عناصر الخطبة
1/ حقيقة الاستقامة العلنية 2/ضوابط عبادات الخفاء 3/أقسام الأخفياء 4/من علامات الأخفياء 5/عبادات وقربات في الخفاء 6/ثمرات وفوائد عبادات الخفاء 7/من قصص الأخفياء.اقتباس
فلما فرغ من صلاته جاءني يقول لي: يا أبا عبد الرحمن هل تريد مني شيئًا؟ لأنني سأنصرف الآن فقلت له: إلى أين؟ قال: إلى الآخرة. فقلت له: لا تفعل، دعني أهنأ بك وأزوجك. فقال: لن تطيب الحياة لي بعدما كشف السر الذى بيني وبين الله، أنا كنت أريد أن أعبد الله في السر؛ لأن عبادة السر أخلص العبادات. ثم سجد فجعل يقول: إلهى كشف السر الذى بيني وبينك فاقبضني الساعة. قال عبد الله بن المبارك : فاقتربت منه فإذا هو قد مات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً: (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) [الأحزاب:46]، أسكت الله به الجاهلية فلم تتكلم، وهدَّم به الوثنية فلم تُبْنَ، وأزال به أوضار الشرك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: لا شك أن المحكَّ العملي الذي تتجلى من خلاله حقيقة الاستقامة العلنية يكون في عبادات السرّ المتضمنة لعبادات الخلوة والخفاء ولعبادات القلب, وإن عبادة القلب لمن أجلّ عبادات السِّر وأعظمها، فالله -عز وجل- لا يناله من عبده إلا التقوى، ولا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما إلى القلوب والأعمال، ولا ينفع عنده يوم تبلى السَّرائر مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والإيمان ليس بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، كما يشهد لذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" [البخاري(52) ومسلم(1599)].
أيها الإخوة: وقد أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يلزم أهل التقوى ويصحب أهل العبادة والإخبات، قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
ولا ينبغي للعبد أن يغتر بظواهر الأمور، أو يحتقر بعض الناس لهيئة أو عمل أو فقر، قال الله تعالى: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [هود: 31]، وهذا أيضًا ما أكده النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "رُبَّ أشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ" [مسلم (2622)].
أيها الإخوة: لقد جاء التوجيه النبوي الكريم بحثِّ العبد المؤمن على أن يكون له عبادة في السِّر، فعن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- مرفوعاً قال: "من استطاع منكم أن يكون له خِبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل" [أخرجه الخطيب في التاريخ (11/ 263) وصححه الألباني في الصحيحة (2313)]، "خبء من عمل صالح": أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس، خالية من الرياء، فتكون خالصة لله -تبارك وتعالى- مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة.
ومما يؤكد نفس المعنى ما رواه أبو أمامة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر" [رواه الطبراني في الأوسط (943) وحسنه الألباني في صحيح الجامع 3797]، فجعل عبادة السر من المنجيات، ومما يطفئ غضب الله على العبد.
إن عبادات الخفاء وقُرَب السِّر المشتملة على تعظيم أمر الله تعالى ونهيه، والإكثار من مناجاته لهي عمل جليل جاءت النصوص والآثار مكثرة من الحثّ عليه، فمن ذلك قوله تعالى: (إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ) [فاطر: 18]، أي: يخافونه -سبحانه- حال خلوتهم به بعيداً عن أعين الخلق، وقوله -عز وجل-: (إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة: 271].
والآية الكريمة ظاهرة في تفضيل صدقة السِّر، والتي ثبت أنها تطفئ غضب الرب -سبحانه-، وجاء من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في السبعة الذين يظلّهم الله تعالى يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: "رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" [البخاري(660) ومسلم (1031)].
وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة" [الترمذي (1333) وصححه الألباني]، قال الترمذي: "ومعنى هذا الحديث أن الذي يسرُّ بقراءة القرآن أفضلُ من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السِّر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية"، وما ذاك إلا لما في قُرْبَة السِّرِّ بعيداً عن رؤية الخلق من عظيم إيمانٍ، وكمال أدبٍ مع الله تعالى وتعظيمٍ له -سبحانه-، ولما فيها من حضور قلبٍ واجتماع هَمٍّ وابتعادٍ عن القواطع والمشتتات، وثقةٍ بالله تعالى وأُنْسٍ به، واطمئنانٍ إليه، ومراقبةٍ له، ومخافةٍ منه، ومطالعة مِنَّتِه، وتطلعٍ للظفر بمحبته وثوابه، ولما فيها من تخليصٍ للنفس من الطمع بثناء الخلق وحب مدحهم وكراهية ذمّهم، وضمان سلامتها من بعض دسائس السوء من رياء وسمعة وتصنُّع، فهي أبلغ في التضرع والخشوع، وأمكن في التذلّل والخضوع.
عباد الله: إن أصحاب عبادات السر هم الأخفياء والأتقياء الذين وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- بقوله: "إِنَّ اللهَ يُّحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ" [مسلم (2695)]، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
ولقد كان الفضيل بن عياض يقول: "من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرةِ قلوبهم خلائقُ ثلاثة: الحلم، والأناة، وحظٌّ من قيام الليل"، ويحكي الخريبي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها، وقال مسلم بن يسار: "ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله -عز وجل-".
أيها الإخوة: والأخفياء ثلاث طبقات: طائفة علت هممهم فلم تقف دون الله، ولم تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، وعلو همة المرء عنوان فلاحه وسعادته.
وهؤلاء أخفياء سبقوا الناس في السير إلى الله، ولم ينقطعوا بشيء سوى الله عنه، فكل ما قطع عن الله لم يقفوا معه، وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه، وكان وقوفهم معه، ولم يُنسبوا إلى اسم يشتهرون به بين الناس، ولم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيُعرفون به دون غيره من الأعمال، فإن هذا آفة العبودية، وهي عبودية مقيدة.
الطبقة الثانية: اختاروا السر وأرادوه؛ صيانة لأحوالهم، وحفظاً لأعمالهم، فمقاماتهم عالية لا ترمقها العيون، يشيرون إلى ما يعرفه المخاطب، ويخفون ما مكنهم فيه الحق -سبحانه- من أحوال المحبة، وآثار المعرفة، فهم مع الناس بظواهرهم، لكنهم يسترون عنهم أشرف أحوالهم، وأحسن أعمالهم فيحسبونهم مثلهم، يشيرون إلى أنهم جهال وهم العارفون بالله حقاً, وأنهم مسيؤون وهم المحسنون، وذلك لكمال معرفتهم بالله، وما يجب له من الوقار والتعظيم، والإخلاص، وحسن العمل، يظهرون ما يجوز إظهاره ولا نقص عليهم فيه ولا ذم من الله ورسوله عليه، ليكتم به الإنسان حاله وعمله.
فيظهرون ما لا يُحمدون عليه، ويسرون ما يحمدهم الله عليه، كما إذا أظهر الغنَى وكتم الفقر والفاقة، وأظهر الصحة وكتم المرض، وأظهر النعمة وكتم البلية؛ فهذا كله من كنوز الشر، وله في القلب تأثير عجيب يعرفه من ذاقه، فهؤلاء يغارون على أحوالهم وأعمالهم فيسترونها عن الناس، ويغار الله عليهم فيسترهم عن الخلق.
يتحلون بآداب تصونهم عن سوء الظن بهم، وتصونهم عن دناءة الأخلاق والأعمال، فلهم لين مع الناس وتبسط إليهم، فهم أحلى من كل حلو، وأزين من كل زين، يأنسون بالله وبالخلق، ويأنسون بهم.
وهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفاً، فتراهم أحلى الناس وألطفهم وأظرفهم وأحسنهم عشرة، قد زالت عنه ثقالة النفس، وكدرة الطبع، فأحبه الناس وأحبهم، والناس ينفرون من كثيف الطبع، ولو بلغ الدين ما بلغ، وليس الثقلاء بخواص الأولياء، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك.
الطبقة الثالثة: طائفة أسرهم الحق عن أنفسهم، وشغلهم به عن أنفسهم، فأنساهم بذكره ذكر نفوسهم، وفرغهم لذكره وعبادته. وهؤلاء ضد الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، قد أظهر الله لهم من معرفة جماله وجلاله لائحاً أذهلهم عن إدراك ما هم فيه: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 18]، فهم أشبه الخلق بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
أيها الإخوة: والمتأمل في واقع الدعاة ومحاضن التدين وبيئاته اليوم يلحظ مظاهر عدة تدل على تقصير في عبادة القلب، وضعف بيِّن في القيام بكثير من القربات في الخفاء، والتي يدّخرها صاحبها لوقوفه بين يدي ربه -عز وجل- يوم تُبلى السرائر، مما وَرَّث هشاشة بيّنة في الاستقامة، وضعفاً جلياً في الجدِّية، وفتوراً ظاهراً في أخذ الكتاب بقوة تعلّماً وعملاً ودعوة، وهو أمر ما لم يشعر بخطره القائمون على الشأن الدعوي والتربوي مؤسسات وأفراداً ويولوه ما يستحق من أولوية في التصحيح والمعالجة، فإن أجيال الاستقامة القادمة ستكون أكثر بَهَتَانَاً وأشدّ ضعفاً.
أيها الإخوة: إن في عبادة السر أسرارًا عظيمة لا يدركها إلا أهلها، وهذا ما جعل عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-ما يقول: "لأن أصلي في جوف الليل ركعة أحبُّ إليَّ من أن أصلي بالنهار عشر ركعات"، ولله در الشاعر يوم قال:
لله قوم أخلصوا في حبه *** فاختصهم ورضا بهم خداما
قوم إذا هجم الظلام عليهم *** قاموا فكانوا سجدا وقياما
يتلذذون بذكره في ليلهم *** ونهارهم لا يفترون صياما
فسيفرحون بورد حوض محمد *** وسيسكنون من الجنان خياما
وسيغنمون عراسًا بعراسِ *** ويبوءون من الجنان مكانا
وتقر أعينهم بما أُخفي لهم *** وسيسمعون من الجليل سلاما
أيها الإخوة: ما أجمل ساعات الليل في عبادة رب العالمين -سبحانه-، فوالله إن أهل الليل في ليلهم في طاعة ربهم يجدون من اللذة أضعاف ما يجده أهل السهرات والمجون، ولهم في الآخرة أعظم الأجر والجزاء، قال الله تعالى: (تتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16- 17]، فلا تعلم أنفسهم عظيم أجورهم وقد أخفوها، ولا يضرهم ألّا يراهم أحد.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ، أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ، لاَ يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ". [التِّرْمِذِي (3854) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4573)].
نسأل الله حياة الأبرار وعيش السعداء، ونسأله -سبحانه- أن يرزقنا حقيقة الإيمان وحلاوة الإيمان، وأن يجعلنا من المتقين، وأن يدخلنا جميعًا في رحمته، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله الذي جمعنا بالصالحين ووفقنا لسيرة سيد المرسلين، نسأله رحمة منه فهو أرحم الراحمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: لقد كان السلف -رحمهم الله- يخفون سرائرهم لما فيها من الطاعات ويكرهون أن يطلع عليهم أحد, ونحن نخفي سرائرنا ونخاف أن يطلع عليها أحد لما فيها من المعاصي والتقصير في طاعة الله -عز وجل-، ولعلنا بالوقوف على هذه النماذج نتفاءل أن يعطينا هذا نقلة نوعية وثمرة قوية مشاهدة فمن ذلك:
كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء، فاحتبس فيها شيئًا يسيرًا، ثم عاد إلى المدينة، فعجب عمر -رضي الله عنه- من خروجه، فتبعه يومًا خفيةً بعدما صلى الفجر، فإذا أبو بكر يخرج من المدينة ويأتي خيمة قديمة في الصحراء، فاختبأ له عمر خلف صخرة، فلبث أبو بكر في الخيمة شيئًا يسيرًا. ثم خرج، فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة، فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء، وعندها صبيه صغار، فسألها عمر: من هذا الذي يأتيكم؟ فقالت: لا أعرفه، هذا رجل من المسلمين، يأتينا كل صباح منذ كذا وكذا. قال: فماذا يفعل ؟ قالت: يكنس بيتنا، ويعجن عجيننا، ويحلب داجننا ثم يخرج، فخرج عمر وهو يقول: لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر، فما أجمل عبادة السر.
عن محمد بن إسحاق قال: "كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل"، فقد كان علي بن الحسين -رضي الله عنهما- يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق بها, ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب, فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد, فقالوا: هذا ظهر حمّال, وما علمناه اشتغل حمالاً, فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة من بيوت الأرامل والأيتام, كان يأتيهم طعامهم بالليل لا يدرون من يحضره إليهم, فعلموا أنه هو الذي كان يحمل الطعام إلى بيوتهم بالليل وينفق عليهم.
ويروي ابن منظور في كتابه مختصر دمشق أن مسلمة بن عبد الملك كان في جملة من الجند يحاصرون إحدى قلاع الروم، وكانت محصنة والدخول إليها صعباً، إلا من نقب فيها تخرج منه أوساخ المدينة، فوقف مسلمة ينادي في الجند: من يدخل النقب ويزيح الصخرة التي تحبس الباب ويبكر حتى ندخل فقام رجل قد غطى وجهه بثوبه، وقال: أنا يا أمير الجند ودخل النقب وفتح الباب ودخل الجند القلعة فاتحين.
وبعدها وقف مسلمة بين الجند ينادي عن صاحب النقب حتى يكرمه على ما فعل، وكان يردد من الذي فتح لنا الباب فما يجيبه أحد! فقال: أقسمت على صاحب النقب أن يأتيني في أي ساعة من ليل أو نهار. فطُرق باب مسلمة طارق ليلاً، فيلقاه مسلمة مستبشرًا أنت صاحب النقب، فقال الطارق هو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه. قال مسلمة: وما هي. قال: ألا ترفع اسمه لدى الخليفة، ولا تأمر له بجائزة، ولا تنظر له بعين من التمييز، قال مسلمة: أفعل له ذلك. فقال الطارق: أنا صاحب النقب وانصرف، وترك جيش مسلمة ذاهبًا إلى سد الثغور في أماكن أخرى.
ويروى أنه كان هناك رجل اشترى غلاما، فقال الغلام: يا مولاي إن لي معك ثلاثة شروط: أحدها: أن لا تمنعني عن الصلاة المكتوبة إذا جاء وقتها. ثانيها: أن تأمرني بالنهار ما شئت ولا تأمرني بالليل. ثالثها: أن تجعل لي منزلا في بيتك لا يدخله غيري. فقال له الرجل: لك هذه الشروط انظر في البيوت فاختار الغلام بيتًا خرابًا. فسأله الرجل عن السبب. فأجاب الغلام: يا مولاي أما علمت أن الخراب مع الله بستان.
فكان يخدم مولاه بالنهار ويتفرغ للعبادة بالليل وفى يوم طاف مولاه في الدار فبلغ حجرته فإذا هي منورة والغلام ساجد وعلى رأسه قنديل من نور معلق بين السماء والأرض والغلام يناجي ربه ويتضرع ويقول: إلهي أوجبت عليَّ حق مولاي خدمته بالنهار ولولا ذلك ما اشتغلت ليلي ولا نهاري إلا بخدمتك فاعذرني يا رب. ومولاه ينظر إليه حتى انفجر الصبح ورد القنديل فأخبر امرأته فلما كانت الليلة الثانية أخذ بيد امرأته وأراها ما يحدث وظلا يبكيان حتى الصباح فدعا الغلام وقال له: أنت عتيق لوجه الله تعالى حتى تتفرغ لعبادة من كنت تعتذر إليه فرفع الغلام يده إلى السماء وقال:
يا صاحب السر إن السر قد ظهرا *** ولا أريد حياتي بعدما اشتهرا
ثم خر الغلام ميتا.
وقد روي عن الشافعي أنه قال: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إليَّ منهُ شيء".
وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يُظهر شيئًا منها في حياته، ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما إذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء، فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل، وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قُبلت مني، وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
ومن روائع ما قال بشر الحافي أنه كان يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ العِزِّ، وَأَنَّ الفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى، وَأَنَّ المَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ البَقَاءِ". وقَالَ: "لاَ تَجِدُ حَلاَوَةَ العِبَادَةِ حَتَّى تَجعَلَ بَينَكَ وَبَيْنَ الشَّهَوَاتِ سُدّاً".
ودخل عبد الله بن محيريز دكاناً يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل قد عَرَفَه لصاحب المحل: هذا ابن محيريز فأحسِن بيعه، فغضب ابن محيريز وطرح الثوب وقال: "إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا".
وأورد صاحب طبقات الحنابلة: أن عبد الغني المقدسي المحدث الشهير، كان مسجوناً في بيت المقدس في فلسطين، فقام من الليل صادقاً مع الله مخلصاً، فأخذ يصلي، ومعه في السجن قوم من اليهود والنصارى، فأخذ يبكي حتى الصباح، فلما أصبح الصباح ورأى أولئك النفر هذا الصادق العابد المخلص، ذهبوا إلى السجان، وقالوا: أطلقنا فإنا قد أسلمنا، ودخلنا في دين هذا الرجل، قال: ولِمَ؟ أدعاكم للإسلام؟ قالوا: ما دعانا للإسلام، ولكن بتنا معه في ليلة ذكرنا بيوم القيامة!.
أيها الإخوة: من ثمرات عبادة السر والخفاء أنها من أعظم المثبتات على الدين، وجلّ المنتكسين عن طريق الحق أصحاب ظواهر، وقد سأل رجلٌ حذيفة: هل أنا من المنافقين؟، قال: أتصلي إذا خلوت وتستغفر إذا أذنبت؟ قال: نعم. قال: اذهب فما جعلك الله منافقًا. ومن يشكو من الرياء فغالبًا أن عبادته في السر قليلة أو معدومة.
وقد روي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت بمكة وقد لحق بالناس قحط واستمر وخرج الناس يستسقون لأجل أن ينزل المطر وإذا بعبد أسود قد أقبل وعليه قطعتا خيش قد اتزر بإحداهما وألقى الأخرى على عاتقه، فاتخذ موضعًا خفيًّا يكاد يكون بعيدًا عن العيون واقتربت منه دون أن يشعر بي وسمعته يدعو الله أن ينزل الغيث، فلم يمض وقت قصير حتى امتلأت السماء بالغمام ونزل المطر، وجلس العبد مكانه يسبح ربه ويشكره، ومشيت وراء العبد حتى عرفت مكانه، وفى اليوم التالي طلبت من سيده أن يبيعه لي، فباعه لي، وكان فيه من الزاهدين، وهو يقول لي: إنه يأكل من كسب يديه فإن رُزق أكل وإن لم يرزق لم يأكل وبات جوعانًا، وقال لي الغلمان معه: إنه لا ينام بالليل.
فاشتراه عبد الله بن المبارك وتابع حديثه قائلاً: فقال لي العبد الأسود: يا مولاي، فقلت له: لبيك. فقال: لا تقل لي لبيك فإن العبد أولى أن يلبي مولاه. ثم سألني: ما الذي حملك على شرائي وقد وجدتني ضعيفًا، فقلت له: آنست بك حين رأيتك تستسقي فنزل المطر فقلت: أشتريك وأعتقك وأزوجك. فبكى العبد بكاء شديدًا ثم طلب مني أن أتركه يصلي، فلما فرغ من صلاته جاءني يقول لي: يا أبا عبد الرحمن هل تريد مني شيئًا؟ لأنني سأنصرف الآن فقلت له: إلى أين؟ قال: إلى الآخرة. فقلت له: لا تفعل، دعني أهنأ بك وأزوجك. فقال: لن تطيب الحياة لي بعدما كشف السر الذى بيني وبين الله، أنا كنت أريد أن أعبد الله في السر؛ لأن عبادة السر أخلص العبادات. ثم سجد فجعل يقول: إلهى كشف السر الذى بيني وبينك فاقبضني الساعة. قال عبد الله بن المبارك : فاقتربت منه فإذا هو قد مات.
وعن زائدة: أن منصور بن المعتمر مكث ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها، وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بني! قتلت قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي. فإذا كان الصبح كحل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس.
وقال محمد بن واسع: "لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه"، وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله، ويخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته، كأنه قام تلك الساعة.
أيها الإخوة: إن عبادة السر أقرب الى الاخلاص وأبعد عن الرياء والمباهاة وأكسر لحظ النفس من الشهرة والعجب. فما أجدرنا أن نعظم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، ونحرص على عبادات السر والأسحار، أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
التعليقات