عناصر الخطبة
1/ هول الموت وشدته 2/استحباب تذكر القبور 3/انتفاع الأموات بدعاء الأحياء 4/من مواعظ السلف في الاتعاظ بالقبور 5/عسكر الموتى ينتظرونك 6/بادروا بالتوبة.اقتباس
وقد رأى أبو قلابة ميتًا في نومه فقال له: جزى الله أهل الدنيا خيرًا أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نور مثل الجبل، وقال بعضهم: "رأيت أًخا في النوم بعد موته، فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء؟ قال: أي والله، يترفرف مثل النور ثم نلبسها". وعن عمرو بن جرير قال: "إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه ملك في قبره، فقال له: يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ شفيق...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي يبدي ويعيد، خلق السماوات والأرض بالحق وهو على كل شيء شهيد، جعل الشمس ضياء، والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، وهو العزيز الحميد.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، رفع الله به أعلام التوحيد, صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أولي الرأي السديد، والعمل الرشيد، والتابعين لهم بإحسان من سائر العبيد، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المزيد.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فالأعمار تُطوى، والأجيال تُفنى، والآجال تقضى، كم من الناس من عاش معنا بالأمس، عاجله أجله قبل اليوم، وكم من الناس من يعيش معنا اليوم لن يمهله أجله إلى الغد.
عباد الله: لا شك أن الموت أمر عظيم، ومن هوله وعظمة أمره نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تمنيه، وإن الأموات أحوج إلى الدعاء من الأحياء، فلا بد من تذكر الموت والتفكر فيما بعده، والعمل له، والاستعداد ليوم تبقى فيه وحيدًا، في أشد الحاجة لعمل صالح يبقى لك في قبرك تنتفع به بعد الموت. فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد" [مسند أحمد (14604) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (11 /81) رواه أحمد والبزار وإسناده حسن].
وأرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الغفلة واستحكامها، وطغيان النفس وعنادها، وعصيانها لربها -سبحانه- أن نزور القبور لما فيها من التذكرة بالموت، والموعظة للأحياء، أنهم سيكونون في لحظة من اللحظات في باطن الأرض بعد ما كانوا على ظهرها، يتمتعون، ويضحكون، ويلعبون، فيتذكرون الموت، فيعملون له ويفيقون من غفلتهم، فعن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإن في زيارتها تذكرة" [ أبو داود (3235) وصححه الألباني] أي أن زيارة القبور تذكّر الأحياء بالموت والقبر والسكرات والمصير بعد الحياة، وعن بريدة أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجراً" [ النسائي ( 2032) وصححه الألباني] أي من جاء زائرًا القبور فليعتبر بحال أهلها ولا ينطق سوءاً ولا يعترض على قضاء الله وقدره.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يذكر أصحابه بالموت وما بعده، ويحذرهم من الغفلة، ويأمرهم بحسن الاستعداد وحسن العمل، فعن البراء بن عازب قال: "بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أبصر بجماعة، فقال: علام اجتمع عليه هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبدر بين يدي أصحابه مسرعا، حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، قال: أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا" [مسند أحمد (18624) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/345)].
أيها الإخوة: تذكروا القبور وتفكروا في أحوالها وظلمتها وشده أهوالها، فهذه وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستحيوا من ربكم أن يراكم على ما يكره، وليس الحياء ما يظهره أحدنا في بعض المواقف، وإنما الحياء وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأحسن وصفه، فعن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "استحيوا من الله حق الحياء، قلنا: يا رسول الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا" يعني: من الله حق الحياء. [الترمذي (2458) وصححه الألباني].
وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عمر وكان إذ ذاك دون العشرين من عمره، يحكي ابن عمر فيقول: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض جسدي، فقال:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور" [ الترمذي (2333) وصححه الألباني].
ولذلك كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يخافون من شدة الموت وظلمة القبور، فهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه"، قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه" [ابن ماجه (3461) وصححه الألباني].
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما طُعِنَ، دخل عليه رجل فقال له: إني لأرجو أن لا تمس جلدك النار، فنظر إليه ثم قال: "إن من غررتموه لمغرور، والله لو أن لي ما على الأرض؛ لافتديت به من هول المطلع" [البيهقي في شعب الإيمان (4872)].
وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، أضحكني: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه، لا يدري أأرضى الله أم أسخطه؟، وأبكاني: فراق الأحبة محمد -صلى الله عليه وسلم- وحزبه، وأحزنني هول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية، ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار" [أبو نعيم في حلية الأولياء (1/207)].
وقال أنس بن مالك: "ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن: أول يوم يجيئك من الله تعالى، إما برضاه وإما بسخطه، ويوم تعرض فيه على ربك آخذاً كتابك، إما بيمينك وإما بشمالك، وليلة تستأنف فيها المبيت في القبور ولم تبت فيها قط، وليلة تمخض صبيحتها يوم القيامة".
قال سليم بن عامر: خرجنا في جنازة على باب دمشق، ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة: "إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تغنمون منه الحسنات والسيئات، توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا -يشير إلى القبر- بيت الظلمة، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى يوم القيامة".
وقالت امرأة هشام الدستوائي: كان هشام إذ طفئ المصباح، غشيه من ذلك أمر عظيم، فقلت له: إنه يغشاك أمر عظيم عند المصباح إذا طفئ، قال: "إني أذكر ظلمة القبر"، ثم قال: "لو كان سبقني إلى هذا أحد من السلف، لأوصيت إذا مت أن أُجعل في ناحية من داري"، قال: فما مكثنا إلا يسيرًا حتى مات، قال: فمر بعض إخوانه به في قبره فقال: يا أبا بكر صرت إلى المحذور، وكان هشام إذا رجع من جنازة، لم يتعشَ تلك الليلة، وكان لا ينام إلا في بيت فيه سراج، فطفئ سراجه ذات ليلة فخرج هاربًا، فقيل له: ما شأنك؟ قال: ذكرت ظلمة القبر.
وعن خالد بن خداش قال: كنت أقعد إلى أشيم البلخي وكان أعمى، وكان يحدث ويقول: "أواه القبر وظلمته، واللحد وضيقه، وكيف أصنع؟". ثم يُغشَى عليه، ثم يعود فيحدث، فيصنع مثل ذلك مرات حتى يقوم.
ونظر ابن مطيع يومًا إلى داره فأعجبه حسنها، فبكى ثم قال: "والله لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا، ثم بكى بكاء شديدًا حتى ارتفع صوته".
أيها الأخ الكريم: اتق الله وأخلص له العمل فإن الناقد بصير، وأحسن الاستعداد لما بعد الموت فإن السفر طويل، فبعد الموت يتمنى الإنسان لو خرج من ماله وولده ونجا من عذاب الله، فعن الفيض بن إسحاق قال: قال لي الفضيل بن عياض: "أرأيت لو كانت لك الدنيا فقيل لك: تدعها ويوسع لك في قبرك ما كنت تفعل؟" قال: أدعها, فقال فضيل: "أليس تموت؟ وتخرج من أهلك ومالك، وتصير إلى القبر وضيقه وحدك، ثم قال: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) [الطارق: 10]، ثم قال: إن كنت لا تعقل هذا، فما في الأرض دابة أحمق منك".
وقال محمد بن حرب المكي: قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد، فاجتمعنا إليه، وأتاه وجوه أهل مكة قال: فرفع رأسه فنظر إلى القصور المحدقة بالكعبة، فنادى بأعلى صوته: "يا أصحاب القصور المشيدة، اذكروا ظلمة القبر الموحشة، يا أهل النعيم والتلذذ: اذكروا الدود والصديد، وبلي الأجساد في التراب"، قال: ثم غلبته عيناه فنام.
ودخل سعيد بن عبد العزيز على سليمان الخواص فقال: ما لي أراك في الظلمة؟ قال: ظلمة القبر أشد. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول في موعظة له طويلة يذكر فيها أهل القبور: "أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ أليس الليل والنهار سواء؟".
أيها الإخوة: والأعمال بالخواتيم، عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ" [مسلم (2878)]، نسأل الله أن يحسن لنا الختام، روى ابن أبي الدنيا من طريق أبي غطفان المري قال: قال عمر: يا رسول الله! لو فزعتنا أحيانا لفزعنا، فكيف بظلمة القبر وضيقه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يبعث العبد على ما قبض عليه" وهو حديث مرسل يقويه ما سبقه.
وعن وهب بن منبه قال: كان عيسى -عليه السلام- واقفا على قبر ومعه الحواريون، وصاحبه يدلى فيه، فذكروا القبر ووحشته، وضيقة وظلمته، قال عيسى -عليه السلام-: "قد كنتم في أضيق منه، أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسع"، وعن جعفر بن سليمان قال: شهد رجل يدلى في حفرته فقال: "إن الذي يسهل على الجنين في بطن أمه قادر أن يسهل عليك".
عباد الله: والدعاء للموتى من العبادات المأمور بها، قال الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]، وفي الآية دلالة على أنه ينبغي للمسلم أن يذكر سلفه بخير، ويدعو لهم، وأن يحب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويذكرهم بخير، ويترضى عنهم، ويدعو لموتى المسلمين.
فإذا مات الميت وانقطع عمله، وقدم على ربه، كان أفقر شيء إلى رحمة الله -سبحانه-، ثم إلى دعاء إخوانه، فإن في الموتى إلى دعاء الأحياء لحاجة عظيمة، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص على الصلاة على الموتى والدعاء لهم بعد الدفن، فعن يزِيد بن ثَابت أَنهم خَرجُوا مَعَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- ذَات يَوْم إلى البقيع، فَرَأى قبرًا (حَدِيثًا) قَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا: هَذِه فُلَانَة مولاة بني فلَان -فعرفها رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- مَاتَت ظهرا وَأَنت صَائِم قَائِل، فَلم نحب أَن نوقظك لَهَا. فَقَامَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصف النَّاس خَلفه فَكبر عَلَيْهَا أَرْبعا، ثمَّ قَالَ: لَا يموتن فِيكُم ميت مَا دمت بَين أظْهركُم إِلَّا آذنتموني بِهِ؛ فَإِن صَلَاتي لَهُ رَحْمَة" [النسائي (2022) وصححه الألباني].
وإذا اهتم الناس بحضور جنازات معينة لأغنياء أو عظماء، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص على جنازات الفقراء وغيرهم من الضعفاء، فقد كان غلام أسود، أو جارية سوداء، ينظف المسجد فمات، فدُفن ليلاً، فأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأُخبر فقال: "انطلقوا إلى قبره" فانطلقوا فقال: "إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة، وإن الله- عز وجل- ينوّرها بصلاتي عليها" فأتى القبر فصلى عليه" [مسند أحمد (12539) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 3/ 55): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)].
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأتي القبور داعيًا لأهلها ذاكرًا الموت، ويذكر ما يتعرض له الأحياء من الفتن التي تعرض لهم في جنبات الحياة، ويرجو للأموات العافية، فعَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ! لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ! إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْجَنَّةِ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ.
قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- وَالْجَنَّةَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ" [مسند أحمد (16040)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 312): رواه أحمد والطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات، وضعفه الألباني].
أيها الإخوة: وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم إلى الدعاء لوالديه وأرحامه بعد موتهم، وأخبر أنه هذا الدعاء نافعهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيَرْفَعُ لِلرَّجُلِ الدَّرَجَةَ، فَيَقُولُ: أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِدُعَاءِ وَلَدِكَ لَكَ" [مسند البزار (3141) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (11/16): رواه البزار ورجاله رجال الصحيح].
وقد رأى أبو قلابة ميتًا في نومه فقال له: جزى الله أهل الدنيا خيرًا أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نور مثل الجبل، وقال بعضهم: "رأيت أًخا في النوم بعد موته، فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء؟ قال: أي والله، يترفرف مثل النور ثم نلبسها". وعن عمرو بن جرير قال: "إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه ملك في قبره، فقال له: يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ شفيق عليك".
وعن بشر بن منصور قال: كان رجل يختلف إلى الجبان زمن الطاعون، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: "آنس الله وحشتكم، ورحم الله غربتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، وقبل الله حسناتكم"، لا يزيد على هذه الكلمات، قال: فإذا أمسيت ذات ليلة، فانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر، فأدعو كما كنت أدعو قال: فبينما أنا نائم إذا أنا بخلق كثير قد جاءوني فقلت لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر قلت: وما تريدون؟ قال: إنك كنت عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، قلت: وما هي؟ قال: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: فقلت: إني أعود لذلك فما تركها بعد.
وعن سفيان بن عيينة قال: كان يقال: الأموات أحوج إلى الدعاء من الأحياء إلى الطعام، وعن بعض المتقدمين قال: مررت بالمقابر فترحمت عليهم، فهتف هاتف: نعم، فترحم عليهم فإن فيهم المهموم والمحزون، وعن العباس بن يعقوب بن صالح الأبياري، سمعت أبي يقول: رأى بعض الصالحين أباه في النوم فقال: يا بني لم قطعتهم هديتكم عنا؟ قال: يا أبت وهل تعرف الأموات هدية الأحياء؟ قال: يا بني لولا الأحياء هلكت الأموات.
نسأل الله حسن الخاتمة، ونسأله أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.
وإليك -أخي الكريم- من كلام السلف الصالح في الاتعاظ بالقبور: فعن عبد الله بن العيزار قال: "لابن آدم بيتان: بيت على ظهر الأرض، وبيت في بطن الأرض، فعمد للذي على ظهر الأرض، فزخرفه وزينه، وجعل فيه أبوابا للشمال، وأبوابا للجنوب، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض، فأخربه، فأتى عليه آت فقال: أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري، قال: فالذي قد أخربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي، قال: تقر بهذا على نفسك وأنت رجل يعقل"!.
وعن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه: "لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية، لجدوا واجتهدوا في أيامهم الخالية، خوفا من يوم تتقلب في القلوب والأبصار"، وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: "القبر منزل بين الدنيا والآخرة، فمن نزله بزاد وارتحل به إلى الآخرة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر".
وشهد الحسن جنازة فاجتمع عليه الناس، فقال: "اعملوا لمثل هذا اليوم - رحمكم الله - فإنما هم إخوانكم، يقدمونكم وأنتم بالأثر، أيها المخلف بعد أخيه، إنك الميت غدا والباقي بعد، والميت في أثرك أولا بأول، حتى توافوا جميعا، قد عمكم الموت، واستويتم جميعا في كربه وغصصه، ثم تخليتم إلى القبور، ثم تنشرون جميعا، ثم تعرضون على ربكم - عز وجل-".
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "عباد الله، اعملوا لظلمة القبر قبل فوات العمل وبادروا بالتوبة قبل انقضاء الأجل وأشعلوا في قلوبكم نيران الخوف والوجل, وتزودوا للقبر بينما أنتم في فسحة ومهل فإن الموت آت والعمر فات والطريق طويل والزاد قليل".
يا عباد الله: اذكروا الموت والبلى والقبر والموت والسكرات، وأكثروا من ذكر هاذم اللذات، فإلى كل من يتساهل بالصلاة أو يفرط فيها، إلى كل من يمنع الزكاة ويتهاون بها، إلى كل من يعق والديه، ويعذبهما، إلى كل من يقطع أرحامه ويهجرهم، إلى كل من يحارب الله ورسوله بتعامله بالربا، إلى كل من يغش في البيع والشراء أو يرشي أو يرتشي، إلى كل من يغني ويستمع الغناء، إلى كل من غش أهله وأدخل القنوات الخبيثة في بيته، إلى كل من يضيع من يعول من زوجة وأولاد.
إلى كل من يزني، إلى كل من يعمل عمل قوم لوط، إلى كل من أسبل ثوبه وجر إزاره، إلى كل من حلق لحيته، إلى كل من ظلم وأكل حقوق الغير وخاصة العاملين في المنازل، إلى كل من ينام عن صلاة الفجر، إلى كل من يذهب، إلى السحرة والمشعوذين، إلى كل من يستهزأ بأهل الدين والصالحين، إلى كل من يحسد ويحقد على إخوانه المسلمين، إلى كل من يدور في الأسواق ركضاً خلف محارم المسلمين ويطلق بصرة على النساء.
إلى كل من يدنس فمه الذي ذكر الشهادة يدنسه بسيجارة أو شيشة قبيحة الرائحة، إلى كل من يستعمل المخدرات، إلى كل من هجر القرآن الكريم تلاوة وتدبراً وعملاً، إلى كل من يجالس أهل السوء والشر، إلى كل من هجر الصالحين ومجالس الذكر، إلى كل من لم يحج وهو يستطيع ويملك مقومات الحج، إلى كل من يشهد شهادة الزور أو يعين عليها، إلى كل من يوالي الكفار، إلى كل من استقدم عمالة من غير المسلمين ولم يدعهم، إلى الإسلام، إلى كل من يبتدع في دين الله، إلى كل من يكذب ويتحرى الكذب، إلى كل من نادى بالتبرج والسفور وخروج المرأة المسلمة، إلى كل من غفل عن ذكر الله تعالى أما آن الأوان أن نراجع حساباتنا؟ أما آن الأوان أن نتدارك ما بقي من أعمارنا؟ أما آن الأوان أن ننتبه من غفلتنا ؟ أما آن الأوان أن نستيقظ من رقدتنا؟.
أخي الكريم: انتبه للموت وسكراته، والقبر وظلماته واعمل لما بعد الموت، أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا. اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا. اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
التعليقات