عناصر الخطبة
1/ أهمية الاعتبار بدروس السيرة النبوية 2/ أسباب غزوة حنين 3/ أحداث الغزوة 4/ تأملات في أسباب الهزيمة المفاجئة 5/ أهمية القيادة الواعية في الغزوة 6/ أبرز الدروس والعبر المستفادة من غزوة حنين.اهداف الخطبة
اقتباس
ولعل سبب الإخفاق قبلاً في جيش المسلمين وجود جمع غير قليل من الطلقاء الذين لم تعركهم الأيام بالشدائد، ولم يذوقوا من التعذيب والصد والامتراء ما لاقاه الأوائل من المهاجرين والأنصار، ولم تحمل نفوسهم ثقة يوم بدر، ويقين يوم الأحزاب، وعزيمة يوم الفتح، حتى يكون ذلك عوناً على رباطة جأشهم في يوم الكريهة الشديد.. وتحوُّل الموازنة لصالح المسلمين لم يكن إلا عن تأييد من الله تعالى بعد أن أراهم عاقبة النظر إلى الكثرة وماديات الأسباب وإغفال جانب التوكل والتضرع والالتجاء إلى الله...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين جعل الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللصحابة الكرام العظة والعبرة في قصص الأولين وفي سير الأولين (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ) وجعل الله لنا أيضا هذه العبرة والعظة وكذلك العبرة والعظة من قصص النبي -صلى الله عليه وسلم- والأحداث التي لقاها مع قومه يوم أن كان يدعوه إلى الله .
فلنا في ذلك الأسوة والعبرة والعظة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) [يوسف: 111]، نعم أيها المسلمون نأخذ بعض العظات والعبر من غزوة حنين لما يحتاجه الناس في أمر معاشهم ومعادهم فإن الله –عز وجل- ما أنزل القرآن إلا ليعمل به وإلا ليهتدى به، وهكذا السنة النبوية جعلها منار هداية للناس وسيرة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها من العظات والعبر ما لا يحصى، وكلما اتسع علم الإنسان ازداد استنباطه من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكم والأحكام والمسائل.
فقد من الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالفتح المبين لأم القرى مكة المكرمة، وكان فتحها أمراً عظيماً أسر ألباب الناس، واستمال أفئدة القبائل، ونشده سائر العرب، وأرعب قريشاً ومن حولها، حتى استسلم كثير من العرب ودخلوا في الإسلام جماعات وأفرادًا، غير أن هوازن تولت كبرها، واستحبت كفرها، وتبعتها في ذلك مضر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال اتباعاً أعمى، ورأت في نفسها منعة وعزة تجعلها تأنف الخضوع والانقياد، فاجتمعت إلى مالك بن عوف النصري، وقررت المسير إلى حرب المسلمين. في حرب تاريخية سميت بغزوة حنين.
ولما أجمع القائد العام مالك بن عوف المسير إلى حرب المسلمين، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوطاس، -وهو وادٍ في دار هوازن بالقرب من حنين، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين-، وحنين وادٍ إلى جنب ذي المجاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات.
وكان فيهم دريد بن الصمة وهو يومئذ ابن ستين ومائة، وقد عمي، ليس فيه شيء إلا التيمُّن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخاً مجرباً قد ذُكر بالشجاعة والفروسية وله عشرون سنة، فلما عزمت هوازن على حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألته الرياسة عليها فقال: "وما ذاك وقد عمي بصري، وما استمسك على ظهر الفرس، ولكن أحضر معكم لأن أشير عليكم برأيي على أن لا أخالَف، فإن كنتم تظنون أني أخالَف أقمت ولم أخرج، قالوا: لا نخالفك، وجاءه مالك بن عوف فقال له دريد: يا مالك إنك تقاتل رجلاً كريماً، قد أوطأ العرب، وخافته العجم ومن بالشام، وأجلى يهود الحجاز، إما قتلاً، وإما خروجاً على ذلٍّ وصغار، ويومك هذا الذي تلقى فيه محمدا له ما بعده، قال مالك: إني لأطمع أن ترى غدًا ما يسرك، قال دريد: منزلي حيث ترى، فإذا جمعتَ الناس صرتُ إليك".
فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الناس فخرجوا معهم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم ثم انتهى إلى أوطاس، فعسكر به، وجعلت الأمداد تأتي من كل جهة، وأقبل دريد بن الصمة فلمس الأرض بيده وقال: بأي وادٍ أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضَرسٌ، ولا سهلٌ دَهِسٌ، مالي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونُهَاق الحمير، وثغاء الشاء، وخوار البقر؟ قالوا: ساقَ مالكٌ مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فقال دريد: قد شرط لي ألا يخالفني فقد خالفني فانا أرجع إلى أهلي وتارك ما هنا.
قيل: أفتلقى مالكاً فتكلمه؟ فدعي له مالك، وسأله عما حمله على ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل إنسان أهله وماله يقاتل عنهم، فقال: راعي ضأنٍ والله، ما له وللحرب؟
وصفق دريد بإحدى يديه على الأخرى تعجبًا وقال: هل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة -بيضة هوازن- إلى نحور الخيل شيئاً، فارفع الأموال والنساء والذراري إلى علياء قومهم، وممتنع بلادهم، ثم القَ القومَ على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك، وقد أحرزت أهلك ومالك.
فقال مالك بن عوف: والله لا أفعل ولا أغير أمراً صنعته، إنك قد كبرت وكبر عقلك.
ثم قال: والله لتطيعني هوازن أو لأتكئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري -وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي- فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: والله - لئن عصينا مالكا ليقتلن نفسه وهو شاب، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال معه، فأجمعوا رأيكم مع مالك، فلما رأى دريد أنهم قد خالفوه قال:
يا ليتني فيها جذع *** أخب فيها وأضع
أقود وطْفاء الزمع *** كأنها شاة صدع
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد. وبعث عيوناً من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم قال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فو الله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
ولما سمع بهم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بعث إليهم عبدَ الله بن أبي حدرد الأسلمي -رضي الله عنه-، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم؛ حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر.
فلما أجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السير إلى هوازن، ذُكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه -وهو يومئذ مشرك- فقال: "يا أبا أمية أعِرْنا سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غداً"، فقال صفوان أغصباً يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك"، فقال ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح.
وبعد أن أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمكة تسعة عشر يوماً خرج إلى حنين لستٍ خلت من شوال، وقيل لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان، وسار سادس شوال، وكان وصوله إليها في عاشره، واستعمل عتاب بن أسيد بن أبي العيص أميراً على مكة.
وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة وألفين من أهل مكة، فلما فصل قال رجل من أصحابه لو لقينا بني شيبان ما بالينا، ولا يغلبنا اليوم أحد من قلة، فأنزل الله -عز وجل- في ذلك: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [سورة التوبة: 25].
ومن خلال الآية تظهر إشارة إلى ما مس المسلمين من ضيق وشدة حين لقاء العدو، فلقد باغت المشركون المسلمين وأمطرهم رماتهم من كل جانب، مما أدى إلى تزعزع الصف الإسلامي، وانهزام معظم الجيش، ولاذ أكثرهم بالفرار؛ طلباً للنجاة، في الوقت الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وعد بالغنيمة حينما رأى جيش هوازن، وسمع من خبرهم فقال: "تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".
ووصل المشركون إلى أرض المعركة قبل وصول المسلمين، فقام مالك بن عوف فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدوا شدة رجل واحد.
وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- جيشه، وعقد الألوية والرايات، وفرقها على الناس، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة.
وندع شاهد عيان يقص لنا ما وقع في تلك الغزوة كما رأى، إنه العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه- قال: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ -أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ- فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، -وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَكُفُّهَا؛ إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيْ عَبَّاسُ: نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ".
فَقَالَ عَبَّاسٌ -وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا-: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، -وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ: يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ".
قَالَ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: "انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ"، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا".
وهذا أمر مهول في عيون الكفار، ومعجزة عظيمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ جعل الله في يده من الأسلحة المادية ما لم يخطر ببال أحد من الفريقين، بل ولم يتوقع أحد أن يدخل في أعين الكافرين ما رُمي من ذلك الحصى حتى يولوا مدبرين.
ولعل سبب الإخفاق قبلاً في جيش المسلمين وجود جمع غير قليل من الطلقاء الذين لم تعركهم الأيام بالشدائد، ولم يذوقوا من التعذيب والصد والامتراء ما لاقاه الأوائل من المهاجرين والأنصار، ولم تحمل نفوسهم ثقة يوم بدر، ويقين يوم الأحزاب، وعزيمة يوم الفتح، حتى يكون ذلك عوناً على رباطة جأشهم في يوم الكريهة الشديد، وكذلك ما وجد من العُجْب وضعف التوكل حين الكثرة، ولمباغتة العدو لهم بالرمي اعتبار كبير.
وتحوُّل الموازنة لصالح المسلمين لم يكن إلا عن تأييد من الله تعالى بعد أن أراهم عاقبة النظر إلى الكثرة وماديات الأسباب وإغفال جانب التوكل والتضرع والالتجاء إلى الله فهو الناصر والمعين، ولذلك داول بينهم ليريهم، وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
ولعل من أسباب النصر بعد تأييد الله تعالى لجنده ما قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن انحاز ذات اليمين ثم قال: "إلى أين أيها الناس؟ هلمَّ إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله"، وبقي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفر من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن ابن أم أيمن، وقتل يومئذ.
فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- باستجاشة نفوس المهاجرين والأنصار وأصحاب الشجرة وبيعة الرضوان، مما جعل التفافهم حوله سريعاً واستماتتهم القوية، وكذا شجاعة القائد وما قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- من رمي الحصيات والتراب في وجوه الكفار فانحلت به قواهم ووهنت أفئدتهم، وتزعزت صفوفهم.
وأيضاً قد أعلن -عليه الصلاة والسلام- أن "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ"، فما كان من المجاهدين إلا أن يكروا على عدوهم كرَّة رجل واحد، وأنزل الله ملائكته مؤيدة مقاتلة مع المسلمين، وهذا ما بينه الله في كتابه حين قال: (ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) [سورة التوبة: 26].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وصلى الله على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفة إلى أوْطاس، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامر الأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري.
وطاردت طائفة أخرى من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع، وأما معظم فلول المشركين الذين لجؤوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- بنفسه بعد أن جمع الغنائم.
وهكذا كانت نهاية يوم حنين بنصر الله تعالى لنبيه الكريم وأصحابه الكرام وإعلاء كلمة التوحيد ورد الله الذين كفروا بغيضهم وعتوهم لمن ينالوا خيراً، بل سحقوا وهزموا شر هزيمة جزاء لما تكبروا وكفروا جزاءً وفاقاً.
وصلى الله وسلم على رسوله الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات