عناصر الخطبة
1/أشد الغزوات على المسلمين 2/أسباب غزوة أحد 3/وقائع الغزوة وأحداثها 4/شهداء أحد.اقتباس
وكان من أسباب الارتباك وتراجع المسلمين أنه أُشيع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُتل، فوقف من وقف مذهولاً من الخبر، فقال أنس بن النضر لجماعة وقد ألقوا ما بأيديهم: "ما تنتظرون؟ فقالوا قُتل رسول الله، قال: وما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله". وقال ثابتُ بنُ الدحداح -رضي الله عنه- لقومه: "يا معشر الأنصار! إنْ كان محمدٌ قد قُتل، فإن الله حي لا يموت....
الخطبة الأولى:
غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- تختلف من واحدة لأخرى، لتباينها من جهة العَدُوِّ وعُدّته، والمسافةِ إليه، وزمانِها، ومكانِها، والظروفِ التي أدت إليها.
وهذه غزوةٌ هي من أشد وأصعب الغزوات، ذكر الله أحداثها في أكثرَ من ستين آية من كتابه الكريم، وانكشف فيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للعدو وأصابه منهم جراحات، وهي الغزوة الأولى التي يلتقي فيها الجيشان على شبه ميعاد.
إنها غزوة أحد، وقعت في شمال المدينة النبوية، في شهر شوال، من العام الثالث من الهجرة النبوية، وأعظم سببٍ لتلك الغزوة هو ثأر المشركين لقتلاهم الذين قُتلوا في بدر، والذين كانت لهم السيادة والرياسة، والشرف في قريش، ومن أسبابها إعادةُ هيبةِ ومكانِة قريش لدى العرب بعد أن فقدتها في بدر.
استعدت قريشٌ لهذه الغزوة من أرباح قافلة أبي سفيان التي نَجَت في بدر، وجمعت قريشٌ أحلافًا لها من القبائل، وأوكلت لقيادة هذا الجيش أهلَ الخبرة في فنون القتال؛ كخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل.
وخرجت النساء كذلك مع الجيش؛ لإثارة روح الحماس، وتخويفِهم من العار إذا فروا، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه ما سيحدث، وذكَرَه لأصحابه قائلاً لهم: "رأيت في رؤياي أني هززت سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أُصيب من المؤمنين يوم أُحُد، ثم هززته أخرى فعاد كأحسنِ ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت بقرًا -واللهُ خير- فإذا هم المؤمنون يوم أُحُد"(متفق عليه).
ولما اقترب العدو من المدينة استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه في الخروج إليهم، أو التحصنِ في المدينة، فرأت طائفة منهم الخروجَ للعدو، إظهارًا للشجاعة والرغبة في المشاركة، خاصة من فاته الاشتراك في بدر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- رأى البقاء في المدينة للاستفادة من تحصنها، حسم النبي -صلى الله عليه وسلم- الموقف بأن خرج -وقد رَغِب بعضُ الصحابة رضي الله عنهم- عدمَ مخالفة رأيه -عليه السلام- بالخروج وهو لابسٌ لأْمَتَه وقال: "ما كان لنبي إذا لبس لأْمته أن يضعها حتى يناجز"(رواه أحمد).
خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ألف من الصحابة -رضي الله عنهم-، وعندما وصلوا إلى نصف المسافة انسحب المنافق ابنُ سلولٍ بثلث الجيش، بحجة أنه لن يقع قتالٌ مع المشركين، ورفض القتال خارج المدينة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أطاع الوِلْدان، ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني علام نقتل أنفسنا؟
وقد أنزل الله في شأنهم: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[آل عِمرَان: 166-167].
وصل المسلمون إلى جبل أُحد بعد أن تجاوزوا معسكر المشركين، والبالغ عددُهم ثلاثةَ آلاف، فأصبح المشركون بين المدينة والجيش الإسلامي، ووزَّع النبي -صلى الله عليه وسلم- المهامَّ والقيادات، وانتقى خمسين من الرماة، ووضعهم في تلِّ عِيْنينَ المقابلِ لأحد، خشيةَ تطويقِ المشركين للمسلمين، وأوصى الرماة "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أُرسل إليكم"(رواه البخاري).
التقى الجيشان بكِفَّةٍ غيرِ مرجوحة، لأن ميزان القوة هو ميزان الإيمان، قال -سبحانه-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البَقَرَة: 249]، بدأت المعركة بالمبارزة، وَقَتل المسلمون جميعَ من بارزهم، ثم التحم الجيشان، واشتد القتال، واستبسل المسلمون في صد المشركين، وكان أعظمُهم أثرًا حمزةَ بنَ عبدِالمطلب -سيدَ الشهداء- وأبا دجانة -رضي الله عنهما-.
دارت رَحى الغزوة، وصدق المسلمون في اللقاء، فأوقعوا في المشركين القتل، وفي ذلك قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)[آل عِمرَان: 152]، فَرَّ المشركون من ميدان المعركة بعد أن أثخنهم المسلمون قتلاً، وأكرم الله من أكرم من الصحابة -رضي الله عنهم- بالشهادة.
بعدها أبصر الرماةُ المشركين فارِّين باتجاه مكة، فاجتهدوا في النزول من الجبل لجمع الغنائم، وذكّرهم عبدُ الله بنُ جبيرٍ -رضي الله عنه- بقوله: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!، وكانت فرصةً مواتيةً لخالدِ بنِ الوليد ليلتف على المسلمين، فرآه المشركون، فعادُوا إلى ميدان القتال مرة أخرى محيطين بالمسلمين.
وارتبك المسلمون إلى الحد الذي لم يَقْدِرْ أن يميز بعضُهم المسلمَ من الكافر، فابتعد جمعٌ منهم الميدان، وجلس بعضهم بدون قتال، ومنهم من قاتل واستبسل في هذا الوقت الذي رأى فيه ضعفَ المسلمين - كأنس بن النضر، وزيد بن ثابت، وغيرهما، - وقد نزل فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[الأحزَاب: 23].
وكان من أسباب الارتباك وتراجع المسلمين أنه أُشيع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُتل، فوقف من وقف مذهولاً من الخبر، فقال أنس بن النضر لجماعة وقد ألقوا ما بأيديهم: "ما تنتظرون؟ فقالوا قُتل رسول الله، قال: وما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله".
وقال ثابتُ بنُ الدحداح -رضي الله عنه- لقومه: "يا معشر الأنصار! إنْ كان محمدٌ قد قُتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم فإن الله مُظْفِرُكم وناصركم".
فاطَّلع أثناءَ هذا الوقتِ العصيب كعبُ بنُ مالك -رضي الله عنه- في الجموع، فوجد رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- حَيًَّا لم يُقتل، فبشّر المسلمين، فأسكته النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لا ينتبه المشركون له، وتمكن بعضُ المشركين من الوصول للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فتسابق من تسابق لحمايته، فقُتل سبعةٌ من الأنصار، وأصيب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بإصاباتٍ كثيرة، "فكُسرت رَباعِيَتُه، وشُجَّ في وجهه، وسال دمُه، فجعل يمسحه وهو يقول: كيف يُفلح قومٌ شجوا نبيهم فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)[آل عِمرَان: 128]"(رواه البخاري).
وفي أثناء احتدام الغزوة أيَّد الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بجند من عنده، قال سعد -رضي الله عنه-: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبلُ ولا بعد"(متفق عليه). وفي رواية مسلم - يعني: "جبريل وميكائيل".
فثبَتَ المسلمون في هذه الغزوة خير ثبات، رغم المحنة والشدة.
اللهم أعز الإسلام وأهله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
صمد المسلمون في الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفَشَل المشركون في اختراق تحصينات المسلمين والوصول للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وأشرف أبو سفيان على المسلمين وقال أفيكم محمد؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا تجيبوه فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ قال: لا تجيبوه، قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قُتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبتَ يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يحزنك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجَلّ، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم"(رواه البخاري)، وفي رواية المسند "أن عمر قال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار".
انجلت الغزوة عن عدد كبير من الشهداء -وهذا تحقيقٌ لرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم- قبل الغزوة، بلغوا سبعين شهيدًا، وعلى رأسهم سيدُ الشهداء عمُّ رسولِ الله حمزةُ بنُ عبدِالمطلب؛ قد بُقر بطنُه ومُثِّل به، فحزن النبي -صلى الله عليه وسلم- حزنًا شديدًا.
قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بدفن الشهداء، وكان يجمع الرجلين في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء"(رواه البخاري).
وبعد دفنهم دعا لهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وبشَّر المسلمين بما نال الشهداء من عظيم الأجر، فعندما سمع بكاءَ فاطمةَ بنتَ عبدِ الله بنِ عمرٍو -رضي الله عنهما- قال: "ولِمَ تبكي؟ فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رُفِعَ"(متفق عليه)، ونزل في شهداء أحد: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عِمرَان: 169].
هذه الغزوة الثانية التي التقى فيها الجيشان بعد انتصارهم في بدر، وقد ظهرت سنن الله في رسله -عليهم السلام-، ففي سؤال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال سِجال، يُدال علينا المرة ونُدال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل، تبتلى ثم تكون لهم العاقبة"(رواه البخاري).
رزقنا الله اتباع هدي رسوله، واقتفاء أثره، وحشرنا في زمرته.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات