ظاهرة المبالغة في الديات

سعد آل مجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/حاجة الإنسان إلى غيره وحقوق المؤمن على أخيه 2/وجوب العمل على وحدة كلمة المسلمين ورأب الصدع فيما بينهم 3/بعض الأدلة الشرعية الدالة على جواز الصلح في الدماء 4/مقدار الدية المقررة شرعا وجواز الصلح بأكثر من الدية 5/بعض الأمور التي يجب مراعاتها عند الصلح بأكثر من الدية المقررة شرعا

اقتباس

ومعَ هذهِ الأوامرِ الأكيدةِ، والحقوقِ المتينَةِ، إلاّ أنَّ المسلمَ قَدْ يُخْطِئُ أوْ يُقَصِّرُ، فيخالِفُ الأمرَ الإلهيَّ، ويَحيدُ عَنِ التَّوْجيهِ النَّبَوِيِّ، فيعتَدِي علَى حقوقِ إخوانِه، أوْ يُقصِّرُ في بعضِ ما يجبُ لأخْدانِهِ، وقَدْ يتمادَى الأمرُ بسببِ ذلِكَ، فتقعُ المشاحَناتُ والخصُوماتُ، والتقاطُعُ والتدابُرُ، فيزدادُ الأمرُ سوءًا إلى سوءٍ، ومعصيةً إلى معصيةٍ.

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ -تعالَى­، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إنَّ اللهَ -تعالَى- قَدْ خلقَ الخلْقَ وجعلَ كُلَّ واحدٍ مِنْهم بحاجةٍ إلى غيرِهِ لا يستطيعُ أنْ يعيشَ وحدَهُ، ولا أنْ ينفرِدَ بأمرِهِ، وقدْ جعلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- عَلاقةً خاصةً بينَ المؤمنينَ، ورابطةً ساميةً بينَ المسلمينَ، فالمؤمنُ أخو المؤمنِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10]، و "المسلمُ أخو المسلمِ".

 

فلا رابطةَ أعلَى مِنْ رابطةِ الإيمانِ، ولا وَشيجَةَ أقْوَى مِنْ وشيجَةِ الإسلامِ، ولهذا كانَ لهذهِ الأُخوَّةِ حقوقٌ عظيمةٌ، وواجباتٌ كريمةٌ، بَينَّهَا لنا ربُّنا -سبحانَه وتعالَى- في كتابِهِ الكريمِ، ووضَّحَها لنا رسولُه الأمينُ في سُنَّتِه عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتَمُّ التَّسْليمِ، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 11-13].

 

ويقولُ رسولنُا الكريمُ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بعضُكم علَى بيعِ بعضٍ، وكونُوا عِبادَ اللهِ إخْواناً، المسلمُ أخو المسلمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُه ولا يَحْقِرُهُ، التقوَى هَاهُنا" ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مَرَّاتٍ "بحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المسلمَ، كلُّ المسلمِ علَى المسلمِ حرامٌ؛ دَمَهُ ومالُه وعِرْضُه"(أخرجَه مسلم).

 

ومعَ هذهِ الأوامرِ الأكيدةِ، والحقوقِ المتينَةِ، إلاّ أنَّ المسلمَ قَدْ يُخْطِئُ أوْ يُقَصِّرُ، فيخالِفُ الأمرَ الإلهيَّ، ويَحيدُ عَنِ التَّوْجيهِ النَّبَوِيِّ، فيعتَدِي علَى حقوقِ إخوانِه، أوْ يُقصِّرُ في بعضِ ما يجبُ لأخْدانِهِ، وقَدْ يتمادَى الأمرُ بسببِ ذلِكَ، فتقعُ المشاحَناتُ والخصُوماتُ، والتقاطُعُ والتدابُرُ، فيزدادُ الأمرُ سوءًا إلى سوءٍ، ومعصيةً إلى معصيةٍ.

 

أيُّها المؤمنونَ: إنَّ مِنْ أعْظَمِ الواجِباتِ علَى المسلمِ حِينَ يَجِدُ الشِّقاقَ والقَطيعةَ بينَ المسلمينَ: أنْ يعملَ علَى توحيِد كلمتِهمْ، وجمْعِ شَمْلِهمْ، ورَأْبِ صَدْعِهمْ، وإنَّ له في ذلكَ لَلأَجْرَ الكبيرَ، والثوابَ الوفيرَ، مِنْ مَوْلاهُ العَلِيِّ القديرِ؛ الذي يقولُ جلَّ شأنُه: اَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 114].

 

وقدْ أمرَنا اللهُ -تباركَ وتعالَى­ بالإصلاحِ بينَ المؤمنينَ في حالِ اقتتالِهما، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الحجرات: 9-10].

 

ولِعَظيمِ مصالِحِ الإصلاحِ وثَمراتِهِ، فقَدْ أحَلَّ لنا الشَّرْعُ الكَذِبَ فيه؛ فعَنْ أُمِّ كُلثومٍ -رضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّها سمِعَتْ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وهوَ يقولُ: "ليسَ الكذَّابُ الذي يُصْلِحُ بيْنَ الناسِ، ويقولُ خيراً، ويَنْمِي خيراً" قالَتْ: ولمْ أسمعْ يُرَخَّصُ في شيءٍ مِمَّا يقولُ الناسُ: كَذِبٌ إلاَّ في ثلاثٍ: الحربُ، والإصلاحُ بينَ الناسِ، وحديثُ الرجُلِ امرأتَهُ وحديثُ المرأةِ زوجَها"(متفقٌ عليه).

 

قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الصُّلْحُ نَوْعَانِ: أ- صُلْحٌ عَادِلٌ جَائِزٌ، وَهُوَ مَا كَانَ مَبْنَاهُ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرِضَا الْخَصْمَيْنِ، وَأَسَاسُهُ الْعِلْمُ وَالْعَدْل، فَيَكُونُ الْمُصَالِحُ عَالِمًا بِالْوَقَائِعِ، عَارِفًا بِالْوَاجِبِ، قَاصِدًا لِلْعَدْل؛ كَمَا قَال سُبْحَانَهُ: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ)[الحجرات: 9].

 

ب- وَصُلْحٌ جَائِرٌ مَرْدُودٌ: وَهُوَ الَّذِي يُحِل الْحَرَامَ أَوْ يُحَرِّمُ الْحَلاَل، كَالصُّلْحِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَكْل الرِّبَا، أَوْ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ، أَوْ ظُلْمَ ثَالِثٍ، وَكَمَا فِي الإِصْلاَحِ بَيْنَ الْقَوِيِّ الظَّالِمِ وَالْخَصْمِ الضَّعِيفِ الْمَظْلُومِ بِمَا يُرْضِي الْمُقْتَدِرَ صَاحِبَ الْجَاهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، بَيْنَمَا يَقَعُ الإِغْمَاضُ وَالْحَيْفُ فِيهِ عَلَى الضَّعِيفِ، أَوْ لاَ يُمَكِّنُ ذَلِكَ الْمَظْلُومَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ.

 

أقولُ قولِي هذَا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم فاستغفروه إنَّه هُوَ الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والعاقِبةُ لِلمتقينَ، ولا عُدْوانَ إلاَّ علَى الظالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، الإلهُ الحقُّ المُبِينُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، إمامُ المتقينَ وخاتَمُ المرسلينَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ علَى عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وعلَى آلِه وصحبِه أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

 

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حقَّ تقواهُ، واعمَلوا بطاعتِهِ ورِضاه.

 

 

أيُّها المسلمونَ: تُعْتَبَرُ قَضِيَّةُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دونَهَا مِنْ أَبْرَزِ الْقَضَايَا الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا الصُّلْحُ، وَخَاصَّةً الصُّلْحُ الْقَبَلِيُّ، والصُّلْحِ فِي الدِّمَاءِ مشروعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ، فَمِنَ الْكِتَابِ قَولُهُ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[البقرة: 178].

 

قَالَ اِبْنُ عَاشُورِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "اِتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ التَّرْغِيبَ فِي الْمُصَالَحَةِ عَنِ الدِّمَاءِ".

 

وَمِنَ السُّنَّةِ حَديثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلَاحَى رَجُلًا فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ فَشَجَّهُ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَكُمْ كَذَا وَكَذَا" فَلَمْ يَرْضَوْا، قَالَ: "فَلَكُمْ كَذَا وَكَذَا" فَرَضُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ؟" قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "إِنَّ هَؤُلَاءِ اللَّيْثِيِّينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا أَفَرَضِيتُمْ؟" قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُفُّوا، فَكُفُّوا ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ، فَقَالَ: "أَرَضِيتُمْ؟" فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "إِنِّي خَاطِبٌ النَّاسَ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ؟" قَالُوا: نَعَمْ. فَخَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "أَرَضِيتُمْ؟" قَالُوا: "نَعَمْ"(أخرجه أبوداود).

 

قَالَ الْخِطَابِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فِيهِ دَليلٌ عَلَى جَوَازِ إِرْضَاءِ المَشجُوجِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ الشَّجَّةِ إِذَا طَلَبِ المَشجُوجَ الْقِصَاصَ.

 

وَمِنِ الْإِجْمَاعِ مَا نَقَلَهُ الزَّيْلَعِيُ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقَالَ: "أَجَمَّعَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ".

 

وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ الْمُقَدَّرَةِ شَرَعًا، فَاِخْتَارَ الشَّيْخُ اِبْنُ بَازٍ وَاِبْنُ عُثَيْمِينٍ وَاِبْنُ جَبْرَيْنٍ -رَحِمَهُمْ اللهُ-، جَوَازَ الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ بَدَلًا عَنِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا مَا قَرَّرَتْهُ هَيْئَةُ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْمَمْلَكَةِ الْعَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ في 10/5/1422 هـــ برقم ( 204 ) ونصه: "إِنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ الصُّلْحِ وَعَدَمِ تَحْدِيدِهِ بِحَدِّ مُعَيَّنِ مَا لَمْ يَشْتَمِلُ الصُّلْحُ عَلَى إِحْلَاَلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمُ حَلَالٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَجْلِسِ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ"، وَبِهَذَا الْقَوْلِ تَعْمَلُ الْمُحَاكِمُ فِي بِلَادِنَا.

 

إِخْوَةُ الْإيمَانِ: إِذَا تَقَرَّرَ لَدَيْنَا جَوَازُ الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ الْمُقَدَّرَةِ فَإِنَّهُ يَنبَغِيِ أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أولاً: لَا يَجُوزُ السَّعِيُّ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ عُرِّفُوا بِالْاِعْتِدَاءِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، قَالَ الشَّيْخُ اِبْنُ عُثَيْمِينٍ: هَلِ العَافِيِ عَنِ الْمُجْرِمِ الظَّالِمِ الْمُعْتَدِّيِّ، الْمَعْرُوفِ بِالْعُدْوَانِ، مُصَلِّحٌ؟! الْجَوَابُ: لَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا عُفِّيَ عَنْهُ الْيَوْمَ، فَقَدْ يَقْتُلُ وَاحِدَا أَوْ عَشْرَةٌ غَدَا، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَنبغيِ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ نَقل بِتَحْرِيمِ الْعَفْوِ، فَإِنَّنَا لَا نُقُولُ بِتَرْجِيحِهِ.

 

ثانياً: لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ، وَبِهَذَا أَفَتَتْ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ فَقَالَتْ: "لَا نَرَى دَفْعَ شَيْءٍ مِنَ الزَّكَاةِ فِيمَا يَجْرِي مِنَ الصُّلْحِ عَنْ مُبَالِغٍ تُقَدَّرُ بِالْمَلَاَيِينِ تُدْفَعُ لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ بَدَلًا عَنِ الْقِصَاصِ، لِأَنَّ فِي دَفْعِهَا فِي ذَلِكَ إِجْحَافًا فِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ، وإضراراً بِهُمْ".

 

ثالثاً: لَا يَجُوزُ إِلْزَامُ أَفْرَادِ الْقَبِيلَةِ عَلَى دَفْعِ تِلْكَ الدِيَاتِ، وَلَا أخْذِهَا بِسَيْفِ الْحَيَاءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"(صححه الألباني).

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى وَصِفَاتِكَ الْعُلَى أَنْ تُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِنَا.

 

اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَارْفَعْ رَايَةَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ.

 

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاَةَ أُمُورِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنّاً بِالْعَدْلِ وَالإِيمَانِ، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.

 

المرفقات
ظاهرة-المبالغة-في-الديات.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life