عناصر الخطبة
1/ذم الأمل 2/مفاسد طول الأمل 3/حال السلف وحرصهم على قصر الأمل 4/التذكير بقصر الأعمار وسرعة الرحيل 5/ عواقب رغبة العبد في الدّنيا ورضاه بها.اقتباس
يا ابن آدم، إنك لو رأيت قريب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك, وإنما يلقاك غدًا ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك الولد القريب، ودفنك الوالدُ والنسيب, فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد, فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي علا في سمائه، وقهر في ملكه، وعدل في حكمه، فله الأسماء والصفات العلا، يعلم السر وأخفى وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده على توالي مننه، وتظاهر نعمه, وأعوذ بجلاله وسلطانه من سخطه ونقمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بوحي منظوم، وأمر معلوم, فنطق بالصدق، ودعا إلى الحق, وبلّغ دين الله حتى أتاه الحق, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المؤمنين.
في المسند وغيره عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- غَرَزَ بَيْنَ يَدَيْهِ غَرْزًا ثُمَّ غَرَزَ إِلَى جَنْبِهِ آخَرَ، ثُمَّ غَرَزَ الثَّالِثَ فَأَبْعَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟" قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، وَهَذَا أَمَلُهُ, يَتَعَاطَى الْأَمَلَ وَالْأَجَلُ يَخْتَلِجُهُ دُونَ ذَلِك".
وفي البخاري وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن سعود -رضي الله عنه- قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: "هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا".
إنها الآمال أيها الكرام, كل امرئ في هذه الدنيا يؤمل, كل إنسان تدور في خاطره أماني, الجلّ منا قد أطال أمله, واستبعد أجله, أَمَلُه أن يعيش طويلاً, ويُعَمَّرَ في الأرض كثيرًا, ولِتعلم طول آمالنا انظر في أحاديث الناس, تجدها أحاديثُ من ليس وراءه موت, انظر في جمعنا للمال تجد أن الكثير يجمع ما يعيّشه عقودًا وربما قرونًا, نرى الأموات ولا يخطر في بالنا أننا يومًا سنموت, ابنُ العشرين يؤمل أن يبلغ الستين, وابنُ الستين يؤمل أن يبقى حتى يطعن في الثمانين, وهكذا طالت آمالنا فساءت أعمالنا, وما أطال أحدٌ الأمل إلا أساء العمل.
يا كرام: نعمْ العبدُ يُطلب منه أن يَعمُر الدنيا, يطلب منه أن لا ينسى نصيبه من الدنيا, وإنه يُحمَدُ مِن طول الأمل ما يكون فيه عمارة الأرض, ولذا أخفى الله الآجال عن عباده رحمة بهم, قال ابن القيم: "ومِن حكمته –سبحانه- ما منعهم من العلمِ علمِ الساعة ومعرفة آجالهم, وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظرٍ, فلو عرف الإنسان مقدار عمره فإن كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش, وكيف يتهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت, فلولا طول الامل لخربت الدنيا, وإنما عمارتها بالآمال". (مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/ 283)
وقال الحسن: لولا السهو والأمل ما مشى المسلمون في الطريق.
ولكن عمارةَ الدنيا والعملَ لها لا يعني أن ينسى المرء الآخرة, وقُرْبَ انتقاله لها, ومَن تأمل في حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عرف قصر أمله, في السنن عن عبد الله بن عمرو قال: "مر علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نعالج خُصًّا لنا قد وهى فقال ما هذا؟ فقلنا قد وهى فنحن نصلحه. قال ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك".
وفي السنن عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض جسدي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك في أهل القبور" وكان ابن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك".
ونام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثَّر في جنبه فقال الصحابة يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال: "ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
وجاء مِن بعده أناسٌ من صحابته ومَن بعدهم, قَصُرَتْ آمالُهم, وحسُنَت أعمالهم, تُنبيك عن ذلك أقوالهم وفِعالهم, "دخل رجل على أبي ذرّ الغفاريّ -رضي الله عنه- فجعل يقلّب بصره في بيته فقال: يا أبا ذرّ! أين متاعكم؟ فقال: إنّ لنا بيتا نتوجّه إليه، فقال: "إنّه لا بدّ لك من متاع ما دمت هاهنا"، فقال: إنّ صاحب المنزل لا يدعنا هاهنا, وقّدم معروف الكرخي ابن أبي توبة ليصلي بهم فقال: إنّي إن صلّيت بكم هذه الصّلاة, فلن أؤمكم في الصلاة بعدها، فقال معروف: وأنت تحدّث نفسك أن تدرك صلاة أخرى؟ نعوذ باللّه من طول الأمل.
وخرج داود الطّائيّ في جنازة، فانتبذ فقعد ناحية وهي تدفن, قال أحدهم فجئت فقعدت قريبا منه فتكلّم فقال: "من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكلّ ما هو آتٍ قريب, واعلم أنّ أهل الدّنيا جميعًا من أهل القبور إنّما يندمون على ما يخلّفون, ويفرحون بما يقدّمون، فما نَدِم عليه أهل القبورِ أهلُ الدّنيا اليومَ عليه يقتتلون، وفيه يتنافسون، وعليه عند القضاة يختصمون".
وكان شُميط بن عجلان يقول: "إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي أيام ثلاثة: أمسُ - فقد مضى أمس بما فيه - وغدًا أمل لعلك لا تدركه، إنك إن كنت من أهل غدٍ فإن غدًا يجيء برزق غد، إن دون غدٍ يومًا وليلة تُختَرمُ فيه أنفس كثيرة، لعلك المخترم فيها, كفى كلَ يومٍ همُّه, ثم قد حملت على قلبك الضعيف همّ السنين والأزمنة، وهمّ الغلاء والرخص، وهمّ الشتاء قبل أن يحلّ الشتاء، وهمّ الصيف قبل أن يجيء الصيف، فماذا أبقيت من قبلك الضعيف لآخرته؟!
وقال ابن القيّم: "على قدر رغبة العبد في الدّنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة اللّه وطلب الآخرة, وقال أحدهم: قال لي أبو زرعة: لأقولن لك قولاً ما قلته لأحد سواك! ما خرجت من المسجد منذ عشرين سنة فحدثت نفسي أن أرجع إليه".
ولقصر آمالهم كانت أعمارهم بالطاعة معمورة, حتى لو قيل لبعضهم ستموت غدًا لم يجد زيادة عمل يقوم به.
أيها المبارك: تقصيرُ الأمل يريك حقيقة الدنيا وأنها قد ترحلت مدبرة ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وأنها لم يبق منها إلا كما بقي من يومٍ صارت شمسه على رءوس الجبال, قال ابن القيم: ويكفى في قصر الأمل قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)[الشعراء: 205- 207]، وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ)[يونس: 45]، وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)[النازعات: 46]، وقوله تعالى: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[المؤمنون: 113- 114]، وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)[الأحقاف: 35].
يا مبارك قِصَر الأمل نحتاجه حين يزين لنا الشيطانُ الذنب, لنذكر قرب الانتقال, وسرعة فناء هذه الشهوة, وقرب انقضاء لذتها.
قِصَر الأمل نحتاجه إذا اشتدت علينا الأمور والأسباب وأغلقت في وجوهنا الأبواب, لنعلم أن الشدة عما قريب زائلة, فتهونَ الشدة, ويسهلَ العسر
قِصَر الأمل نحتاجه ونحن نرى الله قد يعطي الكفار نعيم الدنيا وزخرفها, لنتذكر أن لهم الدنيا وللمؤمن الآخرة.
وإذا ساء العمل فليتذكر المرء قرب الأجل وليقصر الأمل, فلعمري إن قصر الأمل هو مفتاح الاستعداد للآخرة..
اللهم أحي قلوبنا وعلّق بالآخرة آمالنا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما يعد:
قال الغزالي: "اعلم أن من له أخَوانِ غائبان وينتظر قدومَ أحدهما في غدٍ وينتظرُ قدومَ الآخرِ بعد شهرٍ أو سنةٍ, فلا يستعدُ للذي يقدُم إلى شهر أو سنة، وإنما يستعد للذي ينتظر قدومه غدًا, فالاستعداد نتيجةُ قربِ الانتظار, ولذا فمن رجا أن يعيش سنه أو سنين لربما انشغل في هذه المدة ونسي أن كل يوم يقربه من النُقلة".
معشر الكرام: إن المرء يوم أن يتيقن زوال الدنيا وقرب فنائها, ولقاء الآخرة ودوامها يعلمُ حينها أيَ الدارين أولى بأن يؤمِّل فيها, فبالله عليك ماذا تساوي الدنيا بزينتها وقصورها, ونعيمها وملذاتها ودورها أمام موطئ قدم في الجنة, "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه باليم فلينظر بم يرجع", كم هو غبنٌ والله حين نُقَدِّمُ دنيًا هي بأكملها لا تساوي عند الله جناح بعوضة على دارٍ موضعُ سوطٍ فيها خير من الدنيا بما فيها, وحينَ نؤثر دار الفناء على دار الخلود والبقاء.
فيا ترى أغرّنا في الدنيا نعيمها الزائل, أم شهواتها التي تعقبها حسرة, أم قصورها التي يرحل المرء عنها عما قريب, وكيف ننسى دارًا فيها من النعم أوفرها ومن القصور أبهاها ومن الحور الحسان أجملها ومن اللذائذ أنفسها وأبقاها .
وإذا أعياك أملُك أن يقصر, فاذكر أقوال النبي –صلى الله عليه وسلم- التي تقصر أملك, وتريك قرب ترحلك كقوله: "صلِّ صلاة مودع", وقوله: "أكثروا ذكر الموت", وقوله: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا".
وإذا أعيتك الحيل, وعجزت عن قياد قلبك وأطره, فوقفة على شفير قبر لدقائق كفيلةٌ بإذن الله أن تجعلك تعيد كثيرًا من حساباتك.
يا مبارك أين آباؤك وآبائهم, أين من عمرو الأرض شرقًا وغربًا, أين الخلائق مِن لدن آدم إلى اليوم, أين من كانوا في أرضك قبلك, ومن ملك عقارك قبلك, ومن طرقت أقدامك بلدتك قبلك, أوليس جلّهم قد ثوى في القبور, جلّهم رحل وعنده من الآمال والأماني ما لا ينهيه في سنين, جلّهم جاءه الموت وهو يأمل البقاء, جلّهم جاءه الأجل وهو يرجو أن يدرك الكبر, وسيفعل ويترك, فمضى وصار واحدة من العبر.
أذكر الموت غدوة وعشية *** وارع ساعاتك القصار الوحيِّة
هبك قد نلت كل ما تحمل الأرض *** فهل بعد ذاك إلا المنية
وبعد: فيا ابن آدم، إنك لو رأيت قريب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك, وإنما يلقاك غدًا ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك الولد القريب، ودفنك الوالدُ والنسيب, فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد, فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.
ليس حديث اليوم دعوةً لركل الدنيا من الأيدي بل هي دعوةٌ لتخليصها من القلوب, ودعوةٌ لنا جميعًا أن إذا سُبِقنا في الدنيا فلا نسبقنّ إلى الآخرة, وإذا رأينا بناء الدنيا فلا نغبنن عن بناء الجنة, وإذا رأينا الناس تركض وراء المستقبل, وتأمِينه والإعداد له, فلا ننسى أن المستقبل الحقيقي ليس هنا, بل هو الذي ستبقى فيه إلى الأبد, إما جنة وإما نار, عصمنا الله من سخط الجبار.
أرى الدّنيا لمن هي في يديه *** عذابا كلّما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر *** وتكرم كلّ من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه *** وخذ ما أنت محتاج إليه
فدع الصبا، فلقد عداك زمانه *** وازهد فعمرك مر منه الأطيب
ذهب الشبابُ فما له من عودةٍ *** وأتى المشيبُ فأين منه المهرب
دع عنك ما قد كان في زمن الصبا *** واذكر ذنوبك، وابكها يا مذنب
التعليقات