عبرة من مرور الزمان

الشيخ د أحمد بن علي الحذيفي

2024-08-31 - 1446/02/27
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/تفكر المسلم في انقضاء الأيام والأعوام 2/الحياة أشبه شيء بالحلم 3/طمأنينة المؤمن وعدم خوفه من تقلبات الأيام 4/المعنى الحقيقي للإيمان

اقتباس

إنَّ الإيمانَ الحقَّ ليس معنًى مجرَّدًا من الحقائق، أو نظريةً لا تُرجمانَ لها في واقع الحياة، إنها عقيدةٌ يمتلئ بها القلبُ فتفيض على النفس طمأنينةً وسكينةً ورضًا وسرورًا، ثم تغمُر الجوارحَ عملًا وامتثالًا، ثم تتسِع دائرتُها حتى تفيضَ على الإنسانيَّة كلِّها سلامًا وسكينةً وحُبًّا وخيرًا وعدلًا...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أما بعدُ: فأُوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله؛ فإنَّها أحصنُ المعاقلِ، وأعذبُ المناهلِ، وأنفعُ الذخائرِ، يوم تُبلى السرائرُ، فمن اتقاه -سبحانه- عبق طيبُ شمائله، وأورقَتْ غصونُ فضائلِه؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطَّلَاقِ: 4-5].

 

معشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ: إنَّ العاقل وهو يقطعُ طريقَ رحلتِه في هذه الدنيا، فتتعرَّج به مسالكُها، وتتشعَّب به مساربُها، لَيتوقف بُرهةً من عُمر الزمان توقُّفَ المعتبِر، فينظر إلى آثار خطواته، ويتأمَّل طريقَ مسيرتِه الممتدّ، فتتنازعه مشاعرُ الدهشة والحزن والاغتباط؛ اندهاشًا من سرعة تصرُّم حبال الأيام، وانطواء بساط الأعوام، وحزنًا على سالف العمر وماضي الزمان، وما في طَوَايَا ذلك من تفويت وتفريط، وتسويف وتضييع، واغتباطًا بما أنجَح من مقاصده، وحقَّق من مآربه، إنها رحلة طويلة قصيرة، مُسعِدةٌ مُشجِيَةٌ، مُفرِحةٌ مُبكِيةٌ، طويلةٌ في تفاصيل أحداثها، قصيرةٌ حينَ يلوح للسائر فيها محطُّ رحاله، فيها انكسارات وانتصارات، ودموع حزن وسرور، وراحةٌ ونصَبٌ، واجتماعٌ وافتراقٌ، وصعودٌ وهبوطٌ، إنها سُنَّةُ اللهِ في هذه الدنيا، كما قال جلَّ شأنُه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الْحَدِيدِ: 20].

 

إنها رحلة الحياة المتقلبة، التي لا تقر على حال.

تسير بنا حتى إذا عز جانب *** من السهل أَدْنَتْنَا من الجانب الوعر

كواكبُ رَكْبٍ في كواكبِ ظُلمةٍ *** تسير كما تسري وتجري كما تجري

 

فهي وإن كانت رحلة طويلة تمتد من حين يدرج المرء على هذه الأرض إلى أن يواريه الثَّريّ إلا أنَّها تُشبِه أحلامَ النائم، حين يهبُّ من رقاده، ويصحو من سباته، فكأنها إقامة ضيف، أو إلمامة طيف.

طيف ألمَّ قبيلَ الصبح وانصرفَا *** فكدتُ أقضي على فقدي له أسفَا

يا طيفُ قد كان مِنْ حُبِّي لكم شغف *** وزدتَني أنتَ لما زدتَني شغفَا

ما كان أطيبه عيشًا وأهنأه *** لو دام لي ذلك الطيف الذي سلَفَا

 

وما ألطفَ ذلك التشبيهَ النبويَّ لحال المؤمن مع الدنيا وسرعة انقضائها وما أرقَّه، فيما يرويه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، قلنا يا رسول الله، لو اتخذنا لكَ وطاءً؟ فقال: ما لي وللدنيا؟ ما أنَا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ، ثم راحَ وتركَها".

 

إخوةَ الإيمانِ: إنَّ المؤمنَ وهو يمخُر عبابَ بحرِ هذه الحياةِ الهادرِ، فتتقلَّب به لُجَجُها، وتتقاذفه أمواجُها، يعيش حالةً من الاستقرار النفسيّ والسلام الداخليّ؛ لأنَّه معلَّق القلب بخالق هذا الوجود، ممتلئ الفؤاد بحبه، متضلِّع الحنايا بتوحيده؛ فالصراع الدنيويُّ عندَه صراعٌ خارجَ النفس لا داخلَها، يراه بعينه ولا يعيشه في نفسه.

 

إن الإيمان الصادق في غمرات هذه الحياة يتخلَّل حنايا النفوس المنهَكة بَرْدًا وسلامًا، ورضًا ويقينًا، وسَكِينةً وثباتًا؛ فهو ربيع القلوب في بيداء الحياة، وظلُّها الوارف في هجير الشدائد، وسفينة النجاة في تلكم الغمرات، تجد المؤمن على رغم ما يلقى من أوهاق الحياة ومناكد الدنيا ساكنَ القلب، بسَّامَ المحيا، طَلْقَ الوجهِ، رضيَّ النفس، حلوَ المنطقِ.

ثَقُلَتْ مغارمُه فزاد نواله *** كالعود ضاعَف طِيبَه الإحراقُ

 

الإيمان سلوان القلوب، وأُنسُ النفوسِ، وسرورُ الأفئدةِ في حومة ذلك الصراع الدنيوي، فلا يَعرِف حلاوةَ العيش وطيبَ الحياة مَنْ لم ينغمس في نهره الدفَّاق فيعب منه حتى تروى روحه، فتصطبغ به ذاتُه، ويفيض ذلك الريُّ على جوارحه، ويتنضَّى به محياه، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].

 

إن الحياة مع الإيمان حياة طيبة كريمة مطمئنَّة، تتصاغر أمامَها جبالُ المصاعب والشدائد، ويتهاوى ركامُ اللذائذ والمطامع؛ فللإيمان حلاوة كما عبَّر النبيُّ الأكرمُ -صلوات الله وسلامه عليه-، يجد طعمها في نفسه وأثرَها في قلبه مَنْ رسَخ الإيمانُ في قلبه إذعانًا وإقرارًا، وتحقَّق به امتثالًا وخضوعًا واستسلامًا، لا تَصِفُ لذتَها ولا تحدُّ حقيقتَها العباراتُ والكلماتُ، بل هي حقائقُ يعرفها أهلُ الإيمانِ، ويُدرِكُها الصفوةُ من عباد الرحمن.

 

جعلني الله وإيَّاكم من جملتهم، وحشرنا في زمرتهم، وبارك لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، وجعل تقواه لنا عدة وذخيرة وجنة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه كان عفوًا غفورًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي لم يزل يوليكم إنعاما وإحسانًا، ويردف عليكم من لطائف آلائه فضلًا وامتنانا، أمدَّكم بصنوف النِّعَم كرمًا ومنًّا، وآتاكم من جُوده أكثرَ ممَّا يُتمنَّى، ومنحكم من عطائه وفضله ما يوفي على ما أردتموه؛ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)[إِبْرَاهِيمَ: 33-34]، وَصَلَّى الله وسلم على نبينا محمد، خاتم رسله وأنبيائه، ومبلغ رسالاته وأنبائه، وعلى آله وصحبه وأتباعه وأوليائه، وسلم عليهم أجمعين، سلامًا باقيًا إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ، مَعاشِرَ المؤمنينَ والمؤمنات: فإنَّ الإيمانَ الحقَّ ليس معنًى مجرَّدًا من الحقائق، أو نظريةً لا تُرجمانَ لها في واقع الحياة، إنها عقيدةٌ يمتلئ بها القلبُ فتفيض على النفس طمأنينةً وسكينةً ورضًا وسرورًا، ثم تغمُر الجوارحَ عملًا وامتثالًا، ثم تتسِع دائرتُها حتى تفيضَ على الإنسانيَّة كلِّها سلامًا وسكينةً وحُبًّا وخيرًا وعدلًا، فهي تسمو بالمؤمن فوقَ مطامع الحياة البائدة، وترقى به إلى معارج الكمال الإنسانيّ.

 

إن هذا الدين العظيم جاء ليُعِيد صياغةَ الإنسان عقلًا ونفسًا وفكرًا وسلوكًا، فيكون على قدرٍ راسخٍ من القِيَم والأخلاق والسموّ النفسيّ والروحيّ والعقليّ في هذا الكون؛ فالإيمان -بمعناه الأرحب- ربطٌ للمخلوق بالخالق، واتصالٌ لعالَم الشهادة بعالَم الغيب، كما أنَّه يُحقِّق التكاملَ بين النفس والروح والسلوك والأخلاق لذلك المخلوق الكريم على الله -تعالى-، فيتحقق مرادُه -تعالى- مِنْ خَلقِه؛ بأن يغمرَ الإيمانُ ذلك الإنسانَ بالسلام النفسيّ والسَّكينة الروحية، قبلَ أن يغمر الأرضَ ويعمرها بإقامة الخير والعدل وإشاعة الحُبّ والسلام والرحمة في العالمين قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107].

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إن هذا اليوم الأغرّ من الأيام تُندَب فيه كثرةُ الصلاة والسلام، على صفوة الخَلْق وسيد الأنام، يقول -صلوات الله وسلامه عليه-: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثِرُوا عليَّ من الصلاة فيه، فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ"، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيد الأولين والآخِرين، وإمام المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمتك للعالمين، عدد ما أحصاه كتابك وخطه قلمك، ووسعه علمك، اللهمَّ وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، والسادة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيكم أجمعين، وعنا معهم بمنك وكرمك وفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، واجعل هذا البلد المبارك بلد خير وعز وأمن وإيمان، مصونا محفوظًا يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ انصر إخواننا في فلسطين على عدوك وعدوهم، اللهمَّ اكتب نصرهم واجبر كسرهم، وتول أمرهم، اللهمَّ واجعل دائرة غضبك وانتقامك على عدوك وعدوهم يا ربَّ العالمينَ، يا قوي يا عزيز.

 

اللهُمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، اللهمَّ اجعل فيما يأتيانه ويذرانه الخير والنفع، للعباد والبلاد والدين والدنيا في العاجل والآجل يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ إنَّا نسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب.

 

عبادَ اللهِ: استديموا فضلَ ربِّكم بشُكره، واحفظوا نعمتَه باتباع أمره، والهجوا بدعائه وذكره؛ سبحان ربنا رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life