عناصر الخطبة
1/ حاجة المسلمين إلى مراجعة أحوالهم 2/ سنة التثبيت 3/ مجريات غزوة الأحزاب وما ظهر فيها من معجزات 4/ أهمية الصبر والمصابرةاهداف الخطبة
اقتباس
زمنِ الضّعف والانكسار، وحينما يشتدّ على الأمّة الحصار، حين تدلهمّ الخطوب وتشتدّ الكروب، قد تتضعضع القلوب حتى يقول المؤمنون: متى نصر الله؟! وإنّ هذه الحالَ الشديدة أقربُ ما تكون انطباقًا على حال المسلمين اليَومَ وقد عصفت بهم المحَن وأحاطت بهم الفِتن، في هذه الأوقات ما أحوجَ المسلمين إلى مراجعةِ ..
أمّا بعد: فوصيّةُ الله للأوّلين والآخرين تقواه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]، ألا وإنّ خيرَ الزاد التقوى، وإنّ الدنيا ممرّ، وإن الآخرة هي دار المستقرّ، فتزوَّدوا لمقرِّكم من ممرِّكم، ومن خاف أدلج، ومن أدلجَ بلغَ المنزِل، ألا إن سلعةَ الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنة، فحاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وتأهَّبوا للعَرض الأكبر على الله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].
وبعد:
أيّها المسلمون: في زمنِ الضّعف والانكسار، وحينما يشتدّ على الأمّة الحصار، حين تدلهمّ الخطوب وتشتدّ الكروب، قد تتضعضع القلوب حتى يقول المؤمنون: متى نصر الله؟! وإنّ هذه الحالَ الشديدة أقربُ ما تكون انطباقًا على حال المسلمين اليَومَ وقد عصفت بهم المحَن وأحاطت بهم الفِتن، في هذه الأوقات ما أحوجَ المسلمين إلى مراجعةِ أحوالهم والترتيب لحسنِ مآلهم، ما أحوجَنا إلى أسبابِ الثبات وما يُمسِّكنا بدينِنا حتى الممات، فتلك سنّة الله مع رسولِه -صلى الله عليه وسلم- والصحبِ الكرام، حين تشتدّ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبِه الكربات يثبِّته ربُّ الأرض والسموات بما شاء من أسباب الثّبات، ومن ذلك سِيَر الأنبياء والمرسَلين وقَصَص الأوّلين والآخرين وخَبر العواقِبِ الحسنى للمتقين: (وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
أيّها المسلمون: واقتداءً بهذا السَّنن الإلهيّ نعرض اليومَ إلى ذكر واقعةٍ شديدةٍ على المسلمين وأيّامٍ عصيبة مرّت بالنبيّ والمؤمنين، كانت عاقبتها نصرًا وتمكينًا بعد أن امتحَن الله القلوبَ وميّز المؤمنين من المنافقين، إنها غزوةُ الخندق التي سمّاها الله تعالى بالأحزاب، وأنزل فيها سورةً تُتَلى إلى يومِ الدين والمآب.
لقد وقعَت في مثل هذا الشّهر في شوال سنة خمسٍ للهجرة، وذلك أنّ نفرًا من يهودِ بني النضير سعَوا كما هي عادَة اليهود، فخرجوا لمكّةَ واجتمعوا بأشرافِ قريش، وألَّبوهم على حربِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووعدوهم بالنّصر والإعانة، فأجابوهم لذلك، ثمّ خرجوا إلى غطفان فدعوهم وأَغرَوهم، فاستجابوا لهم أيضًا، وخرَجت قريش في أحابِيشِها ومن تابَعها من أهلِ تِهامة وغيرهم، وكذا غطفان، والجميع يفوقون عشرةَ آلاف، وحاصَروا المسلمين مِن نواحي المدينة، واستشار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه، فأشار سلمان الفارسيّ -رضي الله عنه- بحفرِ الخندَق، فقبِل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مشورَتَه، وقرَّر المسلمون التحصُّنَ في المدينةِ والدفاعَ عنها، وأمَر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بحفرِ الخندق في السّهل الواقع شمالَ غربِ المدينة، وهو الجانِب المكشوف، وقسَم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الخندقَ بين أصحابه لكلّ عشرةٍ منهم أربعون ذراعًا، وطوله قريبٌ من خمسةِ آلاف ذِراع.
وعمل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابِه في حفرِ الخندق، ودأب فيه ودأبوا في بردٍ شديد وجوعٍ عتيد، يقول أبو طلحة -رضي الله عنه-: شكَونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجوعَ ورفعنا عن بطونِنا عن حجرٍ حَجر، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنِه حجَرين، ومع ذلك كانوا صابرين ثابتين يحمَدون الله ويذكرونه ويرتجزون؛ عن أنس -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصارُ يحفرون في غداةٍ باردة، فلمّا رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللـهمّ إنّ العيش عيشُ الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له:
نحن الذيـن بايعوا محمّدًا *** على الجهادِ ما بقينا أبدًا
رواه البخاري ومسلم.
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ينقل الترابَ يومَ الخندق حتى اغبرَّ بطنه. متفق عليه. وفي الصحيحين عنه -رضي الله عنه- أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يرتجِز بكلماتِ ابنِ رواحة وهو ينقل الترابَ يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزِلَن سكيـنةً علينا *** وثبِّت الأقدامَ إن لاقَينا
إنّ الأُلى قد بَغَوا علينا *** إذا أرادوا فتنـةً أبَينا
يمدّ صوته بآخرها.
وقد ظهرَت المعجِزات في حفرِ الخندق، منها ما جاءَ في الصحيحين أن جابرَ بنَ عبد الله -رضي الله عنه- لما رأى ما بالنّبيّ -صلى الله عليه وسلم- من الجوعِ والخَمصِ الشّديد صنع طعامًا يكفِي لبضعةِ نفر ودعا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- إليه، عند ذلك نادَى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أهلَ الخندق: "ألا إنّ جابرًا قد صنع سورًا"، وقال: "ادخلوا ولا تضاغَطوا"، فأكَلوا كلُّهم حتى شبِعوا والطعامُ على حاله ولم ينقص، جاء في بعض الروايات في غير الصّحيحين أنهم كانوا قريبًا من ألفِ رجل.
وعرضت للمسلين صَخرة عظيمةٌ شديدة لا تأخذ فيها المعَاوِل، فأتى إليها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وسمّى الله وضربها ثلاث ضربات، فعادت كثيبًا أهيَل وقال: "الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، كأني أنظر إلى قصورها الحمراء. الله أكبر، أُعطيت مفاتيحَ فارس، والله إني لأبصِر قصرَ المدائن الأبيض. الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ اليمن، والله إني لأبصِر أبوابَ صنعاء من مكاني الساعةَ". هذا والمسلمون في شكٍّ من حياتهم، قد عضَّهم الجوع وآذاهم البَرد وأحاط بهم العدوّ، ونجم النِّفاقُ حتى قال بعض المنافقين: ألا ترونَ إلى محمّد يدّعِي أنه يُعطَى ملكَ فارس والروم وأحدُنا لا يأمَن على نفسه أن يذهبَ إلى الغائط، وذلك حين يقول الله -عز وجل-: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا) [الأحزاب: 12].
وجاء المشركون، فنزلوا شرقيَّ المدينة قريبًا من أحُد، ونزلت طائفةٌ منهم في أعالي أرضِ المدينة كما قال تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الأحزاب: 10]: من أعلى الوادي من المشرِق، ومن بَطن الوادي من قِبَل المغرب، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معَه من المسلمين فأسنَدوا ظهورَهم على سَلع ووجوهَهم نحو العدوّ، بينهم الخندَق، وجعل النساءَ والذراري في آطامِ المدينة، وكانت بنو قريظَة -وهم طائفةٌ من اليهود- لهم حِصن شرقيّ المدينة، وبينهم وبين النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عهدٌ وذمّة، وهم قريبٌ من ثمانمائَة مقاتل، وقد أمِنهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في جانِب المدينة، فسعى إليهم حُييّ بن أخطب اليهوديّ، فلم يزل بهم حتى نقَضوا العهدَ، ومالؤوا الأحزابَ على حربِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبِه واستئصال شأفتِهم، فعظُم الخطب، واشتدَّ الكرب، وضاق الحال بالمسلمين، وزاد الخوف على الأنفس وعلى النساءِ والذراري في المدينة، إذ يصوّر الله تعالى موقفَهم بقوله: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) [الأحزاب: 10، 11].
واستمرَّ الحال قريبًا من الشّهر، واستأذَن المنافقون وخذَّلوا وتسلَّلوا هربًا من هذه الحال، وثبّت الله المؤمنين بعدَ أن ابتلاهم وعلِمَ صدقَ إيمانهم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22] أي: إيمانًا بالله واستسلامًا وانقيادًا لأمرِه وطاعةً لرسوله، وهذا هو حال المؤمنين الصادقين الموعودِين بالنصر، لا تزيدهم الشدائدُ إلاّ إيمانًا وازديادًا في الطّاعات وتمسُّكًا بأمرِ الله وحُكمِه وتشبُّثًا بدينهِ حتى يلقَوا ربَّهم، فليس النّصر هو السلامةُ والدَّعَة والمتاع بزُخرُف الدّنيا ولو في حمأةِ المهانة، بل النّصر هو الثباتُ على المبادِئ وعجزُ العدوّ عن سَلبِ المؤمِنِ دينَه وإن آذاه في بدنه أو ماله.
لقد عظُم البلاء بالمسلِمين حتى همَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يُصالحَ غطفانَ على ثلث ثمارِ المدينة ويرجعوا شَفقةً بحال المسلمين، واستشارَ في ذلك السيِّدَين سعدَ بنَ معاذ وسعد بنَ عُبادة -رضي الله عنهما-، فقالا: يا رسولَ الله: قد كنّا نحن وهؤلاء على الشّرك وعبادةِ الأوثان، لا نعبدُ الله ولا نعرِفه، وهم لا يطعَمون منها ثَمَرةً إلا بيعًا أو قِرى، أفحِين أكرَمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزَّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجةٍ، والله لا نعطِيهم إلا السيفَ حتى يحكمَ الله بيننا وبينهم، ففرِح النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بذلك لما رأى من الثباتِ والاستقامة والصمود والإباء.
أيّها المسلمون: وفي خِضَمّ هذه الابتلاءات وفي قلبِ الحِصارات جاءَ نصر الله من فوقِ سبع سموات، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) [الأحزاب: 25]، وقد جاء نُعيم بن مسعود الغطفاني -رضي الله عنه- إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا، ثم رجَع بين الأحزاب مخذِّلاً لهم. وقد نفع الله به نفعًا عظيمًا وهو حديثُ عهدٍ بالإسلام، ولكن المؤمِن يعمل لله في كلِّ حال بما يستطيع ولو كان وحيدًا، ثم بعث الله تعالى ريحًا شديدة في ليلةٍ شاتية باردة مظلِمة، فجعلت تقلِب القدورَ وتطرح الأبنيةَ وتقلب عليهم الحِجارة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ يصلّي، يقول حذيفة -رضي الله عنه- كما عند الحاكم والبيهقي: لقد رأيتُنا ليلةَ الأحزاب وأبو سفيان والأحزاب فوقَنا وقريظةُ اليهود أسفَل منّا، نخافهم على ذرارِينا، وما أتَت علينا قطّ ليلةٌ أشدّ منها ظلمةً ولا أشدّ ريحًا، في أصواتِ ريحها أمثالُ الصواعق، وهي ظلمةٌ ما يرى أحدُنا أصبعَه. إلى أن قال: فسمعتُ المشركينَ يقولون: الرحيلَ الرحيلَ لا مُقام لكم، وإذا الريحُ في عسكرهم، فوالله إني لأسمع صوتَ الحجارة في رحالهم وفُرشِهم، والرّيح تضربهم بها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب: 9].
وتفرّق الأحزاب، وعادَت قريش كما عادَت غطفان لم ينالوا خيرًا، كما انقلَب اليهودُ بخيانَتِهم وخَيبتهم، وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لن تغزوَكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنّكم تغزونهم". رواه أحمد بإسناد صحيح، ولفظ البخاريّ: "الآن نغزوهم ولا يغزونا"، وهكذا كان حتى فتَح الله مكّةَ.
وفي الصحيحين أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ويقول: "اللهمّ منزِلَ الكتابِ سريع الحساب اهزِم الأحزابَ، اللهمّ اهزِمهم وزلزلهم"، وفي الصحيحين أيضًا أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقول فيما بعد: "لا إله إلا الله وحدَه، صدق وعدَه، ونصر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزابَ وحدَه، فلا شيء بعدَه".
ولما رجع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ووضَع السلاحَ ليغتسل مِن وعثاءِ تلك المرابطة جاءه جبريل -عليه السلام- وقال: إنّ الملائكةَ لم تضع أسلحَتَها، وأمرَه بالمسير إلى بني قُريظة، فسار إليهم وحاصَرهم، ثم أنزلهم على حُكمِ سيِّد الأوس سعدِ بن معاذ -رضي الله عنه-، فلم تأخذه في الله لومَةُ لائم، وحكم فيهم بحكم الله بقتلِ مقاتِلَتِهم وسبي ذراريهم، فضُربت أعناقُ الخَوَنة، وانتصَرَ الله لدينه وأوليائِه، وذلك حين يقول المولى -عز وجل-: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ) أي: من حصونهم، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الأحزاب: 26، 26]، وهذا مآل المتّقين الصابرين الذين لا تثنِيهم الشّدائد عن دينهم، ولا تزعزِعُهم الفِتَن عن اليقين بربهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُسبِغ النّعَم، دافع النّقَم، أجاب عبدَه إذ ناداه في الظُّلَم، ووعدَ بالنصر من التزم صراطَه الأقوَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدّى الأمانة وتركَنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، صلّى الله عليه وعلى آله وأزواجِه وذريّته وصحابته ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
أيّها المسلمون: لقد كان في غزوةِ الأحزاب وأيّامِ الخندَق حِكَم وعِبر، ينبغي للمسلمين أن يعوها ويحتذوها، وقد قال الله تعالى في ثنايا ذكرِ أحداثها: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
وسنّة الله جاريةٌ قديمًا وحديثًا، وغربة الدين وضَعف المسلمين لا ينبغي بحالٍ أن تقودَ إلى الإحباط وخَور النّفوس، بل يجب أن يكونَ دافعًا للصبر والبذل والثّبات حتى يأذَنَ الله تعالى بالفَرَج.
ومِن مقامَاتِ العبودية التي يجب أن تُذكَى: الصبرُ والمصابرة والمرابَطَة والثبات واليقينُ والدعاء والاحتساب والقِيام بأمر الله والإيمانُ بالقضاء وإدراك سنّة الابتلاء وصيانة الدين، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
هذا؛ وصلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشريّة رسولِ الله محمد بنِ عبد الله الهاشمي القرشيّ.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
التعليقات