عناصر الخطبة
1/اتباع عيسى عليه السلام وقصة المسيح 2/ ما أدخله اليهود في دين النصارى 3/ متناقضات عقيدة النصارى 4/ طوائف النصارى 5/ النصارى ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم 6/المواجهات العسكرية بين المسلمين والنصارى 7/ معاملة المسلمين الفاتحين للنصارى 8/ مزاعم البابا الظالمة 9/ الكاثوليك الدمويون 10/ حملة العلمانيين الفكرية على الإسلام 11/ رمضان ليس موسما للمهازل .اهداف الخطبة
توضيح صورة عقيدة النصارى وما دخل عليها من الانحراف / فضح مزاعم البابا والرد عليها / التحذير من حملة العلمانيين على ثوابت الدين .اقتباس
ولما أكرم الله تعالى البشرية ببعثة خاتم النبيين محمد بن عبد الله القرشي صلى الله عليه وسلم انقسم النصارى تجاه دعوته إلى طائفتين :فطائفة آمنوا به وصدقوه ، وعرفوا أن ما جاءهم به هو الحق من عند الله تعالى ، قد بشرت به كتبهم
الحمد لله ؛ أنار الطريق للسائرين ، وأقام الحجة على العالمين أحمده على ما هدانا ، وأشكره على ما أعطانا ، فهو خالقنا ورازقنا ، وهو ربنا ومعبودنا ، لا رب لنا سواه ، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ وفق للهدى من شاء له السعادة ، وضلَّ عن دينه من كتبت عليه الشقاوة (فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف:30] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ ختم الله تعالى به النبوة والرسالة ، وأوجب على من أدركه من النبيين تصديقه واتباعه (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران:81].
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد :
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل ، والثبات على الحق إلى الممات ، فتلك وصية آبائكم من النبيين إليكم (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:132].
أيها الناس: بعث الله تعالى عيسى بن مريم عليهما السلام إلى أمة بني إسرائيل مصدقا لدين موسى عليه السلام ، ومبشرا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فانقسم بنوا إسرائيل حيال دعوته عليه السلام إلى فريقين: فريق آمن به وهم النصارى ، وفريق كفر به وهم اليهود كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ : (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ) [الصف: من الآية14] ثم إن الكفار بدين عيسى عليه السلام أوغلوا صدر الحاكم الروماني عليه ، وزعموا أنه ينازعه الملك ، فصدر حكم ملك الرومان في فلسطين بقتله عليه السلام ، فاختفى هو وأتباعه من جند الرومان ، ووشى به أحد أصحابه ، ودلهم على مكانه ، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على هذا الواشي فقتل وصلب ، ورفع الله تعالى عيسى إليه ، واشتد الأذى على أتباعه رضي الله عنهم فطوردوا وعذبوا وسجنوا ، وقتل منهم من قتل، وظل الباقون على التوحيد الذي جاءهم به عيسى عليه السلام. ثم إن أحد اليهود الذين بالغوا في تكذيب عيسى عليه السلام ، وتلطخت يداه بتعذيب أتباعه زعم أنه رأى عيسى عليه السلام ، وأظهر الإيمان به ، وتظاهر بندمه على ما فعل بأتباعه ، فلما تمكن عند النصارى ، وعلا شأنه ، أدخل كثيرا من العقائد الوثنية اليونانية واليهودية في النصرانية ، ودعا إلى عقيدة الحلول والاتحاد بزعم أن الرب جل جلاله حلَّ في المسيح عليه السلام ، ثم قال بالتثليث ، وبعبادة الصليب ، فحرَّف هذا اليهودي النصرانية عن التوحيد إلى الشرك ، وقاوم أفكاره بعض الموحدين من النصارى ، لكن بعد ثلاثة قرون تمكنت الوثنية من دين النصارى ، التي تولى كبر إحداثها ونشرها اليهودي بولس الذي يسمى في الكتب اليهودية والغربية شاوول.
ولأن عقيدة التثليث مستمدة من العقائد الوثنية القديمة المبنية على تعدد الآلهة ، وهي عقيدة تتعارض مع العقل والفطرة ؛ فإن النصارى اختلفوا اختلافا كبيرا فيها ، وجمعوا فيها بين نقيضين فقالوا:تثليث في وحدانية أو وحدانية في تثليث ، ولا يستطيع نصرانيان أن يتفقا على معنى محدد لهذه العقيدة المتناقضة لا يختلفان فيه. ومن هنا فإن زعم بابا الفاتيكان أن مشيئة الله تعالى في العقيدة الإسلامية منقطعة عن العقل إنما هو في واقع الأمر وصف لعقيدته الباطلة التي يعتنقها ، ويضحك هو ورهبانه بها على الشعوب النصرانية التي أضلوها، وإلا فأي عقل في زعمهم بحلول الله تعالى في عيسى عليه السلام ، ثم قولهم بنبوته له سبحانه ، وهو عز وجل لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد ، وأي عقل ومنطق في عقيدة تجعل الإله ثلاثة الأب والابن وروح القدس ، فمن يعبدون ومن يدعون، وعند الشدائد إلى أي الثلاثة يلجأون، وأي عقل ومنطق في الخلط بين اللاهوت والناسوت ، ثم عدم القدرة على الفصل بينهما ، بل والعجز عن إفهام أتباعهم مبادئ تلك العقيدة التي تجمع النقائض ؛ ولذا فإنه على الرغم مما ينفقه المنصرون من أموال طائلة ، وما يبذلونه من جهود جبارة في سبيل إقناع الناس بعقيدتهم فإنهم لا يستطيعون إقناعهم بها ، وجلُّ الذين تنصروا إنما فعلوا ذلك جريا خلف منافع مادية ، وليس قناعة بدين الضالين من النصارى.
ثم إن النصارى بعد هذا الضلال الذي أدخل في عقيدتهم اختلفوا في مقدار ما في عيسى عليه السلام من الإلهية وما فيه من البشرية ، وهو ما يعرف بالخلاف على اللاهوت والناسوت ، فانقسم النصارى بسببه إلى طائفتين : الكاثوليك والأرثذوكس ، فكان الكاثوليك هم نصارى الغرب وعاصمتهم رومية ، وكان الأرثذوكس هم نصارى الشرق وعاصمتهم القسطنطينية.
ولما أكرم الله تعالى البشرية ببعثة خاتم النبيين محمد بن عبد الله القرشي صلى الله عليه وسلم انقسم النصارى تجاه دعوته إلى طائفتين :فطائفة آمنوا به وصدقوه ، وعرفوا أن ما جاءهم به هو الحق من عند الله تعالى ، قد بشرت به كتبهم ، وعلى رأس هذه الطائفة: صهيبٌ الرومي، وتميمٌ الداري ، والنجاشي الحبشي رضي الله تعالى عنهم . وفيهم وأمثالهم ممن آمنوا بنبيهم ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعث نزلت آيات كثيرة تمدحهم ، وتثني عليهم ، وتبين عظيم ثوابهم ( وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتَوْن أجرهم مرتين .." وذكر منهم : " ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمناً ، ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فله أجران" متفق عليه.
والطائفة الأخرى من النصارى لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم فريقان :فريق خضعوا لسلطان الإسلام قبل القتال، وصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ودفعوا الجزية ، فكانوا من أهل الذمة ؛ ومن هذا الفريق : نصارى نجران ، ونصارى دومة الجندل . وفريق آخر لم يخضعوا لسلطان الإسلام ، وقاتلوا المسلمين ، وهؤلاء خرج النبي صلى الله عليه وسلم لقتالهم ، وأرسل السرايا إليهم ؛ ومن هؤلاء : نصارى مؤتة ، ونصارى تبوك ، وأول مواجهة قتالية بين المسلمين والنصارى كانت في مؤتة ، ثم عزم النبي صلى الله عليه وسلم على مواجهتهم في تبوك لكن الله تعالى لم يقدِّر قتالاً ، ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سارت الجيوش الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ، ففتحت كثيرا من بلاد النصارى ، وأخضعتها لسلطان الإسلام ، ورفعت عن أهلها عسف الرهبان، وتسلط القياصرة ، واعترف كثير من المؤرخين النصارى بأن المسلمين كانوا أرحم بهم من ساستهم ورهبانهم ، وأن أكثر الشعوب النصرانية إنما دخلت في الإسلام طواعية لما رأوه من عدل المسلمين معهم ، ورحمتهم بهم يقول المؤرخ النصراني جوستاف لبون : وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم ، وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة ، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين على أمرهم ، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون بثه في أقطار العالم ، ولو عملوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم ، فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في القرون اللاحقة ، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وأسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم ، غير ضاربين عليهم في مقابل السلام الذي ضمنوه هم إلا جزية ضئيلة كانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل ، وما عرفت الشعوب فاتحاً بلغ هذا القدر من المسامحة ، ولا ديناً حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف.
ومن هنا نعرف أن وصف البابا الضال للإسلام بالدموية ، وبأنه إنما انتشر بحد السيف ، هو من الكذب المكشوف الذي يحاول فيه أئمة النصارى المحرفة صرف الناس عن الدخول في الإسلام ، وتلك الأوصاف التي أطلقها إنما هي أوصاف دينه المحرف ، وأوصاف حملته الذين يضلون الناس عن الحق إلى الباطل.
إن الأمة الكاثوليكية التي يتزعم دينها المحرف باباهم المنحرف هي أسوأ أمم النصارى ، وأكثرهم دموية في التاريخ ، بل لا يبالغ من يقول: لم يمر على البشرية أمة سفكت من الدماء ، ومزقت من الأشلاء أكثر من الكاثوليك ، ورغم فداحة ما عمله التتار الهمجيون بالمسلمين إبان إسقاطهم للخلافة العباسية فإن ما فعله الكاثوليك بالمسلمين في الحروب الصليبية وفي إسقاط الأندلس كان أشد وأنكى مما فعله المغول في بغداد، ولست أعلم أمة عانى المسلمون منها الويلات طوال تاريخهم كما عانوا من اليهود والكاثوليك.
وفي أخريات شهر شعبان من عام اثنين وتسعين وأربع مئة للهجرة دخلت جحافل الصليبين بيت المقدس في الحملة الصليبية الأولى ففعلوا بالمسلمين ما لا يحيط به الوصف ، وأنقل لكم شهادة مؤرخين صليبيين حضرا تلك النازلة ، وسجلا ما شاهدا بكل فخر واعتزاز ، يقول المؤرخ الصليبي فوشيه الشارتري : "ولو أنك كنت موجودا هناك لغاصت قدماك حتى العقبين في دماء المذبوحين ، ترى ماذا أقول ؟ لم نترك منهم أحدا على قيد الحياة ، ولم ينج حتى النساء والأطفال ..ثم ذكر أنهم كانوا يبقرون بطون المسلمين بحثا عن ذهب فيها ، وأنهم جمعوا في أزقة بيت المقدس أكواما من جثث المسلمين وأحرقوها " .
وذكر المؤرخ الصليبي ريمون الأجويلري بأن جنودهم كانوا يعذبون المسلمين ثم يقذفونهم في النار وهم أحياء ، يقول : "وكانت أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل تسترعي النظر في شوارع المدينة ، وكان المرء يشق طريقه بصعوبة بين جثث الرجال والخيول ، ولكن هذه كانت أمورا صغيرة إذا قورنت بما جرى في معبد سليمان ، ترى ما الذي حدث هناك ؟ إذا ذكرت الحقيقة فإنها ستتعدى قدرتكم على التصديق ؛ ولذا يكفي أن أقول : إنه في معبد سليمان كان الرجال يخوضون في الدماء حتى ركبهم وحزام ركابهم".
وذكر المؤرخ الغربي ديورانت "أن النساء كن يقتلن طعنا بالسيوف والحراب ، والأطفالَ الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم ، ويُقذف بهم من فوق الأسوار ، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد".
وفي مقابل هذه الصورة الدموية التي رسمها الكاثوليك فإن صلاح الدين رحمه الله تعالى لما افتتح بيت المقدس عفا عن الصليبيين ، وسمح لهم أن يخرجوا منها بأولادهم ونسائهم وأموالهم آمنين لا يمسهم أحد بسوء ، فهل كانت الدموية والعنف في دين الإسلام كما يزعم البابا وأتباعه ، أم هي في دين الكاثوليك المشركين ، ولست أعلم أن المرجعية الكاثوليكية في هذا الزمن وهي الفاتيكان قد اعتذرت للمسلمين عما فعله أجدادهم بأهل بيت المقدس في الحملة الصليبية الأولى ، بل إن بابا الفتيكان الهالك يوحنا بولس الثاني لما زار الشام قبل سنوات قلائل عزَّ عليه أن يعتذر لأهلها ما فعله أجداده بأجدادهم ، مما يدل على أن المتأخرين منهم يحملون ذات العقلية الدموية التي حملها أجدادهم من قبل ، ولو استطاعوا لأبادوا المسلمين عن بكرة أبيهم ، وتلك حقيقة مقررة في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) [البقرة: من الآية120] (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: من الآية105] (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [آل عمران:69] (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) [المائدة: من الآية3] حمى الله تعالى المسلمين من شرهم وكفرهم ، وأدار دوائر السوء عليهم إنه سميع مجيب ،
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا أمن إلا للمؤمنين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه ، والزموا طاعته ولا تعصوه (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور:52] أيها المسلمون : الحملة الفكرية التي يشنها أئمة الباطل على أهل الإسلام ليست مستنكرة ، وهذا دأبهم من قديم الزمان ، وهي حملة في هذا العصر تصاحب الحملات السياسية والعسكرية الرامية إلى احتلال بلدان المسلمين وتقسيمها ، ونهب ثرواتها ، وإشغال المسلمين في أنفسهم عن نشر دينهم.
كما تصاحبها حملات الإفساد المنظم في وسائل الإعلام المختلفة التي يتولى كبرها ، ويحمل وزرها المنافقون والشهوانيون في فضائياتهم وإذاعاتهم ، وصحفهم ومجلاتهم ، وأكثرهم يقوم بنفس الدور الذي يقوم به اليهود والنصارى ضد الإسلام والمسلمين.
أيها الإخوة : إنْ كان كبير النصارى قد اعتدى على النبي صلى الله عليه وسلم بما قال عليه من الله تعالى ما يستحق فإن جمعا من أبناء المسلمين يعتدون على دين النبي صلى الله عليه وسلم ، ويسخرون بشريعته ، ويهزأون بشعائرها ، ويدعون الناس إلى نبذها وتركها.
وفي كل سنة يخصصون رمضان الكريم بجملة جديدة من مشاهد السخرية بشعائر دين النبي صلى الله عليه وسلم كإكرام اللحى ، وتقصير الثياب ، وسنة السواك ، وحجاب المرأة ، وتحريم الخلوة بها أو سفرها بلا محرم ، كما يسخرون بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في مشاهد هزلية يفطر عليها الصائمون ، بل ويسخرون من عادات الناس وتقاليدهم ، وألسنتهم ولهجاتهم ، ويصورونهم في صور الدراويش والمغفلين ، ويزعمون هم ومن وراءهم أنهم ينتهجون النقد البناء الذي يكون سببا للإصلاح ، وأن عملهم هو خدمة للوطنية التي يتشدقون بها ، ثم مع زعمهم هذا ما رأيناهم ينتقدون المفسدين من أصحاب الفرق الضالة ، في عقائدهم الفاسدة ، وشعائرهم الباطلة التي يتقزز منها الأسوياء من بني البشر ، ولا رأيناهم ينقدون مشاريع المنحرفين من أهل التوجهات المشبوهة ، الذين يتربصون الدوائر بالبلاد والعباد ، وينشرون الفساد ، ويكيدون للمسلمين أعظم الكيد!!
ومن عجيب أمر الناس أنهم يغضبون إذا انتهك علج كافر دينهم ، أو سخر بنبيهم ، ولكنهم يرضون ذلك من أبناء جلدتهم ، فما الفرق بين الأمرين ، إلا أن المنافق والمنحرف أشد خطرا من الكافر الذي قد عُرِف حقده ، واتقي خطره.
إن حضور المجالس التي يسخر فيها بشيء من دين الله تعالى هو مشاركة ممن حضرها في تلك السخرية ، ولو كانت السخرية بشعيرة واحدة ، أو بحكم شرعي قد لا يهتم به بعض الناس ، ولا شك أن من يشاهد مثل تلك المشاهد عبر الشاشات متفكها بها ، غير منكر لها ؛ فإنه مشارك لأهل السخرية في سخريتهم بدين الله تعالى ، كيف وقد أمرنا الله تعالى بمجانبة مثل تلك المجالس المشؤمة التي يسخر فيها بدين الله تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام:68] فسماهم الله تعالى ظالمين ، ونهى عن القعود معهم ، وأمر بالإعراض عنهم ؛ مما يوجب على المسلم الإعراض عن تلك الشاشات التي تبث مشاهد السخرية بشيء من شعائر الإسلام.
بل إن الله تعالى حكم في الآية الأخرى على أن من شهدها فهو مثل المستهزئ بآيات الله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء:140] يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها ، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه". وأي إقرار أعظم من التفكه والضحك أثناء السخرية بشيء من شعائر الإسلام ، بل حتى السخرية بالناس لا يحل لمسلم أن يحضر مجالسها إلا على وجه الإنكار ، وما كانت السخرية في يوم من الأيام سبيلا للإصلاح ، ولا عرف عقلاء البشر ذلك لا في القديم ولا في الحديث ، ولكنه عمى البصائر ، واستحكام الأهواء ، واستعلان الفساد والنفاق.
وليس من شكر الله تعالى على نعمة إدراك رمضان قضاء أوقاته في تلك المشاهد الهازلة ، وليس من الفرح برمضان الفرح بها ، ومن فعل ذلك فهو يفرح بالمعصية في رمضان ، نعوذ بالله تعالى من الخذلان ، ونسأله تعالى أن يكف السفهاء والمنافقين عن غيهم ، وأن يبطل سعيهم ، ويرد عليهم كيدهم كما نسأله تعالى أن يبلغنا هذا الشهر العظيم ، وأن يعيننا على صيامه وقيامه ، وان يقبل منا ومن المسلمين ، إنه سميع قريب.
وصلوا وسلموا...
التعليقات