اقتباس
يا طالبَ العلمِ ويا داعيًا إلى الله إياكَ والاستخبار أيام الفتن، فإنَّ في أخبار الفتن جاذبية لا تجهل، لما فيها من غرائب، والإنسان نسيب كلّ غريب، هذا مطرف بن عبد الله يقول: "لبثتُ في فتنة ابن الزبير سبعًا أو تسعا ما أخبرتُ فيها بخبر، ولا استخبرتُ فيها عن خبر " فاعقلْ منهج السلف، لتعرفَ حال من سلفْ..
في ظلِّ هذه الأحداث المتلاطمة، والأمواج المتتابعة، إلى شبابنا طلبة العلم والدعاة إلى الله، تثبِّت الثابت، وتدركُ السابق، فلا ينساق يمنةً ولا يسرةً، ولا يرتع هنا وهاهنا، فانظر فيها لما أنصحُ لا ما أنصع، فالنصاعةُ صناعة أهل البيان، ولكن القلبَ إذا جاشَ وخالطَ البنان، لم يستوعب من اللغاتِ إلا ما يرسل العنا.
الحمد لله الذي برأ النسمةَ، وفلقَ الحبَّة، وكشفَ الصُّبح، وأنارَ الظلمة، الحمد لله الذي جعلَ من الشقاوة سعيرٌ بَلَّة، ومن السعادةِ طريقٌ هَلَّة، فأوضحَ السبيلَ وأرشد فوعدَ، وأبانَ السُّبُلَ وحذَّرَ فأوعد. الحمدُ لله الذي أنعمَ للخلقِ أنبياءَ مصطفونَ، فأورثَ منهم مَبْسَمٌ واسمٌ راسم: علماءُ الهدى مصابيح الدُّجى، وما ذاكَ إلاَّ للتصديقِ لا التكذيب، ونحوِ التهذيبِ لا التذنيب، فمن أطاعَ فقد نجى، ومن أطالَ فقد غوى.
اعلمْ أن الشيء الذي يورث لقدير منزلته وعظيم مرتبته، ألا نرى وبلا خفية ميراثًا يصدِّق المقال؟ وميزانًا يوزن بلا ميزان؟ أجل نراه... إنه العلم النافع. الباقي المثمر. الذي أثمره أهله، وأشهر قومه، ولا يورِّث الثمرَ الطيبَ إلاَّ أولوا الأثمار والأخيار، فما ظنكم بالذي ورَّثه خيرة الخلقِ وصفيهم أنبياءُ الله -جلَّ جلاله-؟
قولوا بربكم... هذا (العلم) الذي جاءَ سيفًا على الملحدين، وحجرًا في فم المتلاعبين، ونورًا في قلوب المتقين، وصفاءً في عقولِ الذاكرين، فكانَ [العلماء ورثةُ الأنبياء] لهذا الشأنِ [لم يورِّثِ الأنبياء دينارًا ولا درهمًا إنَّما ورَّثوا العلم...]
أفلاَ يجبُ علينَا (حينئذ) أن نتشبَّثَ بما ورَّثوه! وأن نتكبَّل بما أبقوه! وأن نتمعر ما أهدروه! وأن نتمعَّط ما ذيَّبوه! بلى والله! لنا ذلكَ، وعلينا ذلك، وفينَا ذلكَ، لكن قلَّتِ الهمم! وضاعتِ الأمم! غرَّبتهُ فأودعتهُ، سئمَته فباعتهُ، جمُدَ واندَرق، ذاعَ وانحرف. ولكن! أبى الله إلاَّ أن يبقي للأمة رجالاً، وأن يدعَ في الأمةِ أجلاداً، فلا يعرفونَ ضجرًا ولا تمللاً، ولا يتعرَّفون على جاهلٍ سبهللاً، عكفوا عليهِ السنونَ الطوال، فصبروا على (الحرِّ المقيظ):
يهيِّج الصفرا بلا محالة *** ويضعفُ الشهوة باستحالة
وعلى (البردِ الصبير):
لكنَّه فصلٌ شديد الوخْمِ***وضره يوجبُ تجميدَ الدمِ
وعلى (الجفاء الخريف):
يحرِّك السوداءَ لفرطِ يبسهِ *** وبردِه من عكسه لنفسه
فأنشدَ على غراره العلامة ابن فارس:
إذا كان يؤذيك حر المصيف *** وكرب الخريف وبرد الشتاء
ويلهيك حسن جمال الربيع*** فأخذك للعلم قل لي متى؟
فهؤلاءِ قومٌ نذروا أعمالهم للَّه فقامتْ بهم، وأودعوا أبدانهم لدينه فكفلت بهم، وباعوا بدنياهم دينَه فأربحتهم وأثمنتهم…ولكن! ليسَ العلمُ أمنيةٌ تمنَى، ولا بُغيةٌ تُبغى، ولا سِلعة تسعَّر، ولا ثمينةٌ تقدَّر، فالغالي ليسَ ببَالي، والعالي ليسَ بداني.
وما للمُفلسين سوى التّمنِّي *** وما للنّائمينَ سِوى الخَيالِ؟
إنما هو شامٌ مرفوعٌ، وتاجٌ مرسومٌ، ولؤلؤٌ منشور، لا يُنَال بلا الصبر ولا الصبرُ يكفيهِ، لا يقادُ بلا الهمَّة ولا الهمةُ تٌؤويه، بل هو عِلمٌ وعَملٌ، وجدٌّ وأجل، وآمالٌ وأمل، فـ "لا يستطاعُ العلم براحةِ الجسد..."
.......... *** فما انقادتِ الآمالُ إلاَّ لصابر!
فلما نالوا العلمَ ب الصبرِ والهمَّة، وجاهدوا أنفسهم بالعزيمةِ والقوَّة، تغلغلَ من الخفاء (دُسوسًا) فأودتْ وأوبتْ، وأبلَّت فأوبلت، يا ترى صاحبي ما بالك؟ وعلاَّمك؟ ما الذي أتى؟ وما الذي بَلَى؟
تعالَ لأخبركَ. فلقد طرقَ الباب المخبر...
أبى الله -تعالى-إلاَّ أن يميزَ الخبيث من الطيب، والصالح من الطالح، فابتلى عباده المؤمنين بفتنٍ ومحن، لكيْ يُرى الصَّابر، ويُعلمَ العابر، ولم تنكف أن تقضي إلى قيام السَّاعة! فمن الفتنِ التي أودَت وأبلت أهل العلم وطلابه هذا الزمان: تغير الأزمان وتبدل الأحوال.
فلا تعرفُ طالبَ علمٍ أو داعيًا إلى الله لا يمتلكُ أجهزة التلفزة نعم (ليتعرَّف على أحوال الأمة!)، ولا تعرف طالبَ علم أو داعيًا إلى الله لا يقتني الشبكة العنكبوتية نعم (ليتبصَّر على حقيقة الأمة!)، ولا تعرفُ طالبَ علمٍ أو داعيًا إلى الله لا يتجالس ويتدارس مع قرنائه نعم (ليحلِّل قضايا الأمة!) إلاَّ من رحمَ الله...
فإذا ما صدَّر أحدُ الجلساء خبرًا قال أجل، وإذا حلَّل أحد الخبراء حدَثًا قال قد عجَل، إني أرى أن القضية غير ما ذُكر، والحقُ الواقع ما سأذكر!، فتراُه قد غيَّب الأوقات، وسلَّم العزمات، وترك العكوف في الطلب، وترك الانكباب إلى الجلبْ.
ثمَّ إذا تكلَّمَ شذرَ ومَذر وشغرَ وبغَر، كلَّ هذا لماذا؟ (ليعرف ماذا حلَّ بالأمة؟ وليحلل قضايا الأمة!) فما أشد حاجته! وأشد حاجتهم! إن من شر البلية ما يضحك.
وإذا تعرَّف على أحوال الأمة... ساءَ واستاء. ناءَ وأناءَ. شجيَ وأشجى. شقيَ وأشقى. حسر وتحسَّر. فكَّر وافتكر. وتركَ وأترك.
ولمَ كل هذا؟ نعم؛ إنها أحوال الأمة. وعلام تفعل هذا؟ أجل؛ ليكون لي إحساسًا مع الأمة. وإلامَ تبقى هكذا؟ أنتظر؛ حتى يجلوَ كربَ الأمة.
فصرتُ: أمل هذه المجالس، وآسف على أهلِ هذه المجالس، وأتفكر: هل ما يحِلُّ سيجدي؟ وهل ما يُقالُ سيثري؟ أحلف وربي بلا وألف لا.
وفي الحينِ نفسِهِ...كم أفرحُ حينَ يتكلم العالمُ المثقَّف في خبر! وسيصدعُ بالحقِّ؛ لينادي القومَ بالعدلِ وحسن المخبر. كم أرتاحُ حين يتكلم المؤثِّر الواقعي في خبر! ليردعَ بقوله الباطلَ ويصوِّب ويصحِّح فيجلو المخبر. أجل، لأنَّه تكلم فأروى، ووجدَ فأجدى، فلم يتكلمِ بهذر ولا كلامه مذر...
وفي الحينِ نفسِهِ....
لا أُنكرَ ضرورةَ التأثير! ولكن أحزن فرطها، والفرطُ المؤقَّت ما سلمَ منه أحدٌ هذه الأيام، فكاتبُ السطور استغرب بين أن يجمعَ بين مفهوم العام والخاص ومفهوم تونس ومصر. وعجزَ عن أن يجمع بين مفهوم المطلق والمقيد ومفهوم ليبيا وسوريا. ولكن ماذا يعني ذلك؟
ذاتَ مرةً حاورتُ عقلي محاورةً لطيفة. قلتُ: يا عقلي كيف حالك؟ قال بخير، لأني حالك. قلت: كيف رأيتني؟ قال بخير، لأنك مني. قلتُ: ألا ترى الحال قد تبدَّل؟ قال أجل، فما عليكَ إلاَّ العلمَ والعمل. قلت: وترى الناس بحاجة إلى علمٍ وعمل؟ قال أجل، فالعملُ بعدَ العلمِ هو المجدي بعدَ الأجل. قلت: صدقتَ، ولكن الناسَ غرَّبوا العلمَ والعمل! قال تصيرُ مثلهم إذًا يا غَفَل! قلت: لا أصير مثلهم؛ ولكن الواقع قلَّل الهمم وصغَّر العمل! قال فقلِّل الواقعَ؛ لترفع الهمم وكبر اللاذعَ ليكبر العمل. قلت: صدقتَ، ولكن من المعتبر يا زمنْ!
فيا طالب العلمِ ويا داعيًا إلى الله أنتما في نعمةٍ لو علمَ بها الرؤساءُ والملوكُ لجالدوكم عليهًا سراعًا بالسيوف! فما بال المصائبِ توقفك! وما بالُ المتاعبْ توكلكْ! يا طالب العلمِ ويا داعيًا إلى الله أنتما في سعادةٍ لو وزنتْ بالميزان لما طاحَ ولما طاشَ! أتدري لماذا؟ لأنه سلعةٌ ثمينةٌ نادرةٌ لا يحقُّ لها أن توزَنَ أو توزَّن! فاعقلْ وتدبَّر! يا طالب العلمِ ويا داعيًا إلى الله أبعِدا الداء، وأكثرِا الدواء، والجئا إلى الدعاء فهو خير من الإدلاء! يا طالبَ العلمِ ويا داعيًا إلى الله كفانا لعِبًا ولهوًا ومتعةً وزهواً وراحةً وفلوَّا! فلقد دقَّت ساعة العمل، وحانَ وقتُ الأجل. يا طالبَ العلمِ ويا داعيًا إلى الله أما آنَ لنا أن نجِدَّ فنُجيد، وأن نعِدَّ فنُعيد، وأن نطبَّ فنُطيب ونَطيب! فالأمة في شقاء أتزيدها شقاء؟
يا طالبَ العلمِ ويا داعيًا إلى الله إلاَّمَ نتعذَّر قلةَ المالِ وكثرةَ العيال وضيقَ الحال والأحوال! فكثرةُ الشكايةِ تورثُ العياية، وياء لها من بلاية.
يا طالبَ العلمِ ويا داعيًا إلى الله ما لنا والسياسة المفرطة! ما لنا والمسالك المتعِبة المشجيَة! لمَ لا نرجِعُ العقلَ فنخطوَ للأمام، لمَ لا نحِطُّ القدمَ فنسرع إلى قدَّام.
يا طالبَ العلمِ ويا داعيًا إلى الله إياكَ والاستخبار أيام الفتن، فإنَّ في أخبار الفتن جاذبية لا تُجهل، لما فيها من غرائب، والإنسان نسيب كلّ غريب، هذا مطرف بن عبد الله يقول: "لبثتُ في فتنة ابن الزبير سبعًا أو تسعا ما أخبرتُ فيها بخبر، ولا استخبرتُ فيها عن خبر " فاعقلْ منهج السلف، لتعرفَ حال من سلفْ.
هذه كلماتٌ أهدف منها وربي شاهدٌ-إلى أمورٍ عظام -وإن كانَ الكلام لم يُبنَ من جلودٍ ولا عِظام-فمنها:
ألاَّ نتكثَّر جميعًا في معرفةِ الأحوال، بل نتقلَّل منه بما يقتضيه الحال. ألاَّ نملأ الأوقات فيما قيلَ وقال ويصير وصار، ف الوقتُ أنفسُ من هذا الذي يقال. أن نهتفَ ب العلمِ وأهلهِ بعدَ غربته، فنجدَّ من جديد، فلا نرى إلاَّ الجديد. أن نرجعَ إلى ما كنا عليه، ولا نتراجع لما سنؤول إليه. وأعتذرُ إن لم يوفِ الكلام حقَّ ما أقول، فدرايتي بما أقول لا تساوي ما هو معقول، ولكن القلبَ قد أسى فأحببت أن أواسيه وأسلِّيه، والعذرُ على الإطالة في الكَلَام، وعلى المطاولة في وصفِ الكُلام، وربنا المستعان، وعليه التكلان.
وأختمُ كلامي هاهنا / برجاءٍ من إخوتي الأفاضل، قرَّاء هذا الكلام، أن يدلو بدلوهم في ذكر نصائحَ لطلبةِ العلم والدعاء إلى الله تبعثُ التشجيعَ لا التثبيط، وكذلك بذكرِ أحوال السلف في مثل هذه الفتن، حتى يستفيدَ الجميع نظريًا وعمليًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
التعليقات