اقتباس
صِنف من هذا الصنف، مُصرٌّ على أنه قطب الرَّحى، ولولا جهدُه بعد الله لمَّا تحرَّكت الجماهير النائمة، هو مَن كتَب يوم سكتَت الأقلام، وهو مَن سهر لما كان ساسَة الخمسة النجوم يغطُّون في نوم عَميق، وهو الذي...
كان أحد الصالحين يكثر من دعاء يُردِّده: "اللهم إني أعوذ بك مِن صُحبةِ مَن غايتُه خاصةُ نفسه دون غيره".
حقًّا إنها مصيبة، ألا يكون للمرء مِن همٍّ إلا ذاته، ولا يُفكِّر إلا في نفسه، وكل تدبيره وتخطيطه يركِّز على طرائق الوصول لتلبية داعي الشهوة، لهذه النفس التي جعلها محرابًا يتَّجه إليه، ويتقلَّب في عالم التِّيه بين جنباته.
كل المسائل تدور حيث تُلبِّي شهوة الذات عنده، فإن كان ذلك كذلك، تنتشي النفس وتَرتفِع، وتَشعُر بالسعادة التي هي مبعَث الأمل، وغاية المُنى بالنِّسبة لصاحبها، وبعدها ليكن ما يكون، وليَحدُث ما يَحدث، ولو على حساب الدم، وخراب الدنيا، فإذا النفس بخير، فهو بخير، وإن كان غير ذلك، فالدنيا كلها خراب، وإن عمرت بالفضل، وازدانَت بالبناء، وتجمَّلت بثوب الصلاح.
هذا الصِّنف يَذكُر نفسه ويتحدَّث عنها، أكثرَ مِن ذكرِه لأيِّ شيء آخَر، ويتكلَّم عن إنجازاته بصورة لَهثٍ لا مَثيل لها، عندما يَصف نفسه يَحار في انتقاء الجُمل، واختيار الألفاظ، التي ربما لم تفِ صاحب الفضل، ولم تَعترِف بفضله، ويَبذُل جهدًا مدروسًا - بطريقة أو بأخرى - في اختيار الأساليب التي تُعبِّر عما يَختلِج في ثنايا نفسه، من معاني الغرور، ومعالم تضخُّم الذات.
إذا حاضَرَ في موضوعٍ يتحدَّث عنه عرضًا في زاوية من زوايا الحديث، وجلُّ الحديث يكون عن أبحاثه وفكره، وأسلوبه في الحوار، وتجاربه التي لا تُضام! وماذا صنع في اليوم الفلاني، وكيف أَثنى عليه فلان من الناس الثناء العاطر، ولا يَنسى ذلك اليوم الذي خطَب فيه خطبة عصماء، حرَّكت المشاعر، وألهبَت الحماس، ويتشدَّق ويدَّعي، بصورة مؤلِمة، وبشكل مملٍّ، يبعَث على الغثَيان، وهو يظنُّ أنه لا مَثيل له بين البشَر، والمُشكِلة كلّ المُشكِلة أن الناس لم يَلتفِتوا إلى مواهبِه، ولم يَتعرَّفوا قدرته العلمية العالية، وموهبته القيادية الفذة.
مدْحُ نفسِه ديدنُه، محاولة لفت أنظار الناس لمواهبه سيرتُه، سَردُ بعض تاريخه في كل مجلس مَنهجُه، إن كتب مقالة يحمل الناسَ على قراءتها حملاً، وربما نسَخ كثيرًا منها، ليُوزِّعها على كل مَن رأى، ولا يكتفي بهذا فلا بدَّ أن يشرَح ويُبيِّن، ومصيبتُه أنه لا يجيد قراءة الجوِّ الذي يكون فيه، وربما فسَّر الملَل بالطرَب، والتثاؤب بالنشاط.
يُذكِّرني دائمًا بذلك الذي قام ليُنشد، فكَرِهَ الناس صوتَه، وتعبيرًا عن رفضهم له، صاروا يضربونه ببقايا طعامٍ كان أمامهم، فصاحب الصوت الشجي فسَّر هذا بحب الجماهير له، واستعذابهم لصوته المخمليِّ، فأخذ يُحيِّيهم، ويقول لهم: أنا معكم إلى الصباح، فلا تخافوا ولا تحزنوا!
إذا دار نقاش في أي مسألة من مسائل الحياة؛ في الاقتصاد، والاجتماع، والأدب، والفقه والدين، فهو الذي لا يُبارى، ولا يُجارى، وهو يفهَم في كلِّ شيء، والناس يَظلمونه لأنهم لم يُعطوه الوقت الكافي، لبيان آرائه بشكل كامل، ويكون قد أخذ تسعين بالمائة من وقت الناس، في الجلسة، أو في الندوة.
وتقوم الدنيا ولا تَقعُد، إن خالفه أحد في فكرة، أو ردُّوا كلامه بمسألة، أو عقَّبوا على حديثه بتصحيح، وهذا مِن تضخُّم الذات.
الويل كل الويل لمَن دعا إلى لقاء ولم يَدْعُه! العار والشنار لمَن عقَد حلقة نقاش ولم يكن صاحبنا على رأس الحاضرين! الكارثة العُظمى تكون إن علم بمؤتمر ولم يدْعُه أصحاب المؤتمر والقائمون عليه!
يرى نفسه مؤهَّلاً لكلِّ أمر، ويجب أن يَحضر في كل محضر، ولازم أن يكون في مقدمة أي فعل، وإلا فإن مؤامرة كبيرة حِيكَت له، وراءها من وراءها مِن الذين لا يحبونه، ولا يُقدِّرون علمه، ولا يَعرِفون فضله.
كيف يكون اللقاء الفلاني ولم يُدْعَ؟!
حضر الحفل العلاني، ولم يُقدِّموه لإلقاء كلمة، إنه التهميش المتعمَّد الذي يعمل على إقصاء أصحاب الفكر، وإبعاد أهل الرأي، وفي حقيقة الأمر الرجل لا يُريد إلا نفسه، فلو دُعي فالدنيا سلام وأمان، ولو قُدِّم فالحياة تَمشي على منوال صحيح، ودرب نيِّر.
لا تتصوَّر ماذا سيَحدُث، إذا كانت هناك غنيمة مِن وحل وطين، ولم يكن له نصيب الأسد منها، فلا يترك كلمة في قاموس اللغة، تُساعِده على الشكوى، وكثرة اللجَج، إلا استخدمها، وثرثرَ فيها؛ ليكون جواب مَن خبروه، وعرفوا علته: أَعطُوه شيئًا وأَسكتوه، وأغلقوا هذه المعزوفة التي لا تنتهي، بل تتَّسع كلما نقص الإمداد عنها، ومصيبة أن تكون الحياة على هذا المِنوال، وهذه الصورة؛ لأنها تؤدِّي في نهاية المطاف إلى أزمة في السيرة والسلوك.
وهذا من تضخُّم الذات.
يحب التصدُّر في كل مشهَد، ويعشق أن يكون تحت الأضواء، وهو مِن الذين يُحبُّون أن يُحمَدوا بما لم يَفعلوا، وشاطر كثيرًا في التلبُّس، ويتقن فنَّ أمكنة (الكاميرا)؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: "المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثَوبَي زُور".
صِنف من هذا الصنف، مُصرٌّ على أنه قطب الرَّحى، ولولا جهدُه بعد الله لمَّا تحرَّكت الجماهير النائمة، هو مَن كتَب يوم سكتَت الأقلام، وهو مَن سهر لما كان ساسَة الخمسة النجوم يغطُّون في نوم عَميق، وهو الذي ضحَّى، وكان غيره يَقطف الثمرة، وهو مَن وقف في وجه الطغيان، بينما الآخرون كانوا شياطين خرسًا.
من هنا لا بد من ثمن لهذا، فيَدخل بنفسه المُثقَلة بكل هذه العوائق، يُريد لها حظَّها، ويبحث لها عن مكان صدارة، ربما وجده في خَرِبة، فيها تَيس ميِّت.
يا قومنا، أجيبوا داعي الله، فأَخلصوا النيات، وتجرَّدوا عن حظوظ الذات وتضخُّمها، فمِن وصفِ جيل النصر أنهم من خَلصت نفوسهم من حظوظ نفوسهم، "ومن تواضع لله، رفعه الله".
التعليقات