عناصر الخطبة
1/ جرَيان الأيام: عِبَرٌ ودروسٌ 2/ تسمية شعبان: أسرارٌ ومعالم 3/ هجرُ القرآن: أشكالٌ وألوان 4/ هاجِر القرآن: الحالُ والمآلُ 5/ هجر التلاوة: الأسباب والدوافعاهداف الخطبة
اقتباس
لقد هجرنا كتاب ربنا أيها الأحباب، نقولها بكل مرارة، لقد هجرنا كتاب ربنا إلا من رحم الله، فواقعنا وإعلامنا وأحوالنا ومعاملاتنا واهتماماتنا تؤكد ذلك وتجليه بما لا يحتاج إلى مزيد بيان، فهذا شهر القرآن على الأبواب؛ فكيف حال أمة القرآن مع القرآن؟ يقول ربنا -جل ذكره- في سورة الفرقان: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمـــُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: ها هي مراحل الزمن تُطْوَى، وها هي الأيام تمضي، يوم يتلوه يوم، وشهر يعقبه شهر، وكل ذلك في سرعة عجيبة.
وفي جريان الأيام على هذا النحو دلالة على اقتراب محطة البعث والنشور، دلالة على اقتراب اليوم المجموع له الناس، اليوم المشهود: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس:6].
اختلاف الليل والنهار دليل قائم واضح بيّن على اقتراب النهاية نهاية الوهم وبداية الحقيقة، لذلك يقول ربنا بعد هذه الآية مباشرة: (إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [يونس:6-8]، في إشارة واضحة إلى أن أول رسالة ينبغي أن يلتقطها الملتقطون من مرور الأيام وتعقب الأزمان هي الاستعداد للقاء الله، وعدم الرضا والاطمئنان بهذه الدنيا الفانية.
نعم؛ مرت الأعوام والشهور وجاء شعبان، وما أدراكم ما شعبان؟ "شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، ترفع فيه الأعمال إلى الله"، كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-.
وفي تسمية شعبان أسرار ومعالم، قال بعض أهل العلم: "إنما سمي شعبان لأنه يتشبع فيه خيرا كثيرا لرمضان"، وقيل: "لتشعّب القبائل المتفرقة فيه؛ لأن العرب كانت تفترق في رجب ولا تجتمع على الغارات فيه، ولذلك سمي برجب الأصم، فإذا انسلخ رجب اجتمعت وتشعبت كما كانت في غيره"، وقيل: "مشتق من شعب الخيرات".
فينبغي للمؤمن أن يجتهد فيه بالطاعات، ويكثر من الصيام والصلوات، ولقد أحسن القائل:
من ذا يشعّب في شعبانَ همَّته *** ويستقيمُ على الطاعاتِ إِذْعَانَا
فإنَّهُ شهرُ مَن تُرْجَى شَفَاعَتُهُ *** يومَ القيامةِ فيمن كان خوّانا
ولقد كان يسمى شعبان عند السلف بشهر القراء، رمضان شهر القرآن وشعبان شهر القراء، قال بعض السلف -رضوان الله عليهم-: كانوا إذا دخل شعبان أقبلوا على المصاحف، أي: زادوا من حصتهم من الإقبال على كتاب الله؛ وذلك استعدادا لشهر القرآن.
فأين نحن من هذه النفحات والأسرار؟ ما هي علاقتنا بالقرآن؟ منذ كم لم نختم كتاب الله؟ ما الذي دهانا؟ ما الذي شغلنا؟ ما الذي صرفنا عن كتاب ربنا؟.
لقد هجرنا كتاب ربنا أيها الأحباب، نقولها بكل مرارة، لقد هجرنا كتاب ربنا إلا من رحم الله، فواقعنا وإعلامنا وأحوالنا ومعاملاتنا واهتماماتنا تؤكد ذلك وتجليه بما لا يحتاج إلى مزيد بيان، فهذا شهر القرآن على الأبواب؛ فكيف حال أمة القرآن مع القرآن؟.
يقول ربنا -جل ذكره- في سورة الفرقان: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30]، آية تهز القلوب هزا، وتجتز منها مواقع الغفلة، إن كانت لا تزال فيها بقايا يقظة واعتبار، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو إلى ربه هجر قومه للقرآن وإعراضهم عن أنواره وغفلتهم عن أسراره.
ولا يظن أحد أن الوعيد المتضمن في هذه الآية خاص بالمشركين فقط، يقول الإمام القاسمي -رحمه الله- في تفسيره المسمى محاسن التأويل: "الآية وإن كانت في المشركين وإعراضهم وعدم إيمانهم إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به والأخذ بآدابه الذي هو حقيقة الهجر؛ لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك، إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها، ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها".
ويقول صاحب "الإكليل في استنباط التنزيل"، وهو الإمام السيوطي: قوله -تعالى-: (اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) فيه كراهية هجر المصحف وعدم تعهده بالقراءة فيه".
وكذا قال أبو السعود في تفسيره: "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم"، قال: "فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن كي لا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم"، ثم قال: "وفيه من التحذير ما لا يخفى".
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "هَجْرُ القرآن أنواع، إحداها هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه؛ والثاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به؛ والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته اللغوية لا تحصل العلم؛ والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم منه؛ والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) وإن كان بعض الهجر أهون من بعض" انتهى كلامه رحمه الله.
أيها الأحباب الكرام: لقد هجر القرآن تلاوة، وأعرض الكثيرون عن مذاكرته وحفظه ومجالس تذاكره بالرغم من حرصهم الشديد على مطالعة الصحف والمجلات والإنترنت والأفلام والمباريات!.
لقد هجر القرآن استماعا؛ بل ارتبط استماع القرآن في أذهان كثير من المسلمين بالأحزان، السرادقات التي تقام للمآتم؛ بل أقبل الناس على سماع اللهو والغناء والمزمار وهجروا القرآن الذي هو كلام العزيز الغفار.
وأنتم ترون مؤخرا انشغال إعلام المسلمين وانشغال كثير من المسلمين وانكبابهم على برامج المسابقات الغنائية التي تنهب فيها أموال المسلمين عن طريق الاتصالات والرسائل وغير ذلك، وكل بلد تصوت لممثلها ليستقبل بعد ذلك وكأنه بطل قومي فتح مِصرا أو حرر قطرا، في صورة من صور الاستخفاف بالعقول والتمكين لثقافة الأُفول والسفور والذبول، وكلها داخل في شكوى الرسول: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا).
متى كانت البطولة رقصا وتخنثا وعريا وفحشا؟! إنه خداع العقول، والتمكين للّا معقول، وواقع المسلمين اليوم وما ينتظرهم غدا لا يحتمل ذلك، ولا يتناسب مع ذلك، فواقعهم اليوم قتل وذبح واعتداء على الحرمات، كما في سوريا وبورما والعراق وفلسطين وغيرها من بقاع المسلمين، والذي أمامهم غدا موت وقبر وحشر ونشر، ووقوف بين يدي جبار الأرض والسماوات للمحاسبة والمساءلة؛ قال تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ) [النجم:59-61]، يعني من السمود، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: (وَأَنتُمْ سَامِدُونَ)، قال: "هو الْغِنَاءُ بِالْحِمْيَرِيَّةِ"، يعني بلغة حِمَير.
وقال صاحب الإكليل في هذه الآية: "استحباب البكاء عند القراءة، وذم الضحك والغناء واللهو واللعب والغفلة".
لقد هجر القرآن تدبرا، القرآن الذي لو أنزل على الجبال الرواسي الشامخات لصدعت من خشية الله؛ إذ به يقرأ، وآيات الوعد والوعيد تسمع، ولكن وجد قلوبا قاسية، وأبدانا جامدة، وعيونا متحجرة؛ فلا قلب يخشع، ولا بدن يخضع، ولا عين تدمع!.
لقد هجر القرآن عملا؛ فإذا بالقرآن الذي هو منهاج حياة متكامل يصير في واقع الناس آيات تقرأ عند القبور ويهدى ثوابها للأموات! أو تصنع منه التمائم والأحجبة تعلق على صدور الغلمان والصبيان، أو يوضع في البيوت والمحلات والسيارات للحفظ والبركة!.
هجر القرآن في أفراحنا وحفلاتنا، تقام الأفراح والأعراس وفيها ما فيها من الإسراف والاختلاط والفسق، حتى إذا فرغ من الحفل جيء بمن يقرأ بالقرآن على سبيل التبرك وكان الأولى أن يكون القرآن حاكما على أفراحنا ومناسباتنا وحركاتنا وسكناتنا.
لقد هجر القرآن تحاكما وحكما، ووقع المنكر الأعظم، وذلك بتنحية كتاب الله عن الحكم بين الناس؛ لتحل محله القوانين الوضعية، وأقوال الرجال تحكم بالدماء والأموال والأعراف.
لقد هجر القرآن استشفاءً وتداويا، ولجأ بعض الناس إلى السحرة والعرافين والدجالين يطلبون منهم الشفاء لأمراضهم وأدوائهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله منزل الكتاب، وجاعله هدى وذكرى لأولي الألباب، أحمده أن كشف ما يشهد لأحقيته في كل باب، ودفع عنه كل ما يستراب، والصلاة والسلام على النبي الأواب، سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله والأصحاب، وعلى من سار على النهج واقتفى الأثر إلى يوم الحساب.
معاشر الأحباب: إن صاحب هجر القرآن من أعظم الناس ظلما، وأشدهم جرما؛ لأنه أعرض عن كلام ربه الذي فيه نجاته وسلامته، وحرم لذته: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) [الكهف:57].
وهاجر القرآن متوعد بالمعيشة الضنك، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124]، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في بيان حال من هجر القرآن: "فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره الضيِّق الحرج؛ لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء".
ويقول ربنا في بيان حال المعرض عن الكتاب: (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) [الجن:17] قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية: "أي: عذاب مشقا موجعا شديدا مؤلما"، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد: (عَذَابًا صَعَدًا) "أي: مشقة لا راحة معها"، وقيل: "هو جبل في جهنم" عياذا بالله الأكرم!.
ويقول ربنا كذلك: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]، قال -تعالى-: (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا) [النساء:38]، أي: هذا الذي تغافل عن الهدى وعن القرآن نقيض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم.
والمعرض عن القرآن مهدد بالحسرة والندامة يوم القيامة، يقول تعالى (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ...) أي عند القرآن (... بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان:27-29].
والمعرض عن الكتاب متوعد بالحرمان من شفاعة القرآن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" رواه مسلم.
ومن لطائف الموافقات، وجميل الإشارات، أن كل الآيات التي تتوعد هاجر القرآن جاءت في سور تبتدئ بذكر القرآن والإشارة إلى مكانته، قال -تعالى-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)، هذه الآية جاءت في سورة الفرقان والتي مطلعها: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1].
وآية: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124]، جاءت في سورة طه والتي مطلعها (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى) [طه:1-3].
وآية: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36]، جاءت في سورة الزخرف والتي مطلعها: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:1-3]
وآية: (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) [الجن:17]، جاءت في سورة الجن والتي مطلعها: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن:1-2].
ثم إن هاجر القرآن المنشغل عنه بالتفاهات من تكالب على الحطام، وانشغال بالمعازف والقيان، متوعد بسوء الخاتمة عياذا بالله؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "يموت المرء على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه".
وقد حدث بعض الفضلاء عن جار له كان من المنشغلين بالمعازف والقيان، الهاجرين للقرآن، قال: حضرته وهو على فراش الموت، وكان صوت الغناء منبعثا في نواحي المنزل، فأمرتهم بتوقيف الغناء، فكشف عن وجهه وقال: دعه؛ فإنه ينعش قلبي، ومات على ذلك عياذا بالله الواحد الأحد!.
وسنشير في ومضات سريعة إلى مسألة هجر التلاوة، وبيان بعض أسبابها، ونقول:
أولا: من أسباب هجر تلاوة القرآن الجهل بفضل تلاوة القرآن.
ثانيا: الانشغال بالدنيا.
ثالثا: الفتور وضعف الهمة.
رابعا: تقديم طلب العلوم الأخرى على القرآن.
خامسا: الغزو الفكري والحرب المعلنة ضد القرآن.
أولا: الجهل بفضل تلاوة القرآن: إن كثيرا من أبناء المسلمين يجهلون فضل تلاوة القرآن الكريم والثواب المترتب عليه، وهذا من أكبر دواعي هجر تلاوة القرآن وعدم الاعتناء بتحصيله، ولو يعلم المرء ما في هذا القرآن من الفضل العظيم والثواب الجزيل ومنزلة قارئه في الدنيا والآخرة لجعله أنيسه آناء الليل وأطراف النهار، وما غفل عنه طرفة عين.
ويكفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ؛ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ" رواه الترمذي والحاكم والدارمي وصححه الألباني.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يقال لصاحب القرآن – يعني في الجنة- اقرأ وارتقِ ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها" رواه الترمذي وصححه الألباني.
قال خباب بن الأرت -رضي الله عنه-: "تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّكَ لَنْ تَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ مِنْ كَلامِهِ".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر؛ فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله".
وقال بعض السلف لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: واغوثاه لمؤمن لا يحفظ القرآن! فبما يترنم؟ فبما يتنعم؟ فبما يناجي ربه؟.
السبب الثاني لهجر القرآن هو الانشغال بالدنيا: إن الواقع الذي يعيشه بعض هذه الأمة من البعد عن الله والجرأة على ما حرم الله والتعامل بالربا وغير ذلك من المعاصي والآثام أوقعهم في المعيشة الضنك؛ فبدأ الناس يلهثون وراء الدنيا ويواصلون الليل بالنهار لسد تلك الاحتياجات الضرورية، فضلا عن الكمالية، وقلّ ما يجد أحدهم وقتا يقرأ فيه القرآن أو يستمع إليه، فما إن يعود إلى بيته حتى يجد نفسه منهكا متعبا يتمنى رؤية الفراش، فيغفل عن القرآن ولا يأتي على باله قراءة شيء من كتاب الله.
ولو يعلم هؤلاء الغاية التي خلقوا من أجلها لتغير حالهم، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58].
لو علموا هذا لوجب عليهم الاعتناء بما خلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفاذ لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشروع انفصام لا موطن دوام؛ فملكها يفنى، وجديدها يبلى، وكثيرها يقل، وعزيزها يذل، وحيها يموت، وخيرها يفوت.
ولهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العبّاد، وأعقل الناس فيها هم الزهّاد، وصدق الله إذ يقول: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) [الكهف:45].
وسنواصل إن شاء الله مع بعض هذه الأسرار.
فيا أيها الأحباب: هذه مواسم الإنابة، فيها تفتح أبواب الإجابة، أين اللائذ بالجناب؟ أين المتعرض للباب؟ أين الباكي على ما جنى؟ أين المستعد لأمر قد دنا؟ ألا رُبّ فرح بما يأتي قد خرج اسمه في الموتى، ألا رب غافل عن تدبر أمره قد انفصمت عرى عمره، ألا رب مقيم على جهله قد قرب رحيله عن أهله، ألا رب مشغول بجمع ماله قد حانت خيبة آماله، أين المعتذر مما جناه؟ فقد اطلع عليه مولاه!.
اللهم أصلح أحوالنا...
التعليقات