عناصر الخطبة
1/ معاني العزة 2/ آثار اسم الله تعالى العزيز 3/ التحذير من طلب العزة من المخلوقين.اهداف الخطبة
اقتباس
مَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ فَإِنَّ عِزَّهُ لاَ يَدُومُ؛ لِمَوْتِ مَنِ اعْتَزَّ بِهِ أَوْ زَوَالِ عِزِّهِ، وَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ أَشْخَاصٍ عَزُّوا بِغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا أَوْ جُرِّدُوا مِنْ عِزِّهِمْ ذَلَّ أَتْبَاعُهُمْ وَمَنِ اعْتَزُّوا بِهِمْ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا عِزُّ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26- 27].
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ؛ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَعَزَّ سُلْطَانُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، وَقَهَرَ بِسُلْطَانِهِ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ؛ فَلَا خُرُوجَ لَهَا عَنْ أَمْرِهِ، وَلَا حَوْلَ لَهَا وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: اعْلُ هُبَلُ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ". وَلَمَّا قَالُوا: إِنَّ الْعُزَّى لَنَا، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ" صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ، وَاعْمَلُوا بِكِتَابِهِ، وَعَظِّمُوا شَرِيعَتَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ، وَلُوذُوا بِحِمَاهُ، وَآوَوْا إِلَى رُكْنِهِ؛ فَإِنَّ (الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يونس: 65].
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ يُعَانِي الْمَرْءُ مِنْ أَذًى وَاقِعٍ أَوْ مُتَوَقَّعٍ، أَوْ يَجِدُ خَوْفًا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْتَذُّ بِطَعَامٍ، وَلَا يَهْنَأُ بِنَوْمٍ، وَيَمُرُّ الْوَقْتُ عَلَيْهِ بِبُطْءٍ شَدِيدٍ بِسَبَبِ خَوْفِهِ، وَيَبْحَثُ عَمَّنْ يَأْوِي إِلَيْهِ لِيُزِيلَ خَوْفَهُ، وَيَجِدَ الْأَمْنَ عِنْدَهُ. وَاشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ إِجَارَةُ الْخَائِفِ. وَلَا يُجِيرُ الْخَائِفَ إِلَّا عَزِيزٌ فِي قَوْمِهِ، لَهُ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ يَحْمِي بِهَا جِوَارَهُ.
وَلَا شَيْءَ أَعْظَمَ أَمْنًا عَلَى الْخَائِفِ مِنَ اللُّجُوءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالرُّكُونِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهُ لَا أَعَزَّ وَلَا أَقْوَى مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَسَمَّى سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِالْعَزِيزِ، وَاتَّصَفَ بِالْعِزَّةِ (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 220] (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 6] (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 56] (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [المائدة: 95] (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40] وَآيَاتٌ سِوَاهَا كَثِيرَةٌ تَكَرَّرَتْ فِي سَبْعِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى؛ لِتَطْرُقَ آيَاتُ الْعِزَّةِ قَارِئَ الْقُرْآنِ، فَلَا يَعْتَزُّ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى، وَلَا يَرْكَنُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يَثِقُ بِسِوَاهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِغَيْرِهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ عِزَّةَ اللهِ تَعَالَى، فَرَسَخَ عِلْمُهَا فِي قَلْبِهِ؛ لَمْ يَبْتَغِ عِزَّةً مِنْ مَخْلُوقٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
وَلَمْ يُقْتَصَرْ فِي تَقْرِيرِ عِزَّةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مُجَرَّدِ إِثْبَاتِهَا، وَإِثْبَاتِ اسْمِ الْعَزِيزِ لَهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ بَلْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَزِيزٌ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لَهُ جَمِيعًا (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 209] وَقَالَ لِلْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 260].
وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَزِيزٌ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْرَأُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ؛ وَلَكِنَّهُ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمُلِمَّاتِ يَبْحَثُ عَنِ الْعِزَّةِ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهَا، وَيَطْلُبُهَا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهَا، فَيَعْتَزُّ بِالْمَخْلُوقِينَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى؛ لِاغْتِرَارِهِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ مَحْدُودَةٍ مُؤَقَّتَةٍ. وَيَنْسَى صَاحِبَ الْعِزَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَالْقُوَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَمَنْ لَهُ الْعِزَّةُ وَالْقُوَّةُ جَمِيعًا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر: 10]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى بَيَانُ (أَنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا) [البقرة: 165].
وَمِنْ مَعَانِي الْعِزَّةِ: النُّدْرَةُ، فَيُقَالُ: عَزَّ الشَّيْءُ، أَيْ: قَلَّ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ. وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَزِيزٌ لَا مَثِيلَ لَهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 3-4]. فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ خَالِقٌ سِوَاهُ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشُّورى: 11].
وَمِنْ مَعَانِي الْعِزَّةِ: الْكِبْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "هَلْ تَدْرِينَ لِمَ كَانَ قَوْمُكِ رَفَعُوا بَابَهَا؟ -أَيِ: الْكَعْبَةَ-، قَالَتْ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: تَعَزُّزًا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا..." (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: التَّعَزُّزُ: مِنَ الْعِزَّةِ، وَهِيَ الْقُوَّةُ، أَرَادَ: تَكَبُّرًا عَلَى النَّاسِ.
وَاللهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ (المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ) [الحشر: 23]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [الجاثية: 37].
وَمِنْ مَعَانِي الْعِزَّةِ: الْقُوَّةُ وَالْقَهْرُ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة:21]، وَهُوَ الْقَاهِرُ الَّذِي لَا يُقْهَرُ (وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ) [الأنعام: 18].
وَمِنْ مَعَانِي الْعِزَّةِ الِامْتِنَاعُ؛ وَلِذَا قِيلَ فِي الْعِزَّةِ: هِيَ حَالَةٌ مَانِعَةٌ للْإنْسَانِ مِنْ أَنْ يُغْلَبَ. وَاللهُ سُبْحَانَهُ غَالِبٌ لَا يُغْلَبُ (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21] أَيْ: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَلَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ لِمَا سِوَاهُ.
وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، أَيْ: مَنْ غَلَبَ سَلَبَ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم: 19-20] أَيْ: بِمُمْتَنِعٍ.
وَاللهُ تَعَالَى مَعَ تَسَمِّيهِ بِالْعَزِيزِ، وَاتِّصَافِهِ بِالْعِزَّةِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَالِكُ الْعِزَّةِ، فَيَهَبُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهَا مِمَّنْ يَشَاءُ (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات: 180].
فَمَنِ اعْتَزَّ بِمَخْلُوقٍ فَإِنَّ عِزَّهُ لَا يَدُومُ؛ لِمَوْتِ مَنِ اعْتَزَّ بِهِ أَوْ زَوَالِ عِزِّهِ، وَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ أَشْخَاصٍ عَزُّوا بِغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا أَوْ جُرِّدُوا مِنْ عِزِّهِمْ ذَلَّ أَتْبَاعُهُمْ وَمَنِ اعْتَزُّوا بِهِمْ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا عِزُّ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26- 27]. فَمَنْ يَطْلُبُ الْعِزَّةَ مِنْ غَيْرِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ؟ وَمَنْ يَعْتَزُّ بِالْبَشَرِ مِنْ دُونِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَهُوَ مَالِكُ الْعِزَّةِ وَوَاهِبُهَا وَنَازِعُهَا؟!
وَعِنْدَمَا يَتَفَكَّرُ الْمُؤْمِنُ فِي اسْمِ الْعَزِيزِ، وَيَفْهَمُ مَعَانِيَهُ، وَيُدْرِكُ آثَارَهُ يَشْعُرُ فِي أَعْمَاقِ قَلْبِهِ بِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ، وَقُوَّةِ الْأَمَانِ، وَغَلَبَةِ جَانِبِ الْخَيْرِ عَلَى جَانِبِ الشَّرِّ، وَيَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ مُحَاطٌ بِعِنَايَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، مَمْنُوعٌ بِقُوَّةِ خَالِقِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ كُلِّ مَنْ يُدَبِّرُ لَهُ كَيْدًا فِي الْعَلَانِيَةِ، أَوْ يُضْمِرُ لَهُ سُوءًا فِي الْخَفَاءِ.
وَإِذَا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْعَزِيزِ، وَرَأَى آثَارَ عِزَّتِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْخَلْقِ؛ أَحْسَّ بِبَرْدِ الْيَقِينِ فِي كِيَانِهِ كُلِّهِ، وَأَدْرَكَ أَنَّهُ أَمَامَ قُوَّةٍ قَاهِرَةٍ، وَقُدْرَةٍ قَادِرَةٍ، وَإِرَادَةٍ نَافِذَةٍ، وَعِلْمٍ مُحِيطٍ، وَرَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَنِعْمَةٍ غَامِرَةٍ. وَأَحَسَّ بِأَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ الْحُسْنَى كُلَّهَا تَتَجَلَّى لَهُ فِي هَذَا الِاسْمِ، وَتَتَزَاحَمُ عَلَيْهِ فِي مَعَانِيهَا وَمَرَامِيهَا، وَيَجِدُ فِي هَذَا الِاسْمِ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ.
وَإِذَا زَادَ إِيمَانُهُ وَعِلْمُهُ بِاسْمِ الْعَزِيزِ، وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ، وَالْآثَارِ الْكَثِيرَةِ؛ صَغُرَتْ عِزَّةُ الْبَشَرِ فِي عَيْنَيْهِ مَهْمَا بَلَغَتْ، فَلَمْ يَأْبَهْ بِعِزَّةٍ تُعْرَضُ عَلَيْهِ مِنْ مَخْلُوقٍ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَاهِبُ الْعِزَّةِ وَنَازِعُهَا. وَلَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا مِنْ دِينِهِ لِنَيْلِ عِزَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ، فَيَرَى نَفْسَهُ عَزِيزًا عِنْدَ النَّاسِ وَيَعْلَمُ فِي دَخِيلَةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ ذَلِيلٌ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعِزَّنَا بِمَرْضَاتِهِ، وَيُعِينَنَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَيُجَنِّبَنَا مَا يُسْخِطُهُ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَمَّا كَانَتْ قُوَّةُ الْكُفَّارِ وَغَلَبَتُهُمْ مَظِنَّةَ طَلَبِ الْعِزَّةِ مِنْهُمْ حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ عَنِ المُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ (يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ) وَسَبَبُ ذَلِكَ (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ) وَالْجَوَابُ الْقَاطِعُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ (فَإِنَّ العِزَّةَ لِلهِ جَمِيعًا) [النساء: 139].
وَلَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) يَقْصِدُونَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ؛ كَانَ الْجَوَابُ عَلَيْهِمْ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
وَالْعِزَّةُ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَلَيْسَ الْجَسَدَ؛ فَقَدْ يَعِيشُ الْعَزِيزُ مُعَذَّبَ الْجَسَدِ، وَيَعِيشُ الذَّلِيلُ مُنَعَّمَ الْجَسَدِ، وَلَيْسَ نَعِيمُ الذَّلِيلِ يُكْسِبُهُ الْعِزَّةَ، كَمَا أَنَّ تَعْذِيبَ الْعَزِيزِ لَا يَسْلُبُهُ الْعِزَّةَ، وَلَا يَمْلِكُ الْقُلُوبَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
وَتَأَمَّلُوا عِزَّةَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَمَدَّةَ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِاللهِ وَحْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [آل عمران:146-148].
فَهَؤُلَاءِ اعْتَزُّوا بِاللهِ تَعَالَى فَأَعَزَّهُمْ، وَاعْتَصَمُوا بِقُوَّتِهِ فَعَصَمَهُمْ، وَاسْتَنْصَرُوا بِهِ فَنَصَرَهُمْ، وَطَلَبُوا مَغْفِرَتَهُ فَغَفَرَ لَهُمْ، وَرَزَقَهُمْ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعَاشُوا فِيهَا حَيَاةً طَيِّبَةً، وَرَزَقَهُمْ حُسْنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَانَتْ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الدَّارَيْنِ؛ فَهُمُ الْأَعِزَّاءُ؛ لِأَنَّهُمُ اعْتَزُّوا بِاللهِ تَعَالَى فَلَا يُدَانِيهِمْ فِي الْعِزَّةِ مَنْ لَمْ يَسْلُكْ مَسَالِكَهُمْ، وَيَنْهَجْ نَهْجَهُمْ.
إِنَّ الْعَزِيزَ مِنَ النَّاسِ لَيْسَ هُوَ مَنِ اعْتَزَّ بِنَسَبِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ؛ فَإِنَّ الَّذِي قَالَ (لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) [الكهف: 34] نَدِمَ عَلَى اعْتِزَازِهِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) [الكهف: 42].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
التعليقات