عناصر الخطبة
1/ الناس سواسية وأصلهم واحد 2/ الحكمة من جعل الناس درجات 3/ من صور هضم حقوق العمال 4/ توجيهات ونصائح لمن يستأجر عاملاً 5/ من أبرز صور الظلم تأخير الأجر بعد تمام العمل 6/ تكليف العامل فوق طاقته 7/ وجوب الإحسان إلى الأجيراهداف الخطبة
اقتباس
مما شاع في هذه الأزمان وذاع هضم حقوق العمال والأجراء، ولهذا صور شتى: فالبعض من المستأجرين -هداهم الله- لا يوضح تفاصيل ما يريد من عميله وأجيره قبل تشغيله، ويستغل حرص هذا العامل والأجير على أن يجد عملاً يتكسب به فيأخذه دون توضيح طبيعة العمل، ثم يقع الخلاف بعد وأثناء سير العمل، وينتهي الخلاف لصالح صاحب العمل؛ لأنه يأوي في الغالب إلى ركن شديد، فهو في بلده والعامل غريب أو أجنبي كما...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الله خلق الخلق من نفس واحدة وهو آدم -عليه الصلاة والسلام-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) [النساء:1]، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22]، فأبونا الأول هو آدم، وأبونا الثاني هو نوح، فما على وجه الأرض نفس منفوسة إلا وهي من ذرية نوح -عليه السلام-؛ لأن الله أفنى كل من عاداهم ولم يبق إلا ذريته: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) [الصافات:77]، فكل الناس هم أبناء رجل واحد أولًا وهو آدم ثم أبناء نوح ثانيًا، وجعلنا الله شعوبًا وقبائل لنتعارف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13]، ولا تستقيم للناس حياة إلا بأن يتعاونوا ويتكاملوا، فكل منهم محتاج إلى غيره في معايشه ولا يمكن أن يستقل بنفسه في تسيير أمور حياته، فالغني منا محتاج إلى الفقير، والصغير محتاج إلى الكبير، والفقير محتاج إلى الغني وهكذا: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً)، ولم يقل سبحانه: ليتخذ الأغنياء منهم الفقراء سخريًا، بل بين أن كل من هو فوق ومن هو دونه في درجة العيش كل منهما مسخر للآخر.
إذا تبين هذا -يا عباد الله- فاعلموا أن مما شاع في هذه الأزمان وذاع هضم حقوق العمال والأجراء، ولهذا صور شتى: فالبعض من المستأجرين -هداهم الله- لا يوضح تفاصيل ما يريد من عميله وأجيره قبل تشغيله، ويستغل حرص هذا العامل والأجير على أن يجد عملاً يتكسب به فيأخذه دون توضيح طبيعة العمل، ثم يقع الخلاف بعد وأثناء سير العمل، وينتهي الخلاف لصالح صاحب العمل؛ لأنه يأوي في الغالب إلى ركن شديد، فهو في بلده والعامل غريب أو أجنبي كما يسميهم البعض -هداهم الله-، ولا يستطيع أن يشكوه إلى أحد، وما علم هذا المستأجر الظالم أن هذا الأجير المظلوم يأوي إلى ركن شديد وهو الله -جل وعلا- إن كان قد ظلمه أو سلب حقه أو شغله دون أجر.
صح عنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: "اتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". وصور الظلم وسوء المعاملة للعمال والأجراء كثيرة يصعب حصرها، ولكني أذكر نفسي وكل من يستأجر عاملاً أو أجيرًا بأمور لا يجوز إغفالها:
أولاً: أن هذا العامل أو الأجير إنسان يجب تكريمه بتكريم الله له: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)، وديننا قد أمر بالرفق بالحيوان فكيف بالإنسان!! قال -صلى الله عليه وسلم-: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، فهذه امرأة تصلى النار بسبب هرة. ومر -صلى الله عليه وسلم- على دابة قد وشم وجهها فقال: "لعن الله من فعل هذا"، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن خصاء البهائم؛ لما فيه من أذيتها... إلى غير ذلك مما هو شائع معروف، وكل هذا في الحيوان، فكيف بالإنسان الذي قال الله فيه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ).
ثانيًا: أن هذا العامل أو الأجير مسلم؛ فهو أخوك بحكم الإسلام وإن كنت أغنى منه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم"، وقال -صلى الله عليه وسلم- في العبيد والأرقاء: "إخوانكم خولكم"، فكيف بالأجير الحر!! بل قد يكون هو أفضل عند الله منك إن كان أتقى لله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ثالثًا: أن هذا العامل ما جاء إلى هذه البلاد وترك أهله ووطنه ليعيش غريبًا بعيدًا إلا ليعف نفسه وعائلته بالكسب الحلال من عمل يده، ولو شاء لسلك طرق الحرام وهي كثيرة ميسورة، صح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح"، أي إذا اجتهد وبلغ وسعه في إتقان العمل، فكسبه خير كسب كما قال الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، وفي صحيح البخاري عنه -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"، وإن مسلمًا ترك سبل الحرام وهو قادر عليها لو أراد ليعف نفسه وأسرته بالكسب الحلال، بل بأفضل الكسب، لهو حري بأن نعززه وأن ينال منا كل إجلال وإكبار.
رابعًا: أن هذه المهن التي يعمل فيها أكثر العمال اليوم هي مهن شريفة بل هي مهن الأنبياء والمرسلين، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان آدم -عليه الصلاة والسلام- حراثًا، وكان نوح نجارًا، وكان إدريس خياطًا، وكان إبراهيم ولوط زراعين، وكان صالح -عليه السلام- تاجرًا، وكان داود زرادًا، أي حدادًا يزرد الدروع، وكان موسى وشعيب -عليهما الصلاة والسلام- ومحمد -صلى الله عليه وسلم- رعاة"، وفي الحديث: "وكان زكريا -عليه السلام- نجارًا"، وهؤلاء العمال والأجراء غالبهم يتراوحون بين هذه المهن، فهي مهن الأنبياء والمرسلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ).
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي حرم الظلم وجعله بيننا محرمًا ، القائل فيما رواه عنه -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"، والصلاة والسلام على عبده ورسوله القائل فيما صح عنه: "واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
وإن صور الظلم -يا عباد الله- للعمال والأجراء كثيرة جدًّا يصعب أن نحصيها في يوم واحد، وإن من أبرزها تأخير أجرة العامل بعد أن يتم عمله، فيماطله صاحب العمل لا يسدده أجرته فورًا، وفي الحديث الثابت عنه -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه".
وإن من صور الظلم أن يكلف العامل بأمور هي فوق طاقته، أو بأمور غير ما اتفق صاحب العمل عليها، أو بأمور لم تجر العادة بتكليفه بها، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- في العبيد الأرقاء أنه قال: "إخوانكم خولكم -أي خدمكم-، جعلهم الله قنية تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده...". فسماه أولاً أخاه، وأمرنا بالإحسان إليه بقوله: "فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه"، فلنتق الله -يا عباد الله- في عمالنا وأجرائنا، ولنعنهم على الكسب الحلال، ولا نلجئهم إلى المحرمات وهي كثيرة، بل لنشجعهم على هذه المهن التي اختاروا سلوكها والبعد عن سبل الحرام، فمهنهم أطيب المهن، وكسبهم أطيب كسب، وكان نبي الله داود يأكل من كسب يده.
أسأل الله العلي العظيم أن يجنبنا الظلم بسائر صوره وأشكاله، اللهم إنا نعوذ بك من الظلم، اللهم إنا نعوذ بك أن يطالبنا واحد من خلقك بشيء ظلمناه فيه.
التعليقات