عناصر الخطبة
1/من مواقف يوم القيامة 2/ما يصحب المؤمن في ذلك الموقف 3/من ثمرات العمل الصالح 4/فضل أيام العشر من ذي الحجة 5/الحث على اغتنام هذه الأياماقتباس
إنما هي عشرةُ أيام, قليلةُ العدد, كثيرةُ البركة, لا مثيلَ لها في العام, هو أعظمُ موسمٍ تستزيدُ فيه من العملِ الصالحِ, ولتكونَ من الفائزينَ في هذا الموسم، فأنتَ محتاجٌ إلى توفيقِ من اللهِ تستجلبُه بالانطراحِ بين يديه, وسؤالِ العونِ والمددِ من لدنْه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد: في يومٍ من الأيام, وبعد انتظارٍ صعب, وتَرقّبٍ مَهيب, المشاهدُ تَخطِفُ الفؤاد؛ أبصارٌ خاشعة, وقلوبٌ واجفة, وبينما أنتَ في ذلك الموقفِ ستُدعى, نعمْ! ستدعى باسمِك, فلان بن فلان, سَتُنادى لتتقدمَ من بينِ المليارات, الخطوةُ تتلوها الخطوة, والله أعلمُ كم في قلبِك من الهيبة!, ستتقدمُ -يا أخي- لإجراءِ المقابلة, المقابلةُ مع ملك الملوك, تتقدمُ وحيداً فريدا!.
الأحبابُ والأنصار فروا منك فرارا؛ (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34 - 37].
الأملاكُ والأموال, ها هي وراءَ ظهِرك!؛ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)[الأنعام: 94].
إنه الموقفُ الذي حُقَّ أن تتصدعَ له القلوب, وتخرَّ له الأبدانُ وجلاً وإشفاقا, قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنكُم أحَدٌ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ, ليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تُرْجُمانٌ، فَيَنْظُرُ أيْمَنَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عَمَلِهِ، ويَنْظُرُ أشْأَمَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ، ويَنْظُرُ بيْنَ يَدَيْهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وجْهِهِ", ثم يختمُ -صلى الله عليه وسلم- بوصيةٍ لعلها أن تكونَ هي المنجيةُ في الموقف فيقول: "فاتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ".
في ذلك الموقف لن يصحبَك إلا عملُك الذي قدمتَه في دارِ العمل, ستصحبُك الركعةُ التي صليتَها, والآيةُ التي قرأتَها, والدعوةُ التي رفعتَها, ستُرافقُكَ التمرةُ التي تصدقتَ بها, والابتسامةُ التي تبسمتَها, والكلمةُ الطيبةُ التي تَفَوهتَ بها, والسيئةُ التي من أجلِ الله تركتَها, وغير ذلك الكثيرُ والكثيرُ مما قدمتَه خالصاً, فكان عند اللهِ متقبلاً.
هذا, وسيصحبُك -أيضاً- كلُّ عملِ سوءٍ بقِيَ في صحيفتِك, بارزتَ به ربَّك صغيراً كان أم كبيرا؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7، 8].
حينَها ستكونُ محتاجاً إلى الحسنةِ الواحدة, الحسنةُ الواحدةُ قد تكونُ هي التي تميلُ بميزانِك؛ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[المؤمنون: 102، 103].
فإن كُتِبَتْ لكَ النجاة، فسترى بأمِّ عينيكَ كيف أنّ الحسنةَ الواحدةَ تزدادُ بها عند الله رفعةً ودرجة؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "وإنك لن تعملَ عملًا تُريدُ به وجهَ اللهِ؛ إلا ازددتَ به رِفعةً ودرجةً".
سترى -يا أخي- بعينيكَ كيف يُرفعُ أقوامٌ ويخفضُ أقوام؟, لا بمالٍ ولا بنسب, ولكن بالعمل؛ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47].
وعندما ترى جهنمَ في ذلك الموقفِ بين يديك، ستعلمُ يقيناً أنك ما فرطتَّ تفريطاً في نفسِك أكثرَ من تفريطِك في الاستزادةِ والاستكثارِ من العملِ الصالحِ, يومَ كنتَ في دارِ العمل؛ (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الفجر: 23، 24].
يقول أبو هريرة -رضي الله عنه- مر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقبرِ رجلٍ فقال وهو يشيرُ إليه: "ركعتانِ خفيّفِتانِ مما تَحقِرُونَ وتَنفِلُونَ, يَزيدُهما هذا في عملِهِ؛ أحَبُّ إليه من بقيَّةِ دُنياكُمْ".
والله لو قُدِّرَ له أن يخرجَ فتوضعَ بين يديهِ الدنيا وكلُّ زينتِها, أموالُها ومراكبُها وقصورُها وأنهارُها, واللهِ لما التفتَ إليها ولأقبلَ على ركعتين يصليهما؛ ليزيدَ بها عملَه, كيف لا؟! وقد رأى الحقيقةَ أمامَ عينيه, كيف لا؟! وقد تمثل له عملُه بين يديه, فقال له: "أنا عملُك الصالح", إن كان صالحا أو قال له : "أنا عملُك الخبيث", إن كان فاجرا.
فإن علمتَ -أخي- شديدَ حاجتِك إلى العملِ الصالحِ في الآخرة, فاعلم أنك كذلك محتاجٌ إليه أشدَّ الحاجةِ في الدنيا؛ فالعملُ الصالحُ سببٌ عظيمٌ من أسبابِ الثباتِ على الدينِ؛ (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء: 66].
والعملُ الصالحُ سببٌ لتكفيرِ السيئاتِ التي تجلبُ لكَ همومَ الدنيا ومصائبَها؛ (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)[هود: 114].
والعملُ الصالحُ تنالُ به الحياةَ الطيبةَ السعيدةَ الهنيئة؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
وبالعملِ الصالحِ تَكسِبُ محبةَ قلوبِ العبادِ, ويوضعُ لكَ القبولُ في الأرض؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم: 96].
وبالعملِ الصالحِ تكونُ الأمةُ صالحةً للتمكينِ في الأرضِ, والنصرِ على أعدائِها, والأمنِ من مكر الماكرين؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور: 55].
العملُ الصالحُ هو حياةُ قلبِك, ومصدرُ سعادتِك, وحبلُ نجاتِك, فاجعلْه شغلَك الشاغل، وهمَّك الذي لا يفارقُك ما حييت؛ (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المزمل: 20].
أقول ما سمعتم, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على نبيه, وعلى آله وصحبه ومن تبعه, وبعد:
معاشر المسلمين: لن أبالغَ إن قلتُ لكمْ: إنّ كلَّ ما قلتُه في الخطبةِ الأولى كان مجردَ مقدمةٍ للموضوعِ الذي أريدُ أن أتحدثَ عنه اليوم, وقد أطلتُ في تلكَ المقدمةِ لأرسِّخَ معنى "حاجتُكَ إلى العملِ الصالح".
فإن ترسخَ عندكَ هذا المعنى, فاعلم -أخي- أنه ستُقبلُ عليكَ أيامٌ قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها, أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّام"؛ يعني أيَّامَ العشر-، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ! ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟, قالَ: "ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؛ إلَّا رَجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ".
وهي أفضلُ أيامِ الدنيا؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر, إنها أيامٌ أقسمَ اللهُ بها في كتابِه, والله عظيمٌ ولا يقسم إلا بعظيم؛ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 1، 2].
فيا أخي المسلم: إنما هي عشرةُ أيام, قليلةُ العدد, كثيرةُ البركة, لا مثيلَ لها في العام, هو أعظمُ موسمٍ تستزيدُ فيه من العملِ الصالحِ, ولتكونَ من الفائزينَ في هذا الموسم، فأنتَ محتاجٌ إلى توفيقِ من اللهِ تستجلبُه بالانطراحِ بين يديه, وسؤالِ العونِ والمددِ من لدنْه, والتبرؤِ من الحولِ والقوةِ إلا به.
وتحتاجُ أن تجلسَ جلسةً معَ نفسِك تفكرُ فيها: ما هي الأعمالُ الصالحةُ التي أريدُ أن أثقِّلَ بها ميزاني في هذه الأيام؟؛ من تكبيرٍ وتهليلٍ وصلاةٍ, وصيامٍ وصدقةٍ وقراءةِ قرآنٍ, ومكثٍ في المسجد, وحجٍّ وأضحيةٍ وهديٍ, وبرٍ وصلةٍ وحسنِ خلقٍ, وزيارةِ مريضٍ واتباعِ جنازةٍ, وغيرِ ذلك من أبوابِ العملِ الصالحِ التي لا حصرَ لها, فاجلسْ وخططْ لأرباحِك ومكتسباتِك الأخروية؛ كما تخططُ لأرباحِك ومكتسباتُك الدنيوية.
أخي: اطرحِ الكسلَ, واحملْ نفسَك على الجدِّ والاجتهادِ, والصبرِ والمصابرةِ على الطاعة, وحينها أبشر بالخير العظيم والكرم من الكريم.
اللهم وفقنا لما تحبُّ وترضى, وخذ بناصيتِنا للبرِّ والتقوى, اللهم وفقنا لطاعتِك وجنبنا معصيتَك, اللهم أعنا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتك, اللهم إنا نسألك الغنيمةَ من كلِّ برٍّ, والسلامةَ من كل إثمٍ, والفوزَ بالجنة, والنجاةَ من النار.
التعليقات