عناصر الخطبة
1/معنى العضل 2/صور العضل 3/أسباب العضل 4/تحريم العضل 5/من آثار العضل وأضراره.اقتباس
وَمِنْ أَسْبَابِ عَضْلِ الْبَنَاتِ: اتِّبَاعُ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَبَعْضُ الرِّجَالِ يَرْفُضُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ إِلَّا مِنْ أُسْرَتِهِ أَوْ أُسْرَةٍ يَرَاهَا مُكَافِئَةً لَهُ فِي النَّسَبِ أَوِ الْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَكُلَّمَا طَرَقَ الْبَابَ خَطِيبٌ لِابْنَتِهِ رَدَّهُ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ مَيْلَ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَمَيْلَ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ فِطْرَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلِذَا امْتَنَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى عِبَادِهِ بِنِعْمَةِ الزَّوَاجِ؛ فَقَالَ -تَعَالَى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21]؛ فَإِشْبَاعُ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ بِالْحَلَالِ أَمْرٌ حَثَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَرَغَّبَ فِيهِ، وَالرَّجُلُ هُوَ الْقَيِّمُ عَلَى هَذِهِ الْأُسْرَةِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنِ الزَّوَاجِ، وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ يَجِبُ تَأْدِيَتُهَا؛ مِنْ رِعَايَةِ الْأُسْرَةِ، وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، وَحُسْنِ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْبَنَاتِ جُزْءٌ مِنْ تَرْكِيبَةِ الْأُسْرَةِ، وَالْمَرْأَةُ بِطَبِيعَتِهَا ضَعِيفَةٌ؛ لِذَا فَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَحُوطَهَا بِعِنَايَتِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَفِّرَ لَهَا مُتَطَلَّبَاتِهَا الْفِطْرِيَّةَ؛ إِذْ هِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ يُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ شَدَّدَ الشَّرْعُ فِي حُقُوقِ الضُّعَفَاءِ؛ فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "إِنَّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمُ، وَالْمَرْأَةُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ)؛ أَيْ: أُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِمْ، وَأُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ظُلْمِهِمْ، وَ"الضَّعِيفَيْنِ" هُمَا اللَّذَانِ لَا حَوْلَ لَهُمَا وَلَا قُوَّةَ، وَلَا ينْتَصِرانِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَقَدْ وَصَفَهُمَا بِالضَّعْفِ اسْتِعْطافًا وزِيَادَةً فِي التَّحْذِيرِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا كَانَ أَضْعَفَ كَانَتْ عِنَايَةُ اللهِ بِهِ أَتَمَّ، وَانْتِقَامُهُ مِنْ ظَالِمِهِ أَشَدَّ، وَحِينَ يَكُونُ الظُّلْمُ مِنْ قَرِيبٍ فَذَلِكَ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِيلَامًا؛ كَمَا قِيلَ:
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً *** عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهنَّدِ
وَإِنَّ مِنَ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ فِي حَقِّ الْبَنَاتِ: عَضْلَهُنَّ، وَالْعَضْلُ: هُوَ مَنْعُ الْبِنْتِ مِنَ الزَّوَاجِ إِذَا تَقَدَّمَ لَهَا كُفْؤٌ مِمَّنْ تَرْضَاهُ وَتُوَافِقُ عَلَيْهِ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ مَقْبُولٍ، أَو مَنعَهَا مِنْ زَوجَهَا أَنْ تَرجِعَ إِلِيه إِذَا تَرَاضَيَا؛ ففي الأولى حَذَّرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ رَدِّ الْخَاطِبِ بِقَوْلِهِ: "إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَلِعَضْلِ الْبَنَاتِ صُوَرٌ؛ مِنْهَا:
تَزْوِيجُ الْبِنْتِ بِمَنْ لَا تَرْضَاهُ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ إِكْرَاهِ الْمَرْأَةِ فِي الزَّوَاجِ بِمَنْ لَا تَرْغَبُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ؛ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ، وَأَنَا كَارِهَةٌ، قَالَتْ: اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَرْسَل إِلَى أَبِيهَا فَدَعَاهُ، فَجَعَل الْأَمْرَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ لِلْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ"(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ).
وَمِنْ صُوَرِ الْعَضْلِ: أَنْ تُحْجَرَ الْبِنْتُ لِقَرِيبٍ لَهَا، وَفِي بَعْضِ الْمُجْتَمَعَاتِ يَحْتَكِرُونَهَا وَهِيَ لَا زَالَتْ طِفْلَةً صَغِيرَةً، وَحِينَمَا تَكْبَرُ يُرَدُّ كُلُّ خَاطِبٍ بِحُجَّةِ أَنَّهَا مَحْجُوزَةٌ؛ حَتَّى يَعْزِفَ عَنْهَا الْخُطَّابُ؛ لِمَا يَنْتَشِرُ عِنْدَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَعَارِفِ أَنَّهَا قَدْ حُجِزَتْ لِفُلَانٍ مِنْ أَقَارِبِهَا، وَلَا يُهِمُّ الْأَهْلَ إِنْ نَشَأَ مَنْ حُجِزَتْ لَهُ صَالِحًا أَمْ سَيِّئًا؟ أَمْ رَفَضَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟! فَالْبِنْتُ هِيَ مَنْ تَتَضَرَّرُ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ؛ فَيَا لَهَا مِنْ عَادَاتٍ قَبِيحَةٍ، كَيْفَ تَسْتَسِيغُهَا الْعُقُولُ وَتُقِرُّهَا الضَّمَائِرُ وَالْأَعْرَافُ؟!
ومن صور العضل: منعها من زوجها أن ترجع إليه إذا تراضيا؛ لقوله تعالى: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)[البقرة: 232].
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ عَضْلِ بَعْضِ الرِّجَالِ بَنَاتِهِمْ: جَهْلَهُمْ بِدِينِ اللهِ -تَعَالَى-، يَظُنُّونَ -وَبِئْسَ الظَّنُّ!- أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ مَمْلُوكَةٌ عِنْدَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِهَا كَيْفَ يَشَاؤُونَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سِمَاتِ الرُّجُولَةِ! وَمَا يَدْرِي ذَلِكَ الْجَاهِلُ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ كَرَّمَ الْمَرْأَةَ وَجَعَلَ لَهَا حُقُوقًا، وَفِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ نَوَّهَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَى احْتِرَامِ الْمَرْأَةِ وَتَكْرِيمِهَا فَقَالَ: "اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنْ أَسْبَابِ عَضْلِ الْبَنَاتِ: اتِّبَاعُ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَبَعْضُ الرِّجَالِ يَرْفُضُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ إِلَّا مِنْ أُسْرَتِهِ أَوْ أُسْرَةٍ يَرَاهَا مُكَافِئَةً لَهُ فِي النَّسَبِ أَوِ الْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَكُلَّمَا طَرَقَ الْبَابَ خَطِيبٌ لِابْنَتِهِ رَدَّهُ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، إِلَّا أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْهُمْ نَسَبًا وَحَسَبًا! فَكَمْ فِي الْبُيُوتِ مِنَ الْعَوَانِسِ اللَّاتِي قَدْ تَخَطَّيْنَ سِنَّ الزَّوَاجِ بِسَبَبِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْعَصَبِيَّاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ! أَلَا يَعْلَمُ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلدِّينِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَوَّجَ ابْنَةَ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بْنِتَ جَحْشٍ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ مِنْ أَفْضَلِ الْعَرَبِ نَسَبًا، زَوَّجَهَا مِنْ رَقِيقِهِ الَّذِي أَعْتَقَهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟! أَلَمْ يَسْمَعْ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)؟!
وَمِنْ أَسْبَابِ عَضْلِ الْبَنَاتِ: طَمَعُ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ فِي رَاتِبِ بَنَاتِهِ؛ فَإِذَا سَاءَ خُلُقُ الْأَبِ وَضَعُفَ دِينُهُ فَمَاذا تَنْتَظِرُ؟! إِنَّهُ الطَّمَعُ وَالْجَشَعُ الَّذِي يُعْمِي الْبَصِيرَةَ؛ فَيَجْعَلُ الْأَبَ كَالصَّخْرِ قَاسِيًا لَا يُفَكِّرُ إِلَّا فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ يَخْشَى فَوَاتَ مَا يَسْتَلِمُ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ أَمْوَالِ ابْنَتِهِ؛ لِذَلِكَ يَضَعُ أَمَامَهَا الْعَرَاقِيلَ كَيْ لَا تَتَزَوَّجَ وَتَذْهَبَ عَنْهُ وَمَالُهَا بَعِيدًا!
وَمِنْ أَسْبَابِ عَضْلِ الْبَنَاتِ: التَّعْقِيدَاتُ الْكَبِيرَةُ، وَالتَّكَالِيفُ الْكَثِيرَةُ، وَالْقُيودُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُجْتَمَعُ عَقَبَاتٍ أَمَامَ الزَّوَاجِ؛ حَيْثُ أَصْبَحَ الزَّوَاجُ أَمْرًا صَعْبَ الْمَنَالِ، وَلِلْأَسَفِ فَإِنَّ مَنْ يَدْفَعُ ثَمَنَ هَذَا هُنَّ الْبَنَاتُ فِي الْغَالِبِ، فَتَمْضِي عَلَيْهِنَّ السَّنَوَاتُ تِلْوَ السَّنَوَاتِ يَنْتَظِرْنَ مَنْ يَطْرُقُ الْبَابَ مِنَ الْخُطَّابِ فَلَا يَجِدْنَ! فَهَلْ نَتَّقِي اللهَ فِي بَنَاتِنَا وَأَوْلَادِنَا، وَنُيَسِّرُ لَهُمْ مَا يُعِفُّهُمْ عَنِ الْحَرَامِ فِي ظِلِّ هَذَا الِانْفِتَاحِ الْجَارِفِ عَلَى الشَّهَوَاتِ؟ أَلَا هَلْ مِنْ مُتَأَسٍّ بِشُعَيْبٍ حِينَ أَرَادَ السَّتْرَ وَالْعِفَّةَ لِبَنَاتِهِ فَلَمْ يَسْتَحِ، وَعَرَضَ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَرْضًا، فَقَالَ: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ)[القصص: 27].
أَيُّهَا الْآبَاءُ: اتَّقُوا اللهَ فِي بَنَاتِكُمْ، إِيَّاكُمْ أَنْ تَظْلِمُوهُنَّ لِجَشَعٍ فِي الدُّنْيَا أَوْ لِعَادَاتٍ جَاهِلِيَّةٍ بَائِسَةٍ، وَاحْذَرُوا أَنْ يَكُنَّ خَصْمَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)[النساء: 19]، يَقُولُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ: "لَا يَحِلُّ لِلْأَبِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْبُرَ الْمَرْأَةَ عَلَى التَّزَوُّجِ بِمَنْ لَا تُرِيدُ وَإِنْ كَانَ كُفْئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ"، وَهَذَا عَامٌّ لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، بَلْ قَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "الْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا"؛ فَنَصَّ عَلَى الْبِكْرِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبِ، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ إِجْبَارُ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ بِشَخْصٍ لَا تُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهُ يَكُونُ مُحَرَّمًا"(فَتَاوَى نُور عَلَى الدَّرْبِ).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَصَلَاةً وَسَلَامًا عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَضْرَارٍ، وَإِنَّ عَضْلَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ، وَلَهُ أَضْرَارٌ، مِنْهُا: إِصَابَةُ الْمَرْأَةِ الْمُتَضَرِّرَةُ بِالْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ نَتِيجَةً لِضَعْفِ الْمَرْأَةِ وَشِدَّةِ عَاطِفَتِهَا؛ فَأَحْيَانًا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعَبِّرَ بِلِسَانِهَا عَمَّا فِي نَفْسِهَا مِنْ ظُلْمِ أَبِيهَا، فَتَكْظِمُ ذَلِكَ حَتَّى تُصَابَ بِعُقَدٍ نَفْسِيَّةٍ أَوِ اكْتِئَابٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْقِصَصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَحِينَ تَتَبَّعَ الْأَطِبَّاءُ سَبَبَ ذَلِكَ وَجَدُوهُ رَدَّ الْأَبِ لِكُلِّ خَاطِبٍ يَطْرُقُ بَابَ ابْنَتِهِ، وَقَلَقَ الْبِنْتِ الْمُتَزَايِدَ مِنْ أَنْ يَفُوتَهَا قِطَارُ الزَّوَاجِ، وَعَدَمَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْإِفْصَاحِ عَنْ ذَلِكَ! وَكَمْ مِنْ آبَاءٍ عَضُّوا أَصَابِعَ النَّدَمِ عَلَى بَنَاتِهِمْ، لَكِنْ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ؛ فَاعْتَبِرُوا!.
وَمِنْ أَضْرَارِ عَضْلِ الْبَنَاتِ: كُرْهُهُنَّ لِآبَائِهِنَّ؛ وَهَذِهِ نَتِيجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِلظُّلْمِ الَّذِي مُورِسَ بِحِقِّهِنَّ، وَقَدْ تُؤَدِّي هَذِهِ الْمَشَاعِرُ السَّلْبِيَّةُ تِجَاهَ الْأَبِ إِلَى الْعُقُوقِ، وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ عَلَيْهِنَّ، خَاصَّةً عِنْدَ كِبَرِهِ وَضَعْفِهِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ السِّنِّ وَالْعَجْزِ فِي حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى بِرِّ أَبْنَائِهِ خَاصَّةً الْبَنَاتِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ تَذَكَّرْ حِينَ تَظْلِمُ ابْنَتَكَ حَالَ قُوَّتِكَ: أَنَّكَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
فَتَاةٌ أَصَابَهَا الْمَرَضُ النَّفْسِيُّ لِكَثْرَةِ خُطَّابِهَا، وَإِصْرَارِ وَالِدِهَا عَدَمَ تَزْوِيجِهَا دُونَ مُبَرِّرٍ، وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهَا الْمَرَضُ وَشَعَرَتْ أَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ، هَمَسَتْ لِوَالِدِهَا أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْهَا فَفَعَلَ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ! قُلْ: آمِينَ، فَقَالَ، ثُمَّ قَالَتْ: قُلْ: آمِينَ، فَقَالَ، ثُمَّ قَالَتْ: قُلْ: آمِينَ، فَقَالَ، ثُمَّ قَالَتْ: حَرَمَكَ اللهُ الْجَنَّةَ؛ كَمَا حَرَمْتَنِي مِنَ الزَّوَاجِ"، وَحَكَى بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ فَتَاةً لَمْ تَتَزَوَّجْ فَمَرِضَتْ، فَلَمَّا حَضَرَهَا الْمَوْتُ أَشْهَدَتْ مَنْ حَوْلَهَا مِنَ النِّسَاءِ بِوَصِيَّةٍ إِلَى أَبِيهَا؛ تَقُولُ كَلَامًا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَبَاهَا قَدْ مَنَعَهَا مِنْ الْخُطَّابِ الْأَكْفَاءِ، وَأَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَوْقِفًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ!
وَمِنْ أَضْرَارِ عَضْلِ الْبَنَاتِ: انْتِشَارُ الرَّذِيلَةِ وَالْفَاحِشَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"، وَالْفَسَادُ الْعَرِيضُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْفِتْنَةِ مِنَ الشَّرِّ وَانْتِشَارِ الزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَنْ مَنَعَ تَزْوِيجَ مُولِيَّتَهُ بِمَنْ يَرْضَى دِينَهُ وَخُلُقَهُ؛ "لِأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوهَا إِلَّا مِنْ ذِي مَالٍ أَوْ جَاهٍ، رُبَّمَا يَبْقَى أَكْثَرُ نِسَائِكُمْ بِلَا أَزْوَاجٍ، وَأَكْثَرُ رِجَالِكُمْ بِلَا نِسَاءٍ، فَيَكْثُرُ الِافْتِتَانُ بِالزِّنَا، وَرُبَّمَا يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ عَارٌ؛ فَتَهِيجُ الْفِتَنُ وَالْفَسَادُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ النَّسَبِ، وَقِلَّةُ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ".
أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ الْآبَاءُ وَأَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ فِي بَنَاتِهِمْ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ الْبَنَاتِ عِنْدَهُمْ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَاللهُ سَائِلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْهُنَّ: هَلْ نَصَحُوا وَحَفِظُوا أَمْ فَرَّطُوا وَضَيَّعُوا؟ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بنَصِيحَةٍ، إلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ"(متفق عليه).
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ، الَّذِي أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات