عناصر الخطبة
1/عاشوراء يوم من أيام الله الخالدة 2/عاشوراء فضل وذكرى وعبر وأحكام 3/عاشوراء ونصر الله للمستضعفين 4/عاشوراء بين الاتباع والابتداع 5/الأنبياءُ إخوَةٌ لعَلَّاتٍ؛ "نحن أحق بموسى بمنكم".اقتباس
ومن أهم دروس عاشوراء: أن فيه تذكيرًا للمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها بأن الذي أخذ فرعون في أشد سطوته، وأهلكه في عنفوان قوته، وأغرقه في أوج عظمته قادر على أخذ غيره من الطغاة، وفي التاريخ خير شاهد، فما إن تحين لحظتهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
عباد الله: إن من فضل الله على الأمة أن جعل لها مواسم للطاعات؛ ليتزود بها العباد من الأعمال الصالحة؛ فاصطفى بعض الشهور وفضلها على غيرها من شهور العام وميز بعض الأيام على غيرها من الأيام؛ ألا وإن من الأيام التي فضلها الله على سواها من الأيام؛ يوم العاشر من محرم، ذلك اليوم التاريخي في حياة البشرية جمعاء، بل هو يوم مفصلي عظيم في حرب الإيمان مع الكفر؛ والحق مع الضلال؛ لذلك كان لهذا اليوم عناية فائقة في الأمم السابقة، فصامته الأمة الجاهلية، وصامته الأمة اليهودية، بل ثبت -أيضاً- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-كان يصومه بمكة قبل الهجرة إلى المدينة، فلما هاجر ووجد اليهود يحتفلون به ويصومونه فسألهم عن السبب؛ فأخبروه أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى -عليه السلام- من فرعون وجنده، فأقرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكانة هذا اليوم الكريم وصومه؛ فصامه وأمر بصومه، ثم أمر بمخالفة يهود في اتّخاذه عيداً.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: "ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
ومن مزايا هذا اليوم العظيم أن صيامه يكفر الصغائر التي اقترفها العبد في السنة التي قبله؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"؛ لذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حريصًا على صيامه، آمرًا أصحابه بذلك، بل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالممايزة في صيامه، مفاصلة ومخالفة وتفردًا عن اليهود، فقال: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع".
أيها المؤمنون: إن التأمل في عاشوراء الذي نجى الله موسى -عليه السلام- ومن معه يجد أنه يبعث في نفوس أولياء الله أملاً كبيراً، ويقينًا عظيمًا، بأن النصر مع الصبر، وأن بعد الشدة فرجًا، وبعد العسر يسرًا. ولكم أن تتخيلوا معي -أيها السادة- كيف وصل الحال بموسى - عليه السلام- ومن معه من ضعف وقلة حيلة، وتسلط للظالمين، فلقد حول فرعون حياتهم إلى جحيم، وعيشهم إلى حميم، فعاشوا في البلاء العظيم.
وفي حمئة هذا الظلم والظلام أراد الله أن يمن على الذين استضعفوا فيجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، وأن ينجيهم من تسلط المتجبرين؛ فأمر رسوله أن يخرج بهم من الأرض الظالم أهلها، فرارًا بدينهم، ونجاة بعقيدتهم، فخرجوا يأمُّون وجه الله، فحشد لهم فرعون الحشود، وطاردهم بالجنود، فأدركهم وقت شروق الشمس وقد اقتربوا من البحر، فكان البحر من أمامهم، وفرعون من ورائهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فقالوا: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء: 61]، فينطق نبي الله موسى -عليه السلام- بكل ثقة، ثقة العبد بمعية الله وقربه، وأنه لن يخذل أولياءه، ولن يسلِّم أصفياءه، ولن يمكن أعداءه، فقال: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62]، وهنا يأتي فرج الله ونصره فيوحي إليه: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ )[الشعراء: 63]، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)[طه: 77 - 79].
إنه وعد الله الذي لا يتبدل ولا يتغير، وعده الصادق بنصر المؤمنين، والتمكين لأوليائه الصالحين، وإظهارهم على الطغاة والمستكبرين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا...)[النور: 55]، وكلما تدبر المؤمن هذه الآيات البينات انشرح صدره، واشتد ظهره، وقوي أمره، وثبت على طريقه، واطمئن إلى موعود الله.
عباد الله: إن يوم عاشوراء يوم مليء بالعبر، مزدحم بالدروس، تستشف منه الأمة من الإشارات ما يزيدها يقينًا بنصر الله ومعيته؛ فهاكم أيها الأحبة الكرام -بعضًا- من هذه الدروس العظام:
الرباط الوثيق بين هذه الأمة والأنبياء وأتباعهم من قبلها: فأهل الإيمان على مر العصور مترابطون كترابط حلق السلسلة، لا فرق بينهم، فالدين واحد، والرب واحد، والطريق إليه واحدة؛ (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)[البقرة: 285].
ومن دروس عاشوراء: أن نصر الله لدينه وحملته آت لا محالة، مهما تأخر أو تطاول به الزمن، ومهما بلغ ضعف المؤمنين المادي، وقلتهم العددية، ومهما بلغت قوة الباطل وكثرة أتباعه، ففي أوج قوة فرعون وكثرة أتباعه حيث؛ (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الزخرف:51-52]، وفي أوج ضعف موسى وضعف المؤمنين به، حيث وصفه فرعون بالمهانة وضعف الإبانة: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)[الزخرف:51-52]، ومع ذلك لاح النصر وبرق، وانخنس أهل الكفر والنزق، وكانت العاقبة للمتقين.
ومن أهم دروس عاشوراء: أن فيه تذكيرًا للمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها بأن الذي أخذ فرعون في أشد سطوته، وأهلكه في عنفوان قوته، وأغرقه في أوج عظمته قادر على أخذ غيره من الطغاة، وفي التاريخ خير شاهد، فما إن تحين لحظتهم حتى يتساقطوا كتساقط أوراق الشجر الجافة في يوم عاصف.
ومن دروس عاشوراء: في ذكرى مصارع الطغاة، وسقوط المتجبرين عبرة وعظة لمن بعدهم ممن سار على نهجهم واقتفى أثرهم؛ ذلك أن الله لا يهمل وإن أمهل، وأن تلك البروج المشيدة، والقصور المنيفة، ستنهار لتكون أثرًا بعد عين.
ومن الدروس: أن النصر أنواع عدة؛ فقد يكون النصر هزيمة لأهل الكفر والشقاق في ميادين المواجهة المتنوعة، وقد يكون النصر والغلبة بإهلاكهم وإبادتهم وكفاية المسلمين شرهم ومكرهم.
أيها المؤمنون: إن هذا الدين مبناه على الاتباع لا الابتداع، والاقتداء لا الاختراع، وأن من أراد النجاة اتبع سنة خير البرية -صلى الله عليه وسلم-، والناس – يا عباد الله - في يوم عاشوراء مذاهب شتى، فبعضهم أدخلوا فيه وأحدثوا وابتدعوا.. إما سعيًّا منهم إلى الخيرات، أو تقليدًا للغير، أو اتباعاً للهوى وزهداً في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حتى صار الناس فيه طرفين ووسط؛ أما الطرفان؛ فقد تكلم عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن ذكر مقتل الحسين -رضي الله عنه- فقال: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهليّة من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتَّعزي بعزاء الجاهلية، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصّدق فيها ليس فيه إلاّ تجديد الحزن، والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتّوسل بذلك إلى سبِّ السَّابقين الأولين، وشرُّ هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرّجل الفصيح في الكلام.
فعارض هؤلاء قوم إمّا من النّواصب المتعصّبين على الحسين وأهل بيته، وإما من الجُهّال الّذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والشَّرَّ بالشَّرِّ، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتماً يقيمون فيه الأحزان والأفراح، وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة" انتهى.
وأما الوسط فهم أهل السنة والجماعة الذين يتبعون في يوم عاشوراء سنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، فيصومنه بغية تكفير الذنوب، ويصومون يومًا قبله أو بعده مخالفة لليهود، ولا يجعلون من ذلك اليوم عيدًا يظهرون فيه الفرح والسرور نكاية بغيرهم.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه..
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ..
الخطبة الثانية:
عباد الله: اعلموا -رحمكم الله- "أن الأنبياء إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ؛ هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى؛ كما قال الإمام ابن القيم وهو يشرح هذا الحديث: "أنَّ النبي-صلى الله عليه وسلم- شبَّه دين الأنبياء الذين اتفقوا عليه من التوحيد بالأبِ الواحد لاشتراك جميعهم فيه وهو الدِّين الذي شرعه الله لأنبيائه كلهم…، وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دِين أنبيائه ورسله، من أولهم نوح إلى خاتمهم محمد-صلى الله عليه وسلم-، فهو بمنزلة الأب الواحد، وأما شرائع الأعمال والمأمورات فقد تختلف فهي بمنزلة الأمَّهات الشَّتى"اهـ.
لذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحث أصحابه على صيام عاشوراء: "نحن أحق بموسى منهم"؛ فنحن أحق به لأننا صدقنا به وآمنا به ولم نره، وأحق به لأننا وإياه على دين التوحيد الصافي النقي الذي لم يشوبه شرك، ولم يخلطه ضلال، وأحق به لأننا نشهد له بالبلاغ، وأداء رسالته كما ينبغي، وأحق به لأننا لم نؤذه، أو نقدح في رسالته، ولم نكن ممن آذوه؛ (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)[الأحزاب: 69].
فهذه الأمة المباركة هي امتداد للأنبياء والصالحين الممتدين عبر تاريخ الرسالات والنبوات، أمة واحدة، ودين واحد، ورب واحد، ومصير واحد؛ (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[المؤمنون: 51-52].
عباد الله: إن يوم عاشوراء فرصة إيمانية عظيمة، وردس تربوي جليل، ومعلم من معالم العقيدة، ينبغي ألا يمر علينا دون أن نأخذ منه عبرة أو أن نستلهم منه فائدة أو نقتبس من شعاعه نورًا نستضيء به في ظلمات هذا الواقع المرير. كما ينبغي أن نعرف له قدره، ونعطيه حقه بلا إفراط ولا تفريط، بعيدًا عن البدع والمحدثات، بل نستحضر فيه ما يجمع القلوب على كلمة سواء، وأن نبتعد عما يفرقها ويشتتها.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الكبير؛ فقال في كتابه العزيز: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات