عناصر الخطبة
1/الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة 2/مظاهر من عجائب القدر في الصراع بين البشر 3/قوة الله تعالى هي القاهرة لكل قوى البشر 4/ثبات الضعفاء المعذبين ورغب الأقوياء الظالميناقتباس
إِنَّ فِي ثَبَاتِ الْمُعَذَّبِينَ وَالْمُحَاصَرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ عِبْرَةٍ عَلَى مَا حَبَاهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنَ الثَّبَاتِ وَالْيَقِينِ، وَمَا مَلَأَ قُلُوبَهُمْ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ؛ فَلَا الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ أَزَالَتِ الرُّعْبَ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَلَا الْجُوعُ وَالْحِصَارُ وَالدَّمَارُ وَالْقَتْلُ زَعْزَعَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَوِيِّ الْقَهَّارِ، الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ؛ لَا يُقْضَى شَأْنٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يَحْدُثُ حَدَثٌ إِلَّا بِقَدَرِهِ؛ (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 2]، نَحْمَدُهُ فِي الْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يُرِي عِبَادَهُ مِنْ دَلَائِلِ قُدْرَتِهِ، وَعَجَائِبِ قَدَرِهِ مَا يَدُلُّهُمْ بِهِ عَلَى عَظَمَتِهِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَقُدْرَتِهِ؛ فَامْتَلَأَ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْيَقِينِ بِوَعْدِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، مَعَ الْأَخْذِ بِأَسْبَابِهِ وَسُنَنِهِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ فِي شِدَّتِكُمْ، وَثِقُوا بِهِ فِي كَرْبِكُمْ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْلِبَ الْعُسْرَ يُسْرًا، وَالْمِحَنَ مِنَحًا، وَالشِّدَّةَ فَرَجًا، وَالتَّرَحَ فَرَحًا؛ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[النَّمْلِ: 62].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْمُلْكُ كُلُّهُ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَالْأَمْرُ لَهُ -سُبْحَانَهُ-؛ فَالْخَلْقُ خَلْقُهُ، وَالتَّدْبِيرُ تَدْبِيرُهُ، وَقُوَّتُهُ تَغْلِبُ كُلَّ قُوَّةٍ، وَقُدْرَتُهُ فَوْقَ كُلِّ قُدْرَةٍ، وَقَدْ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؛ (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ)[الزُّمَرِ: 6]، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)[الْأَعْرَافِ: 54]، (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الزُّمَرِ: 63]، وَالْمَخْلُوقُ يَطْلُبُ -بِجَهْلِهِ- أَمْرًا وَفِيهِ هَلَاكُهُ، وَيَفِرُّ مِنْ أَمْرٍ وَفِيهِ نَجَاتُهُ، وَلَا يَدْرِي مَا خُبِّئَ لَهُ مِنْ أَقْدَارِهِ، وَفِي الْقُرْآنِ تَنْبِيهٌ كَثِيرٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَالصِّرَاعُ بَيْنَ الْبَشَرِ قَائِمٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهُوَ صِرَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَصِرَاعٌ بَيْنَ فِرَقِ أَهْلِ الْبَاطِلِ، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ تُرِيدُ فَرْضَ بَاطِلِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَصِرَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ عَلَى مَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ.
وَفِي هَذِهِ الصِّرَاعَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدَابِيرُ رَبَّانِيَّةٌ، وَأَقْدَارٌ إِلَهِيَّةٌ لَا يَنْتَبِهُ لَهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، وَعِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ كَبِيرٍ يَدُوكُونَ فِيهِ لِمَعْرِفَةِ أَطْرَافِهِ وَأَسْبَابِهِ وَأَحْدَاثِهِ؛ فَيَجْهَلُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُونَ؛ مِمَّا يَعْنِي أَنَّ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ -بِسَاسَتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ وَخُبَرَائِهِمْ وَمُحَلِّلِيهِمْ- قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ حَتَّى وَقَعَ وَهُمْ فِي دَهْشَةٍ مِنْ وُقُوعِهِ، وَسِمَةُ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ كَثْرَةُ الِاخْتِلَافِ حَوْلَهَا، وَصُعُوبَةُ مَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ فِيهَا؛ لَيُعْجِزَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْبَشَرَ كُلَّهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ سِرِّ أَقْدَارِهِ، وَحِكَمِ تَدَابِيرِهِ، جَلَّ فِي عُلَاهُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْقَدَرِ فِي الصِّرَاعِ بَيْنَ الْبَشَرِ: مَا فَرَضَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ سُنَنِ التَّدَافُعِ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَكُونُ عِنْدَ مَنْ تَأَمَّلَهَا، فَفَسَّرَ بِهَا مَا يَجْرِي فِي الْأَرْضِ مِنْ حُرُوبٍ وَصِرَاعَاتٍ، وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهَا: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[الْبَقَرَةِ: 251]؛ فَتَجْتَمِعُ أُمَمُ الْبَاطِلِ بِمُخْتَلِفِ أَدْيَانِهِمْ وَأَعْرَاقِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ لِوَأْدِهِ وَتَجْفِيفِ مَنَابِعِهِ، وَعَلَى أَهْلِهِ لِاسْتِئْصَالِهِمْ وَقَطْعِ دَابِرِهِمْ؛ حَتَّى إِذَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ بَلَغُوا مُنَاهُمْ، وَحَقَّقُوا مُرَادَهُمْ؛ طَمِعَ أَهْلُ الْبَاطِلِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَكَادَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَشُغِلُوا بِصِرَاعَاتِهِمْ عَنِ اسْتِكْمَالِ وَأْدِ الْحَقِّ وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهِ، ثُمَّ مَدَّ اللَّهُ -تَعَالَى- بِقُدْرَتِهِ فِي صِرَاعَاتِهِمْ وَوَسَّعَهَا؛ حَتَّى تُضْطَرَّ فِرَقُ الْبَاطِلِ لِلتَّنْفِيسِ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَالتَّمْكِينِ لَهُمْ، دُونَ رَغْبَةٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ تَحْتَ وَطْأَةِ الضَّرُورَةِ لِلِانْتِصَارِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ فِي الْبَاطِلِ؛ إِنَّهُ تَدْبِيرٌ رَبَّانِيٌّ عَجِيبٌ مُتَكَرِّرٌ فِي التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ، وَصَدَقَ الْمَوْلَى جَلَّتْ قُدْرَتُهُ حِينَ قَالَ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التَّوْبَةِ: 32]، وَمِنْ سُبُلِ إِتْمَامِ الدِّينِ وُقُوعُ سُنَّةِ التَّدَافُعِ حِينَ اشْتِدَادِ الْكَرْبِ، وَتَعَاظُمِ الْمِحَنِ؛ لِيَدْفَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ أَهْلِ الْحَقِّ بِصِرَاعِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ"(رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
وَمِنْ عَجَائِبِ الْقَدَرِ فِي الصِّرَاعِ بَيْنَ الْبَشَرِ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَنْشُرُ دِينَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَعْجِزُ أَهْلُ الْحَقِّ عَنْ تَبْلِيغِهِ؛ وَذَلِكَ بِأَعْمَالٍ يَعْمَلُهَا أَهْلُ الْبَاطِلِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، يَنْشُرُونَ بِهَا دِينَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ حَمَلَاتُ تَشْوِيهِ الْإِسْلَامِ، وَمُحَارَبَةُ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَالْمُدَافِعِينَ عَنْهُ، فَيَرْتَدُّ مَكْرُهُمْ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ -تَعَالَى- أَفْوَاجًا حِينَ يَقْرَؤُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَيَعْلَمُونَ كَذِبَ الْمُشَوِّهِينَ لَهُ، وَقَدِيمًا قَالَ كُفَّارُ الْمُشْرِكِينَ: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فُصِّلَتْ: 26]، وَلَكِنَّهُمْ -وَأَتْبَاعَهُمُ- اسْتَمَعُوا لِلْقُرْآنِ رَغْمًا عَنْ أُنُوفِهِمْ، فَهَدَى اللَّهُ -تَعَالَى- بِالْقُرْآنِ كَثِيرًا مِنْهُمْ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْقَدَرِ فِي الصِّرَاعِ بَيْنَ الْبَشَرِ: سُنَّةُ الْإِمْلَاءِ وَالِاسْتِدْرَاجِ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ؛ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ -بِقُوَّتِهِمْ وَقَهْرِهِمْ- قَدْ أَخْضَعُوا أَهْلَ الْحَقِّ لِبَاطِلِهِمْ، وَأَنَّ الْحَقَّ لَنْ تَقُومَ لَهُ قَائِمَةٌ؛ مَعَ أَنَّ الْحَقَّ كَامِنٌ فِي أَوْسَاطِهِمْ، مُتَرَبِّصٌ بِبَاطِلِهِمْ، يَنْتَظِرُ اللَّحْظَةَ الْمُوَاتِيَةَ لِلِانْقِضَاضِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي سَكْرَتِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ؛ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[الْأَعْرَافِ: 182-183].
وَمِنْ عَجَائِبِ الْقَدَرِ فِي الصِّرَاعِ بَيْنَ الْبَشَرِ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بِقُدْرَتِهِ يَسُوقُ الْأَقْوِيَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ لِلتَّخَلِّي عَنْ حُلَفَائِهِمْ أَشَدَّ مَا يَكُونُونَ حَاجَةً إِلَيْهِمْ، وَقَرَأْنَا ذَلِكَ فِي التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَفِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ تَخَلَّى الْمُشْرِكُونَ عَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا الْخِيَانَةَ لِأَجْلِهِمْ؛ فَكَانَ فِي ذَلِكَ هَلَاكُهُمْ، وَرَأَيْنَاهُ رَأْيَ الْعَيْنِ فِي الْأَحْدَاثِ الْمُعَاصِرَةِ، وَسَنَرَاهُ فِي كُلِّ صِرَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ تَجْمَعُهُمُ الْمَصَالِحُ وَتُفَرِّقُهُمْ، فَيَتَخَلَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَتِلْكَ فِعْلَتُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)[الْبَقَرَةِ: 166]، وَحِبَالُ الْبَاطِلِ الْمَمْدُودَةُ إِلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ لَهَا يَدٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- قَاطِعَةٌ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْقَدَرِ فِي الصِّرَاعِ بَيْنَ الْبَشَرِ: أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ يَفْعَلُونَ فِي قُوَّتِهِمْ وَغَلَبَتِهِمْ مَا يَنْدَى لَهُ الْجَبِينُ؛ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ، وَهَتْكِ أَعْرَاضِهِمْ، وَسَحْقِ أَجْسَادِهِمْ، وَحِصَارِهِمْ وَتَجْوِيعِهِمْ، وَالتَّشَفِّي مِنْهُمْ، وَهِيَ أَفْعَالٌ تُدَوَّنُ فِي التَّارِيخِ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُمْحَى مِنْهُ أَبَدًا، كَمَا دُوِّنَتْ أَفْعَالُ الصَّلِيبِيِّينَ قَبْلَ نَحْوِ عَشَرَةِ قُرُونٍ، وَلَنْ تُنْسَى أَبَدَ الدَّهْرِ، وَيَكُونُ فِي تَدْوِينِهَا وَنَشْرِهَا وَنَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهَا بُغْضٌ لِلْبَاطِلِ وَحَمَلَتِهِ، بَيْنَمَا يَمْتَازُ أَهْلُ الْحَقِّ بِالْعَفْوِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفْحِ مُتَمَثِّلِينَ قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"؛ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ دَعْوَةٌ لِلْإِسْلَامِ، وَإِبْطَالٌ لِحَمَلَاتِ التَّشْوِيهِ الَّتِي تَنَالُهُ وَأَتْبَاعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَدْبِيرِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَلْنَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ الْآلَةَ الْإِعْلَامِيَّةَ الَّتِي بَنَتْ صُرُوحًا مِنَ الْأَكَاذِيبِ فِي وِجْدَانِ النَّاسِ عَبْرَ عُقُودٍ مِنَ الزَّمَنِ، تَهْدِمُهَا مَوَاقِفُ عَفْوٍ وَصَفْحٍ لَحْظِيَّةٌ لَا تَتَجَاوَزُ بِضْعَ دَقَائِقَ؛ لِيَقْوَى الْحَقُّ بِانْتِشَارِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَضْعُفَ الْبَاطِلُ بِفَضْحِ حَمَلَتِهِ وَبَيَانِ كَذِبِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَلِلَّهِ -تَعَالَى- تَدَابِيرُ لَا يَعْلَمُهَا الْبَشَرُ، يَنْصُرُ بِهَا دِينَهُ، وَيَرْفَعُ بِهَا عِبَادَهُ، وَيَدْحَرُ بِهَا أَعْدَاءَهُ؛ (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[الْمَائِدَةِ: 56].
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَنْ هَالَهُ قُوَّةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَكَثْرَةُ جَمْعِهِمْ، وَشِدَّةُ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، فَلْيُوقِنْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَنْ يُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ تَدْبِيرِ اللَّهِ -تَعَالَى- شَيْئًا، وَلَنْ يَمْنَعَ جَرَيَانَ سُنَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- فِيهِمُ الْقَاضِيَةِ بِهَلَاكِ الظَّالِمِينَ وَهَزِيمَتِهِمْ؛ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هُودٍ: 102]، وَقَدِيمًا قَالَتْ عَادٌ: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)[فُصِّلَتْ: 15]، فَأَيْنَ عَادٌ؟ وَمَاذَا حَلَّ بِقُوَّتِهِمْ؟ (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[الْقَصَصِ: 38]، فَأَيْنَ فِرْعَوْنُ؟ وَأَيْنَ جُنْدُهُ وَجَمْعُهُ وَقُوَّتُهُ؟ إِنَّهَا سُنَنُ الرَّبِّ الَّتِي لَا يَفِرُّ مِنْهَا أَحَدٌ، وَتَدَابِيرُهُ الَّتِي يَعْجِزُ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ عَنْ إِدْرَاكِهَا، فَضْلًا عَنْ دَفْعِهَا أَوْ رَفْعِهَا.
لَقَدْ تَحَصَّنَ بَنُو النَّضِيرِ فِي حُصُونِهِمْ، وَرَابَطُوا مُسَلَّحِينَ فَوْقَ أَبْرَاجِهِمْ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحِصَارِ بِالْمَؤُونَةِ الْكَثِيرَةِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَقَذَفَ اللَّهُ -تَعَالَى- الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَعْلَنُوا اسْتِسْلَامَهُمْ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمُ الصَّبْرُ إِلَى نَفَادِ مَخْزُونِهِمْ، وَلَكِنْ مَاذَا يَفْعَلُونَ بِقُلُوبٍ ارْتَعَبَتْ لَا يَمْلِكُونَهَا، وَيَمْلِكُهَا اللَّهُ -تَعَالَى- فَيَمْلَؤُهَا -سُبْحَانَهُ- بِمَا شَاءَ؛ (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الْحَشْرِ: 2].
وَإِنَّ فِي ثَبَاتِ الْمُعَذَّبِينَ وَالْمُحَاصَرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ عِبْرَةٍ عَلَى مَا حَبَاهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنَ الثَّبَاتِ وَالْيَقِينِ، وَمَا مَلَأَ قُلُوبَهُمْ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ؛ فَلَا الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ أَزَالَتِ الرُّعْبَ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَلَا الْجُوعُ وَالْحِصَارُ وَالدَّمَارُ وَالْقَتْلُ زَعْزَعَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ؛ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[الْأَنْفَالِ: 24]؛ فَثِقُوا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَاعْبُدُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
التعليقات