عناصر الخطبة
1/الله ليس كمثله شيء 2/احتجاب الله عن خلقه 3/من أدلة علو الله 4/ثمرات الإيمان بعلو الله 5/منهج السلف في إثبات صفات اللهاقتباس
من صفات الله العليا أنه عال على خلقه, فله العلو المطلق: علو الذات, وعلو القدر, وعلو القهر, فهو -سبحانه- في جهة العلو, فإذا سألك أحد أين الله؟ فجوابه إجمالا: أنه -سبحانه- في السماء, ولا يعني ذلك أن السماء تحويه أو تقله...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فيا أيها الناس: إن الله -سبحانه- ليس كخلقه, ولا يشبههم, فهو -سبحانه- لا ند له, ولا مثل له, كما قال -سبحانه-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11], وكيف يشبه خلقه وهو الإله العظيم.
والله -سبحانه- قد انفرد بصفات الكمال, والأسماء الحسنى, فكل كمال مطلق فهو له -سبحانه-, ولا يمكن لبشر أن يتخيل أو يصور صفات الله, ولا يجوز لبشر أن يسأل عن الله بـ "كيف", فلا يقول: كيف وجهه؟ ولا كيف يده؟ فلا نبي مقرب ولا ملك مرسل يعلم ذلك؛ فقد احتجب الله عن خلقه؛ لأنهم لا يطيقون رؤيته -سبحانه-, فإن موسى لما سأل الله فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)[الأعراف: 143], قال بعض السلف: "كشف من الحجاب للجبل مقدار أنملة الإبهام, فساخ في الأرض".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى قال: قامَ فِينا رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بخَمْسِ كَلِماتٍ، فقالَ: "إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- لا يَنامُ، ولا يَنْبَغِي له أنْ يَنامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجابُهُ النُّورُ، وفي رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ: النَّارُ، لو كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ".
فقوله: "حِجابُه النُّورُ"؛ أي: إنَّ هناك حاجزًا بينَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- وبين خلقِه، مادَّتُه التي يَتكوَّنُ منها النُّورُ، وهو خلق مستقل غير نور الله -سبحانه- الذي هو صفته, وفي روايةٍ: "حجابه النار", والحِجابُ: هو ما يُستَرُ به بين الشِّيئَينِ، ولو رفَعَ الحقُّ -سبحانه- ذلك الحِجابَ وأزالَه لأحرَقَت سُبُحاتُ وَجهِه ما وصَلَ إليه بَصَرُه -عزَّ وجلَّ- من خَلقِهِ، والمعنى: لأحرق كل شيء, فليس لِبَصرِه -جَلَّ شأنُه- نِهايةٌ ولا مَدى, "سُبُحات وجهِه": بَهاءه وعَظَمَتَه وجَلالَه ونُورَه؛ ولهذا جعل الله النظر إليه أعلى نعيم لأهل الجنة, حيث يعطيهم القوة على الصمود لرؤيته -سبحانه-, فيكون النظر إليه أعلى نعيم ذاقوه, نسأل الله من فضله.
عباد الله: من صفات الله العليا أنه عال على خلقه, فله العلو المطلق: علو الذات, وعلو القدر, وعلو القهر, فهو -سبحانه- في جهة العلو, فإذا سألك أحد أين الله؟ فجوابه إجمالا: أنه -سبحانه- في السماء, ولا يعني ذلك أن السماء تحويه أو تقله -سبحانه-, بل يقصد بالسماء جهة العلو.
وبالتفصيل: إنه -سبحانه- فوق السموات السبع, مستو على عرشه, وهو مع خلقه بعلمه, لا يخفى عليه من أعمالهم خافية, قال -سبحانه- (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام: 59], وقال -سبحانه- عن نفسه: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)[الملك: 16], وقال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)[فاطر: 10]. فهو -سبحانه- قريب في علوه, عليٌ في دنوه, أحاط بكل شيء, ولا يحيط خلقه بشيء منه.
وإن الإيمان بعلو الله -سبحانه- ليزيد الإيمان, ويملأ القلب عظمة من الله وخشية له, قال -سبحانه-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[المجادلة: 1], والمجادلة هي خولة بنت ثعلبة, متزوجة من أوس بن الصامت, غضب عليها فقال لها: "أنتِ عليَّ كظهر أمي"؛ أي: أنتِ حرام عليَّ، فذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكرت له قصتها، فقال لها -صلى الله عليه وسلم-: "قد حرمت عليه"، فجعلت تقول -بصوت منخفض يخفى على عائشة مع قربها منها-: "بعدما كبرت سني ظاهرَ مني؟ إلى الله أشكو حال صبية إن ضممتُهم إليَّ جاعوا، وإن تركتُهم عنده ضاعوا".
فهذه مجادلتها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي ذكرها الله -تعالى- بقوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)[المجادلة: 1], فقالت عائشة: "الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ"؛ أي: استوعبها وأدركها فلا يفوته منها شيء وإن خفي, "لقد جاءت خَوْلةُ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- تَشْكو زَوْجَها، فكان يخفى عليَّ كلامُها، فأنزل اللهُ -عزَّ وجلَّ-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[المجادلة: 1]؛ أي: فحينما جاءت خولة تشكو زوجها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينهما إلا الحجاب, كانت تكلمه بصوت منخفض لا تسمعه عائشة مع قربها منها، ومع ذلك سمعه الله -تعالى- من فوق سبع سماوات، وأنزل الآية المذكورة.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا, وكفر عنا سيئاتنا, وتوفنا مع الأبرار, أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعدُ:
فيا أيها الناس: ربنا -جل وعلا- وتقدس, وصف نفسه في كتابه, ووصفه رسوله في سنته بصفات يجب الإيمان بمعناها, ولا يجوز تكييفها, فنؤمن بها ولا نخوض في كيفيتها, كما قال الإمام مالك لما سئل عن الاستواء: كيف استوى؟ فقال: "الاستواء معلوم -يعني معناه-, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة".
قال الشيخ الحكمي -رحمه الله- في منظومته:
الأحَدُ الفَرْدُ القديرُ الأزلِي *** الصَّمَدُ البَرُّ المُهيمِنُ العَلِي
علوَّ قَهْرٍ وعلوَّ الشانِ *** جَلَّ عَنِ الأضدادِ والأعوانِ
كذا له العلوُّ والفَوْقيةْ ***على عِبادِه بلا كَيْفِيةْ
ومعَ ذا مُطَّلِعٌ إليهمُ ***بِعلمِه مُهيمنٌ عليهمُ
وذكرُه للقُربِ والمعيةْ ***لم يَنفِ للعلوِّ والفوقيةْ
فإنه العليُّ في دُنُوه *** وهْو القريبُ جَلَّ في عُلُوه
عباد الله: من تفكر في ملكوت السموات وعظمتها, وسعة خلقها, وما فيها من المجرات, وأن الأرض التي نعيش فيها لا شيء بالنسبة لباقي الخلق في ملكوت السموات, وعلم بعد تلك المجرات عن الأرض, ثم تبين له أنها كلها تحت السماء الأولى, وأن فوقها ست سموات أخرى, ثم فوقها العرش؛ لتبين له عظيم قدرة الله, وأنه لا يمكن لأحد معرفة كيفية صفات الرب -جل في علاه-, أَخْرَجَ ابْن خُزَيْمَةَ فِي (صَحِيحه) وفي (كتاب التوحيد) له عَنْ اِبْن مَسْعُود -رضي الله عنه- قَالَ: "بَيْن السَّمَاء الدُّنْيَا وَاَلَّتِي تَلِيهَا خَمْسمِائَةِ عَام, وَبَيْن كُلّ سَمَاء مسيرة خَمْسمِائَةِ عَام", وَفِي رِوَايَة: "وَغِلَظ كُلّ سَمَاء مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام, وَبَيْن السماء السَّابِعَة وَبَيْن الْكُرْسِيّ خَمْسمِائَةِ عَام, وَبَيْن الْكُرْسِيّ وَبَيْن الْمَاء خَمْسمِائَةِ عَام, وَالْعَرْش فَوْق الْمَاء, وَاَللَّه فَوْق الْعَرْش, وَلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَعْمَالكُمْ ".
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة.
التعليقات