عناصر الخطبة
1/ الإعداد لغزوة تبوك 2/ دور المنافقين في تخذيل المؤمنين 3/ أحداث الغزوة 4/ من فوائدهااقتباس
وسنقف وإياكم -معشر الكرام- مع صفحة نبوية كانت أحداثها في شدة الحر. في رجبٍ من العام التاسع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، حيث بلغه أن الروم تجمعوا بالشام لحرب المسلمين، وكان الأمر بالتهيؤ زمن شدة الحر، وحين طابت الثمارُ والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب الأرض ورب السماء، جعل الدنيا دار عمل لا دار جزاء، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وقدوة الأتقياء، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله -سبحانه- فإنها نعم المُؤنس في القبور، ويوم الحشر والنشور، وعند الصراط والعبور، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
إخوة الإيمان: في الأجواء الحارة يعاني الناس، مع أن البيوت والمساجد والأسواق والسيارات مكيفة! وسنقف وإياكم -معشر الكرام- مع صفحة نبوية كانت أحداثها في شدة الحر.
في رجبٍ من العام التاسع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، حيث بلغه أن الروم تجمعوا بالشام لحرب المسلمين، وكان الأمر بالتهيؤ زمن شدة الحر، وحين طابت الثمارُ والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم.
وحث -عليه الصلاة والسلام- على البذل والإنفاق في سبيل الله، فتسابق الخيرون في هذا المضمار، فجاء عثمان -رضي الله عنه- بألف دينار فصبّها في حِجْر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم".
وتصدق عمر -رضي الله عنه- بنصف ماله، وتصدق أبو بكر بماله كله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمال كثير، وتصدق عثمان بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعُدّتها، وجاء غيرهم بمال كثير، وأرسلت النساء ما استطعن من حليهن، قال أبو مسعودٍ -رضي الله عنه-: "لما أُمِرنا بالصدقةِ كنا نُحامِلُ على ظهورِنا، فتصدقَ أبو عَقيلٍ بنصفِ صاعٍ، وجاء إنسانٌ بشيءٍ أكثرَ منه. فقال المنافقون: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صدقةِ هذا. وما فعل هذا الآخرُ إلا رياءً. فنزلت: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ)" رواه مسلم.
وهكذا، لا يسلم من شرهم غني ولا فقير! وبنى المنافقون مسجدا ليجتمعوا فيه ويديروا حلقات مؤامراتهم، وطلبوا من النبي -عليه الصلاة والسلام- الصلاة فيه، وزعموا أنهم بنوه للتوسعة على الضعفة ليكون أقرب من المسجد النبوي، فنزل القرآن ففضحهم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة:107].
ولما تأهب المسلمون للخروج قال قوم من المنافقين: لا تنفروا في الحر. فنزل قول الله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81].
بينما من المؤمنين الفقراء من جاء يطلب من النبي -عليه الصلاة والسلام- ظهرا يركبه، فلما تعذرهم دمعت أعينهم حزنا، مع أنهم ليس عليهم إثم؛ لعجزهم: (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) [التوبة:92].
واسْتَخْلَفَ النبي -عليه الصلاة والسلام- عَليّ بن أبي طالب، فقال: "أتُخَلِّفُني في الصِّبيانِ والنساءِ؟"، قال: "ألا ترْضَى أنْ تكونَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هارونَ مِن مُوسَى؟ إلا أنهُ ليس نبيٌّ بَعْدِي" رواه البخاري.
ثم سار النبي -عليه الصلاة والسلام- ومعه الصحابة وعددهم ثلاثون ألفا أو أكثر، ومعهم عشرة آلاف فرس، فكانوا في قلة من الظَهر، حتى كان الرجلان والثلاثة يعتقبون على بعير.
ولمّا مر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالحِجْر، ديار ثمود -وهي قرب محافظة العلا اليوم- قال: "لا تَدخلوا مساكنَ الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكينَ، أن يُصيبكم ما أصابهم". ثم تَقَنَّعَ بردائِهِ وهوَ على الرَّحْلِ. متفق عليه. وأمر الصحابة بإلقاء ما عجنوا من ماء المعذبين للإبل وأن يهريقوا الماء، وأن يستسقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.
وقال رجل من المنافقين عن الصحابة: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء! وقال مخشن بن حميّر: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله! لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال. إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فنزلت: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ) [التوبة65-66]. ويروى أن مخشناً تاب وقتل شهيدا يوم اليمامة.
ولما وصلوا تبوك لم يجدوا أحدا هناك؛ لأن الروم لما بلغهم مسير هذا الجيش آثروا الانسحاب إلى بلادهم ليتحصنوا بها، فلم ير النبي -عليه الصلاة والسلام- داعيا لتتبعهم داخل بلادهم، وأقام في المنطقة عشرين ليلة أو قريبا منها، وأتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية، وكتب لهم كتابا.
ثم رجع إلى المدينة، وأمر بهدم وإحراق مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، ولما دنا من المدينة قال: "إنَّ بالمدينةِ أقوامًا، ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا، إلا كانوا معكم". قالوا: يا رسولَ اللهِ، وهم بالمدينةِ؟ قال: "وهم بالمدينةِ، حبسهُمُ العذرُ" رواه البخاري. وفي رواية مسلم: "إلا شرَكوكم في الأجرِ".
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإليكم معشر إخوة الإسلام بعض الفوائد المستفادة مما سبق: من الفوائد: فضيلة الصحابة -رضوان الله عنهم-، ومبادرتهم وتضحياتهم بالمال والنفس.
ومن الفوائد: عظم خطر النفاق، وفي سورة براءة آيات كثيرة فضحت نفاقهم.
ومن الفوائد: مشروعية التنافس في الخير، لما أتى عمر بنصف ماله قال: "اليوم أسبق أبا بكر!"،
ومن الفوائد: فضائل ظاهرة لعدد من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون.
ومن الفوائد: الحذر من السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، وسوء وعاقبة ذلك؛ إذ جعله الله استهزاء بالله وآياته ورسوله.
ومن الفوائد: خبث المنافقين، وعظيم شرهم وكيدهم، وأنهم يظهرون أنهم يريدون الخير، ويحلفون وهم كاذبون، وقد ذكر -سبحانه- صفاتهم في القرآن ولم يصرح بأسمائهم؛ ليحذرهم المسلمون، فالأسماء تتغير خلال القرون واختلاف الناس، أما الصفات فواحدة.
ومن الفوائد: ينبغي لمن مر بديار المعذبين ألا يدخلها إلا معتبرا باكيا.
ومن الفوائد: أن تأليف القلوب واجتماع الكلمة مقصد عظيم، فمن مقاصد مسجد الضرار الذي هُدم التفريق بين المؤمنين؛ (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ).
ومن الفوائد: أهمية النية الصالحة في العمل، إذ إن من حبسهم العذر عن الذهاب مع المسلمين كتب الله لهم الأجر.
ومن الفوائدِ: أن السخرية بالمؤمنين من أساليب المنافقين، ومن أساليبهم: الإرجاف والتخويف.
ثم صلوا وسلموا...
التعليقات