عناصر الخطبة
1/ أوجه الشبه بين المطر والوحي 2/ أصناف الناس في الاستفادة من الوحي 3/ الاعتصام بالكتاب والسنة والحذر من البدعاهداف الخطبة
اقتباس
إن المتأمل إلى الأرض بعد نزول الغيث عليها لا يجدها نوعًا واحدا في استفادتها من المطر، ونزوله عليها، بل يجد أنها أصنافا متنوعة، وإذا كانت الأرض في استفادتها من المطر أصنافًا وأنواعا؛ فإن الناس أيضا في استفادتهم من الوحي أصنافٌ وأنواع، ولمزيد فهمٍ في هذا المعنى العظيم لنتأمل...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أيها المؤمنون: بين المطر الذي هو غياث الأبدان، والوحي الذي هو غياث القلوب؛ وجه شبَهٍ لطيف يعين المتأمل والمتدبر على الاتعاظ والادّكار؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد: 16 - 17].
نعم -عباد الله- عندما ترى الأرض مجدبةً لا نبات فيها ولا عشب ولا كلأ فيها ولا مرعى ثم يغيثها الله -سبحانه وتعالى- بالماء فتهتز وتنبت من كل زوج بهيج، فترى أنها بهذا الماء أُغيثت من جدبها وقحطها وجفافها؛ وهكذا الشأن -أيها العباد- في قلوب الناس؛ فإن حاجتها إلى وحي الله والعلم الذي بُعث رسوله ومصطفاه -صلى الله عليه وسلم- كحاجة الأرض المجدبة تمامًا إلى الغيث الذي به حياتها، وكما أن الأرض لا تحيا إلا بالماء فإن القلوب لا تحيا إلا بوحي الله وتنزيله.
أيها المؤمنون: وإذا كان الوحي للقلوب كالغيث للأرض فما حال الناس مع هذا الوحي؟ وما نصيبهم منه؟ وما مقدار استفادتهم من نزوله؟ إذا أردت أن تعرف ذلك فانظر -رعاك الله- نظرةً متأملةً في الأرض عندما ينزل عليها الغيث كيف تراها.
إن المتأمل -أيها العباد- إلى الأرض بعد نزول الغيث عليها لا يجدها نوعًا واحدا في استفادتها من المطر ونزوله عليها، بل يجد أنها أصنافا متنوعة، وإذا كانت الأرض في استفادتها من المطر أصنافًا وأنواعا فإن الناس أيضا في استفادتهم من الوحي أصنافٌ وأنواع، ولمزيد فهمٍ في هذا المعنى العظيم لنتأمل -رعاكم الله- حديثا مخرجًا في الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه- أنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
والله ما أعظمه من مثل، وما أحوجنا -أيها العباد- إلى أن نحسِن في تأمله، ولينظر العبد في حاله في ضوء هذا المثل البديع الذي ربطنا فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- من أجل أن نفهم الأمر فهمًا جليا بأمرٍ نراه بأعيننا ونشاهده بأبصارنا حينما ينزل المطر على الأرض من حولنا، كيف أن الأرض على إثره أقسام؛ فالناس كذلك مع وحي الله المنزَّل أقسام.
نعم -عباد الله- شأنهم مع وحي الله كشأن الأرض تمامًا مع المطر.
أيها المؤمنون: فمن العباد من وفقهم الله -عز وجل- للعناية بهذا الوحي فهمًا وضبطًا وتأملًا واستنباطا، فجمعوا بين الرواية والدراية، جمعوا بين حفظ كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحُسن الفهم له، والتدبر لمعانيه، واستنباط الأحكام منه، وهؤلاء أهل الرسوخ في العلم، وحسن الدراية بدين الله -جل في علاه-.
وقسمٌ آخر أكرمهم الله -عز وجل- فأوْلَوا هذا الوحي كتابًا وسنَّة عناية عظيمة؛ فاعتنوا بحفظه، وأمضوا الأوقات الكثيرة في استذكاره وضبطه، لكنهم لم يؤتَوا كالأولين فهمًا ثاقبا ورسوخًا في العلم، وحُسن الاستنباط من كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنهم على خيرٍ عظيم وتوفيق كبير منَّ الله عليهم به، ولهم نصيب من قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "نَضَّرَ اللَّهُ عبدا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا فَبَلَّغَهَا إِلَى مَنْ هُوَ أَوْعَى مِنْهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ".
والقسمان الأولان كلاهما سعيد.
وأما القسم الآخر فهو محروم من هذا الخير؛ فهو كالأرض القيعان التي لا تمسك الماء فيُنتفع به ولا تنبت الكلأ فتنتفع بالماء؛ فهذا حال من لم يرفع بالوحي رأسا ولم يوليه أيَّ اهتمام؛ تمضي أيامه وتضيع أوقاته في حياته دون أن يكون له نصيب من وحي الله لا علما ولا عملا؛ فهؤلاء هم الأخسرون -عياذًا بالله-.
أيها المؤمنون: نسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن يغيث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-.
أيها المؤمنون: لقد كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- في خطابته الجامعة، وموعظته النافعة؛ يكرر على مسامع الناس: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"؛ يكرر ذلك صلوات الله وسلامه عليه على المسامع ليعِيَ الناس هذه الحقيقة أن سعادتهم إنما هي بوحي الله -عز وجل- استمساكًا به، ومحافظةً عليه، ورعايةً له، وأن الخطر كل الخطر في مجانبة ذلك، والبُعد عنه، وركوب البدع المحدثات والأهواء المخترعات التي تُضل الناس، وتجنح بهم عن سواء السبيل.
ولهذا -عباد الله- واجبٌ على كل مسلم أن يلزِم نفسه بالاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يكون مجانبًا للبدع بكل أشكالها وكافة صورها حتى وإن كان الغرض منها غرضًا حسنا، فإن حُسن القصد لا يشفع للعبد في صلاح العمل، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
واعلموا -رعاكم الله- أن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيدا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك، وسدِّده في أقواله وأعماله يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعنَّا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين لك مطيعين.
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدِّد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].
التعليقات