عناصر الخطبة
1/أهمية الشورى 2/معجزتان للنبي صلى الله عليه وسلم 3/تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني 4/ضرب المثل بالمجاهدين السابقين 5/التعلق والارتباط بالدين 6/أهمية اللجوء إلى الله 7/أُحد جبل يحبنا ونحبه 8/ النصر ليس إلا من عند الله 9/تربية الأبناء على حب الجهاد 10/النعاس في الخوف والحرب نعمة جليلة 11/دروس في الصبر تقدمها الصحابيات للأمةاهداف الخطبة
اقتباس
إنه الوفاء المحمدي حتى مع الجماد، يوم كان أحد حامٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أحد جبل يحبنا ونحبه". أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟ ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء؛ لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الغني الحميد، المبدئ المعيد، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علماً وهو على كل شيء شهيد، أحمده سبحانه على ما أولاه من الإنعام والإكرام والتسديد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من دعا إلى الإيمان والتوحيد، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم من صالحي العبيد، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى.
لا زلنا وإياكم في ظلال غزوة أحد دروس وعبر، هذه الغزوة التي وقعت في الخامس عشر من شهر شوال.
هذه الغزوة التي أنزل الله على إثرها آيات تُتلى إلى يوم الدين، فنزلت ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران، تتحدث عن هذه الغزوة.
ومن دروس هذه الغزوة: الدرس الثالث عشر: أهمية الشورى: فبعد أن جمع المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش، جمع أصحابه وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها، أو الخروج لملاقاة المشركين، وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال: "إني قد رأيت والله خيرًا، رأيت بقرًا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أني أدخلت في درع حصينة"، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة، كان رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- البقاء في المدينة، وقال: "إنا في جنة حصينة فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها" وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر، قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا.
من الواضح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عوَّد أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم، حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة، ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحدًا؛ لأنه أخطأ في اجتهاده، ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام، فلابد أن يطبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- التوجيه القرآني: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
الدرس الرابع عشر من دروس هذه الغزوة: معجزتان للنبي -صلى الله عليه وسلم-: فقد أصيبت عين قتادة -رضي الله عنه- حتى سقطت على وجنتيه، فردها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما، وأصبحت لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وقد قدم ولده على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فسأله من أنت؟ فقال له مرتجلا:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه *** فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها *** فيا حسنها عينًا ويا حسن ما خد
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ومن ذلك ما روى عبد الرزاق: قال أخبرنا معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي: أخبرنا أشياخنا أن عبد الله بن جحش جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يوم أحد، وقد ذهب سيفه فأعطاه النبي عسيباً من نخل، فرجع في يد عبد الله سيفا بإذن الله -تعالى-، وكان يسمى العرجون.
الدرس الخامس عشر من دروس هذه الغزوة: تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني: فمهما وقع من هزائم لأهل الإيمان ومهما سالت الدماء فالعاقبة للمتقين، قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) [آل عمران: 137].
أين قوم نوح؟ أين قوم صالح؟ أين فرعون وجنوده؟ أين الظلمة والمفسدين في الأمم السابقة؟
أهلكهم الله -تعالى-: (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 138-139].
وفي قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) أنتم الأعلون مبدأً، الأعلون منهجاً، الأعلون سنداً، كيف يهن ويضعف من كان الله معه والقران كتابه ومحمد نبيه ورسوله؟
بالإيمان لا تهنوا، بالإيمان ولا تحزنوا، بالإيمان أنتم الأعلون، لا تهنوا فدينكم الإسلام دين العزة، فهو يعلو ولا يعلى عليه.
ما بال بعض المسلمين يذلون للكفرة، والله -تعالى- يقول: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ)؟!
ويقول تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما-: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا أردنا العزة بغيره أذلنا الله".
فالواجب على المسلم أن يعتز بدينه ولا يذل ولا يهون مهما وقع.
وما تشهده الأمة اليوم من تسلط الكفار وأشياعهم على حزب الله وأوليائه ما هو إلا إحدى علامات قرب محق الله لهؤلاء المعتدين، فالحمد لله الحكيم العليم الخبير.
وعلى ورثة الأنبياء من أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة أن يتقوا الله ويصبروا؛ فإن أجل الله قريب، وعليهم أن لا يضجروا إذا أصابهم أذى، أو نزل بهم مكروه؛ فإن الله قد قال: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21].
والابتلاء مهما طالت مدته، وامتد وقته، واشتدت كربته، وتوالت أحداثه، وكثرت ضحاياه، فإن عاقبته أن يرتفع وينكشف، فإنه:
مهما دجا الليل فالتاريخ أخبرنا *** أن النهار بأحشاء الدجى يثب
الدرس السادس عشر من دروس هذه الغزوة: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين: فإن أكثر ما يرفع الهمم، ويزيد الإيمان: قراءة سير السف الصالح من الرسل والصحابة والتابعين، قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود: 120].
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111].
ما أجمل أن يأخذ الأب كتاب مثل كتاب "صفة الصفوة" لابن الجوزي، أو كتاب "رجال حول الرسول" أو كتاب "صور من حياة الصحابة والتابعين" ليقرأه على أبناءه وبناته.
ولقد أدرك أعداء الإسلام أهمية قصص وسير السلف في تربية الجيل على الثبات والصمود، وحب الدين، والدفاع عنه، فأزاحوا من المناهج كتاب "رجال حول الرسول" و"قصة صلاح الدين الأيوبي" و"قصة خالد بن الوليد" وقصة الخليفة العادل "عمر بن عبد العزيز".
قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 146-148].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد، وتركوا القتال، لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل، فضرب الله لهم مثلا بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، قائلين: (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].
وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها، واعتراف منهم بالتقصير، ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم، مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة.
وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء: (فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 148] أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء، والتوجه إلى الله، وإحسانهم في موقف الجهاد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا، وأستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يبدي ويعيد ذي العرش المجيد، وهو فعال لما يريد، أمر عباده بالتوحيد، وحذرهم عقابه يوم الوعيد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الرأي الرشيد، والقول السديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
الدرس السابع عشر من دروس هذه الغزوة: التعلق والارتباط بالدين: قال ابن كثير -رحمه الله-: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين، فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، ومرّ أنس بن النضر بقوم من المسلمين وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا موتوا على ما مات عليه؟
فأنزل الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
فالارتباط بالدين والعقيدة وليس بالأشخاص، فمحمد بشر سيموت كما مات سائر الأنبياء والرسل: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء: 34].
في غزوة أحد نزل التشريع الإلهي بالعتاب على ما حدث منهم أثناء أحداث غزوة أحد، وعند موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء التطبيق، حيث لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقبل أبو بكر الصديق على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة –رضي الله عنها- فتيمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مغشي بثوب حبرة"، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144].
الدرس الثامن عشر من دروس هذه الغزوة: أهمية اللجوء إلى الله: روى أحمد قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "استووا حتى أثني على ربي -عز وجل-" فصاروا خلفه فصفوفًا، فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت: اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق".
انظروا وتأملوا أهمية اللجوء إلى الله في الملمات، فهو الذي يكشف الكربات.
الأمة اليوم بحاجة إلى اللجوء إلى ربها؛ ليحفظها من كيد الكائدين، وتآمر المنافقين.
الأمة بحاجة اليوم إلى الدعاء والخضوع والانكسار بين يدي الله؛ كي يرفع راية الجهاد، ويقمع أهل الشرك والفساد والعناد.
الدرس التاسع عشر من دروس هذه الغزوة: قوله: "أُحد جبل يحبنا ونحبه": عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- طَلَع له أُحدٌ، فقال: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
إنه الوفاء المحمدي حتى مع الجماد، يوم كان أحد حامٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أحد جبل يحبنا ونحبه".
أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟
ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء؛ لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان وفاؤه للجماد قد سما حتى حاز أرقى العبارات وأرقها، فأخلق ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلا عمن تجمعه بهم الأخوة في الله -تعالى-.
الدرس العشرون من دروس هذه الغزوة: أن النصر ليس إلا من عند الله: النصر ابتداءً وانتهاءً، بيد الله -عز وجل-، وليس ملكًا لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10].
وحين يُقدّر الله -تعالى- النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه، وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة، قال تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160].
ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله -عز وجل-، نحن بحاجة إلى فقهها، فلا بد أن تكون الراية خالصة لله -سبحانه- عند الذين يمثلون جنده، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
ونصر الله في الاستجابة له، والاستقامة على منهجه، والجهاد في سبيله.
الدرس الحادي والعشرون من دروس هذه الغزوة: تربية الأبناء على حب الجهاد: فقد جاء غلمان من أبناء الصحابة يريدون الجهاد، ومنهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج، فردهم، قال: رافع بن خديج، فقال ظهير بن رافع: يا رسول الله، إنه رام، وجعلت أتطاول وعلي خفان لي، فأجازني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما أجازني، قال سمرة بن جندب لربيبه مري بن سنان الحارثي، وهو زوج أمه: يا أبت أجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج، فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه. فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تصارعا، فصرع سمرة رافعا، فأجازه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
على ما هذا التنافس؟ على ما هذا الزحام والتصارع؟
إنه من أجل بيع المهج والأرواح في سبيل الله.
على ما يتنافس أبناءنا؟!
في هذا الخبر دليل كافٍ على حب الصحابة للجهاد، وارتفاع مستواهم التربوي، حيث حببوا الجهاد لأبنائهم، فأصبح غلمانهم يتسابقون في ميادين الجهاد.
الدرس الثاني والعشرون من دروس هذه الغزوة: النعاس في الخوف والحرب نعمة جليلة.
عباد الله: إنَّ النعاس في الخوف والحرب نعمة، وفي الصلاة ومجالس الذكر غفلة، ففي معركة أحد لما أراد الله أن يمن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة، أصابهم نعاس حتى سقط سيف أبي طلحة من يده كما قال أنس –رضي لله عنه-، قال تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ)[الأنفال: 11] أي: سكينة وهدوءاً، وراحة لقلوبكم، فهو في الخوف والحرب أمنةٌ وهدوءٌ من الله، ولكنه في الصلاة وفي مجالس الذكر من الشيطان.
ومن تمام ثبات قلب المؤمن: أن ينعس في المعركة، ومشاهير الشجعان في الإسلام كانوا ينعسون وسط المعركة علامة على قوة قلوبهم، وقد ذكر ابن كثير عن شبيب بن يزيد الخارجي البطل الكبير وهو من قوادهم، ما سمع بأشجع منه بعد الصحابة، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: "كان في ستين رجلاً يلقى ثلاثة آلاف فيهزمهم، وكان ينعس قبيل المعركة على بغلته، وهذا من شجاعة قلبه، ومن حماسته ينعس، والصفوف أمامه، حتى إن زوجته واسمها غزالة، دخلت الكوفة، فأرهبت الكوفة كلها، والحجاج كان أمير الكوفة في عهدها، فلما دخلت من باب الكوفة الشرقي خرج هو من الغربي، فدخلت بعمود في يديها تضرب باب الإمارة، وتقول للحجاج: اخرج يا عدو الله، ثم ارتقت المنبر منبر الجامع، فخطبت خطبة، فيقول أحد المسلمين للحجاج: يا ذليل تقتل علماء المسلمين، وتقتل ضعفاء المسلمين، ولما أتت غزالة الخارجية هربت منها.
أسدٌ علي وفي الحروب نعامة *** فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى *** أم كان قلبك في جناحي طائر
الدرس الثالث والعشرون: دروس في الصبر تقدمها الصحابيات للأمة:
أ- صفية بنت عبد المطلب -رضي الله عنها-: لما استُشهد أخوها حمزة بن عبد المطلب في أحد، وجاءت لتنظر إليه، وقد مثل به المشركون؛ فجدعوا أنفه، وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوام: "القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها" فقال لها: يا أمه إن رسول الله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مُثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن -إن شاء الله-.
فلما جاء الزبير بن العوام -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، قال: "خلِّ سبيلها" فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له.
ب- حمنة بنت جحش -رضي الله عنها-: لما فرغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من دفن أصحابه –رضي الله عنهم- ركب فرسه، وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة، فلقيته "حمنة بنت جحش"، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا حمنة، احتسب" قالت: من يا رسول الله؟ قال: "أخوك عبد الله بن جحش" قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئًا له الشهادة، ثم قال لها: "احتسبي" قالت: من يا رسول الله؟ قال: "خالك حمزة بن عبد المطلب" قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: "احتسبي" قالت: من يا رسول الله؟ قال: "زوجك مصعب بن عمير" قالت: واحزناه، وصاحت وولولت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن زوج المرأة منها لبمكان" لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها، ثم قال لها: "ولم قلت هذا؟" قالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني، فدعا لها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولولدها أن يحسن الله -تعالى- عليهم من الخلف، فتزوجت طلحة بن عبيد الله، فولدت منه محمدًا وعمران، وكان محمد بن طلحة أوصل الناس لولدها.
ج- المرأة الدينارية -رضي الله عنها-: قال سعد بن أبي وقاص: "مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحد، فلما نعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله؟ قال: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل".
تريد صغيرة، وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين.
هذا وصلوا -عباد الله - على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
التعليقات