم والسماء من فوقهم، ومدبر الأكوان مطلع عليهم، لجت بهم ثم اضطربت وماجت بهم، قال أهل التفسير: ثقلت بما فيها وكادوا يغرقون، فتشاوروا فيما بينهم ماذا يفعلون؟
واستقر قرارهم على أن يقترعوا؛ فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتخففوا بإلقائه!، ويهلك البعض لينجو الجميع! ما أصعبها من قرعة! نتيجتها أن يهلك من خرجت عليه القرعة!
فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس، فلم تطب نفوسهم ولم ينقادوا للنتيجة، فأعادوا القرعة ثانية، فوقعت عليه أيضاً، فشمر ليخلع ثيابه ويلقى بنفسه فأبوا عليه ذلك، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضاً؛ لما يريده الله به من الأمر العظيم، قال الله -تعالى-: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)[الصافات:141] وقعت عليه القرعة فألقي في البحر.
موت محقق!؛ فمن الذي يحفظه من بحر هائج؟!
استمع: ساق الله له حوتاً عظيماً فالتقمه، وأمر الله -تعالى- الحوت أن لا يأكل له لحماً، ولا يهشمَ له عظماً؛ فليس لك برزق، ولا طعام! فلبث في بطنه ما شاء أن يلبث! وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه. قيل: بعض يوم، وقال قتادة: مكث فيه ثلاثاً. وقيل: بل مكث في جوفه أربعين يوماً، والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه؟.
الله أكبر! أين نبي الله يونس -عليه السلام-؟ في جوف بطن حوت في وسط ظلمات بحر!، غاب عن قومه الذين لم يصبر عليهم بل غاب عن الدنيا كلها، ولكنه لم يغب عن الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضُّر والبلوى، سامع الأصوات وإن ضعفت، وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات ومفرج الكربات (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النمل: 62].
في تلك الساعة العصيبة والوحشة المريبة نادى يونس ربه.
وإليك تصوير القرآن هذه اللحظات الحاسمة قال الله -تعالى-: (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)[القلم:48] مهتم مغموم. (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ)[الأنبياء:87] ظلمة الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر. سمع الله نداءه وهو غير خاف عليه مكانُه ولا حاله. سمع نداء الافتقار وتنزيه الباري الغفار، والاعتراف بالظلم (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:87].
تم الابتلاء وتبين صدق اللجأ فجاء غوث الله من فوق السماء (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين)[الأنبياء:88]، فأدركته رحمة الله.
والحوت الذي التقمه بأمرالله ها هو يخرجه من بطنه بأمر الله (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)[الصافات:145] مريض متعب، (فَنَبَذْنَاه)؛ أي: ألقيناه، قال ابن مسعود: "كهيئة الفرخ ليس عليه ريش". (بِالْعَرَاء) وهو المكان القفر؛ الذي ليس فيه شيء من الأشجار بل هو عار من كل سبب للحياة.
ولكن الله استبقى حياته، قال -تعالى-: (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ)[الصافات:146] قال ابن عباس وغير واحد: "هو القرع"؛ لما فيه من القيمة الغذائية، والألطاف الدوائية. فرد الله عليه عافيته، وفتح على قومه ورفع عنهم العذاب.
قال الله -تعالى- في سورة يونس: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)[يونس:98].
فالحمد لله أولا وآخر..
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
من أعظم عظات قصة يونس مع قومه: أنها سلوة للذين تضيق صدورهم بالمعرضين عن دين الله والمتخاذلين عن التمسك به، والمفرطين في حدوده! فسنة الله في خلقة أن تبقى طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الزُّخرف:43].
وقد حفظ لنا التاريخ أناساً بدلوا نعمة الله كفراً! حفظ التاريخ أول شرك وقع في الأرض وأول من جلب الأصنام لمكة، ولم يعكر هذا على صفاء التوحيد، وتعظيم الرب المجيد!
وحفظ لنا التاريخ أول فتنة لبني إسرائيل وأنها كانت في النساء.
وفي العصور المتأخر حفظ لنا التاريخ أيضاً أول من دعا إلى نزع الحجاب وألزم بخلقه، ودعا للاختلاط، وأول من سن القوانين الوضعية، واحتفى بالحياة على الطريقة الغربية في التعليم والإعلام.. كل هذا محفوظ وحفظ الله أعظم (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)[المجادلة:6].
ولم يعكر هذا على العفة لمن لم يتنازل عنها، ولم يلغ الغيرة والتميز للحياة المسلمة لمن تمسك بالعروة الوثقى!
وتجاه هذا كله -ولما هو أعظم منه- أعطى الله التوجيه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ)[الكهف:6]؛ أي: مهلكها أسفاً حينما ترى الإعراض وعدم الإذعان والتسليم (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[الشعراء:3]، (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ)[محمد: 4] ؛ فالدين دين الله من قام به نصر، ومن حققه ظهر (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)[الصف:14] ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ولا يضر الله شيئا.
من عظات قصة يونس: بيان قرب الله لمن عرفه في الرخاء فلن يتخلى عنه في الشدة والضراء؛ فهذا يونس كان من المسبحين؛ أي: الطائعين في زمن الرخاء، فكان ذلك سبباً في خلاصه ونجاته من ورطته (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصافات:143-144] احفظ الله يحفظك.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طرق متعددة أنه قال: "دعوة أخي ذي النون إذا دعاه وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له" (إسناده صحيح أو حسن).
التعليقات