عودة إلى الله

عبدالله بن حسن القعود

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ العقل من تكريم الإنسان 2/نذر الله قسمان 3/دعوة إلى التوبة الصادقة 4/تنوع أساليب الشرع في الدعوة للتوبة
اهداف الخطبة
1/الدعوة إلى التوبة النصوح 2/ التحذير من الإصرار على الذنوب 3/بيان أجر التوبة وفرح الرب بعبده التائب

اقتباس

أما قرع سمعك ولا مس فؤادك واستجاش نفسك نداء الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [التحريم:8] أما آن لك تلبية هذا النداء لتنقل نفسك الغالية لديك من مكامن المخاوف إلى مواطن الأمان، من طاعة الشيطان وما يتبعها من وهج ولفح النيران, إلى طاعة الرحمن والفوز بالرضى والغفران إلى ظل ظليل وهواء عليل إلى...

 

 

 الخطبة الأولى:

 

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب, نحمده ونشكره ونسأله حسن الرجعى إليه وطيب المآب, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وذرياته وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

 أيها الأخوة المؤمنون: إن الله سبحانه وتعالى أكرمنا بعقول نميز بها الطيب من الخبيث والنافع من الضار (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد:4] وجعلها سبحانه مناط التكليف ومنشأ الانتفاع والسعادة والتضرر والشقاوة ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإن الإنسان الواعي المفكر الحريص على مصلحة نفسه (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان:62] عندما تتوارد عليه نذر القرآن والسنة التي تحمل الوعيد الشديد والإخطار الأكيد لمخالفيها, ونذر سنن الله الكونية التي أنزلها وسلطها عبر تاريخ الدعوة الإسلامية بمن خالف أمره ولم يخش وعيده أمثال (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) [الملك:16] (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام:65] (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [النحل:45-47] إنه -أي الواعي المفكر- لينظر بجدية وعمق بما أكرم به من عقل فيما يخلصه من مغبة هذا الوعيد, وأول ما يخلص من ذلك ويتقي به منه عودة صادقة إلى الله سبحانه, إلى الله الذي أمر بالعودة الصادقة إليه ورغب فيها وأبان أثرها ليسرع بها, أمر بها بأوامر تقتضي فورية الامتثال والمبادرة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم:8] وقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31] وقال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود:3] وقال عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه, فإني أتوب في اليوم مائة مرة" رواه مسلم.

 

وكما أمر سبحانه بالعودة إليه بأوامر مطلقة فقد حث ورغب في ذلك. قال سبحانه: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38] وقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر:53] وهذه الآية في الذنوب التي يتاب منها بإجماع أهل الملة.

 

ويقول رسوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث النزول المعروف المتفق على صحته: "إن الله يقول: هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه سؤاله". ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يمد يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل" رواه مسلم. ويقول: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم سقط عن بعيره, وقد أضله في أرض فلاة" متفق عليه.

 

وكما أمر سبحانه وتعالى بالعودة إليه ورغب فيها، فقد أبان فضائلها ومردودها وآثارها على أهلها. يقول سبحانه وتعالى في بيان شيء من ذلك مما يستوجب أن تفتح له الآذان وتهيأ له القلوب وتتلاقى معه وبه الآمال المصدقة بالأعمال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم:59-60] ويقول: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان:68-70].

 

 وفي بيان هذا التبديل المذكور في الآية الكريمة وإنه تبديل حقيقي، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم -رحمه الله-: "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة, وآخر أهل النار خروجاً منها، رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا". فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه. وعن أبي الطويل شطب الممدوح أنه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أرأيت من عمل الذنوب كلها, ولم يترك منها شيئاً, وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ قال: "فهل أسلمت" قال: "أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله". قال: "تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن" قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: "نعم", فكبر ولا يزال يكبر حتى توارى. رواه البزار والطبراني. قال المنذري في الترغيب: إسناده جيد قوي.

 

هذه -أيها الأخوة- أوامر الله بالعودة الصادقة إليه بتوبة نصوح، أوامره بالتوبة التي لو لم تكن واجبة شرعاً لوجبت عقلاً, لما يترتب عليها من خروج من طائلة الوعيد وكسب لوعد صادق الوعد.

 

فيا أخوتي في الله, يا من يمسي ويصبح تحت طائلة وعيد يقرع القلوب ويخيف النفوس التي بها بقايا حياة وتفكر وتعقل أمثال (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء:93] (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء:10] (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة:275] (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) الآية [الفرقان:68-69].

 

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) الآية [مريم:59]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن", وقوله: "إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق, فلهم النار يوم القيامة", أما لك من عقل تدرك به التخلص من مضائق المآزق ولفح المحارق, أما لديك من خبرة ومعرفة تدير بها تجارتك وتربح بها بضاعتك ليعود نتنك عطراً وبعرك تبراً، أما قرع سمعك ولا مس فؤادك واستجاش نفسك نداء الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [التحريم:8].

 

 أما آن لك تلبية هذا النداء لتنقل نفسك الغالية لديك من مكامن المخاوف إلى مواطن الأمان، من طاعة الشيطان وما يتبعها من وهج ولفح النيران, إلى طاعة الرحمن والفوز بالرضى والغفران إلى ظل ظليل وهواء عليل إلى طيب المحيا وطيب الممات (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف:32].

 

 أما آن أن تقدم الثمن لتحظى بالمثمن بعودة إلى الله بتوبة نصوح, تقلع بها من فعلك السالف السيئ وتندم عليه وتعزم ألا تعود فيه, وتتحلل بها ما أمكنك من حقوق العباد سيما إن كانت مالية, وتتبعها بأعمال صالحة وأحوال مرضية, عسى أن يتحقق فيك (عسى), و(عسى) من الله محقق (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].

 

 

 

 

المرفقات
عودة إلى الله.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life