اقتباس
إن من أشدِّ الناس حِرْمانًا من يطوي المراحل إلى البيت، ويفني الظهر، ويهلك النفس، ثم لا يعود إلا بالبوار، يا حسرة من وقف في الحج مع الناس ببدنه، وقلبُه في أودية الهوى يهمُّ، لم تلتقط عدسات عينيه دعاء الداعين ولا كثرة الملبِّين، بل وقعت على ما يهواه قلبه، فازداد بذلك فتنة، وتقطَّعت نفسه حسرات، وحُرم لذّة العبادة، ونسي الطاعة.
جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أريد السفر فزوّدني؛ فقال: «زوّدك الله التقوى»[1]، وجاء آخر فقال: يا رسول الله! إني أريد السفر فأوصني، قال: «عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف»[2].
إنها وصية جامعة، قليلة في مبناها عظيمة في معناها. وإذا كان كل مسافر يحتاج الوصية بالتقوى، ويُؤمر بسؤال الله لزومَها فيه كما في دعاء السفر المشهور: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى»[3]؛ فإن الحاجَّ والمعتمر قد خص بالوصية بالتقوى، وأن يجعلها زادًا يتزود منه في طريقه، يهلك عند إهماله، كما قال تعالى في آيات الحج: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة من الآية:197].
وزاد التقوى لا يقدر قدره إلا أصحاب العقول التامة، والبصائر المنيرة، ولذا عناهم بالتأكيد فقال: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة من الآية:197]، أما سواهم فليس في قاموس أزوادهم ذكر التقوى، بل هو الطعام الشهي، والمركب الفاره، والفراش الوثير..
سارت مشرقة وسرت مغرّبًا *** شتان بين مشرّق ومغرّب!
قال ابن رجب -رحمه الله-: "فما تزوّد حاجٌّ ولا غيره بأفضل من زاد التقوى، ولا دُعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى"[4].
وقد كان السلف يوصي بعضهم بذلك، قال بعضهم لمن ودّعه: اتقِ الله؛ فمَنْ اتقى الله فلا وحشة عليه. وقال آخر لمن ودّعه للحج: أوصيك بما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا حين ودّعه: «اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالقِ الناس بخُلُق حسن»[5].
وحيث إن الأمر بالتقوى أمر عظيم يشمل فعل الأوامر واجتناب النواهي مما لا يأتي عليه الحصر فإني أجد نفسي مضطرًا لبيان طريق التقوى في الحج في عددٍ من النقاط، حتى يقع الحج على التقوى، ويكون ناتجه التقوى بإذن الله.
أولًا: وأتموا الحج والعمرة (لله):
الإخلاص وتجريد العبادة من الشريك مطلوبة في كل عمل، وإنما خص الحج والعمرة بالذِّكر "من أجل أنهم -المشركين- كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصها بالذِّكر لله تعالى حثًّا على الإخلاص فيهما ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور"[6].
وعندي وجه آخر: وهو أن الحج والعمرة فيهما من المشقة الظاهرة ومفارقة الأوطان ما يظهر أمره للناس، ويعظم عندهم فيه الثناء لعِظَم الجهد والتضحية -خاصة عند قلّة الظَّهر وبُعْد الشقة- وهذا قد يغري النفس بممدحة الناس وحسن ثنائهم، فتقع في شَرَك الرياء، وحبائل التسميع، فوجب التأكيد على الإخلاص.
وقد رُوي عن بشر بن الحارث أنه قال: "الصدقة أفضل من الحج والعمرة والجهاد.. ثم قال: ذاك يركب ويرجع ويراه الناس، وهذا يعطي سرًا، لا يراه إلا الله عز وجل"[7]. و(بِشْرٌ) في قوله هذا: نظر إلى جهة قرب العمل للإخلاص والتجرد، وأن ما خفيَ كان أقرب، وإلا فالحج والعمرة والجهاد أعمال عظيمة لا يقارن بها غيرها إذا لازمها الإخلاص وبُنيت على التقوى.
إن الله تعالى أمر أن يُعبد وحده دون سواه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة من الآية:5]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»[8].
أرأيت كيف يذهب الجهد، وكيف تضيع التضحيات، حين يكون القصد لغير الله أو يكون لله فيه شريك؟ حجَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على رحل رثٍّ وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي أربعة دراهم ثم قال: «اللهم حَجّةٌ لا رياء فيها ولا سمعة»[9]. قال رجل لابن عمر -رضي الله عنهما-: ما أكثر الحاج! فقال ابن عمر: ما أقلّهم! وقال شريح -رحمه الله-: الحاج قليل والركبان كثير[10].
خليليَّ! قطاع الفيافي إلى الحمى *** كثيرٌ، وأما الواصلون قليلُ
وجوه عليها للقبول علامةٌ *** وليس على كل الوجوهِ قبولُ
ومِنْ خفي الرياء ومدخول العمل أن تنشط النفس عند رؤية الناس، وتقعد وتموت في الخلوة، بل ربما ساء منها الفعل وقبح. ذكر ابن رجب أن بعض المتقدمين كان يحج ماشيًا على قدميه كل عام، فكان ليلةً نائمًا على فراشه، فطلبت منه أمه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه ليسقي أمه، فتذكر حجه ماشيًا كل عام وأنه لا يشق عليه ذلك فحاسب نفسه، فرآى أنه لا يُهوّنه عليه إلا رؤية الناس له ومدحهم إياه فعلم أنه كان مدخولًا[11].
ورُوي عن بعض السلف أن رجلًا جاءه فقال: أريد أن أحج، فقال: كم معك؟ قال: ألفا درهم، قال: أما حججت؟ قال: بلى، قال: فأنا أدلّك على أفضل من الحج، اقضِ دين مَدِين وفرّج عن مكروب، فسكت، فقال: ما لك؟ قال: ما تميل نفسي إلا إلى الحج، قال: إنما تريد أن تركب وتجيء ويُقال: قد حجّ ![12].
ونحن لا ننكر نشاط النفس مع الرفقة الصالحة، وانبعاثها للعمل بينهم، لكن محلّ الذم أن تنقطع النفس أو تنقلب إذا خلت، مما يوقع الريب في صدق العامل ورغبته.
فيا مَنْ توجَّه نحو البيت، وشدَّ إليه رحاله، اجعل وجهك رب البيت، لا يكن قصدك من الحج رياء ولا سمعة، فإن "من الناس من يحج ليُقال له: الحاج فلان، أو ليُحْتَفل بقدومه، وهذا من أخسِّ ضروب الرياء"[13]، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ رَائَى رَائَى اللهُ بِهِ»[14].
أيها الحاج! أتدري من تقصد وإلى من تعمد؟!
"أتظن الحج مفارقة الأوطان، وترك مفارقة النسوان، وجَوْب السباسب على النجائب وقطع المراحل على الرواحل؟! كلا والله، بل هو خلوص النية للبَرِّ سبحانه قبل استقبال البرية، وإصلاح الطوية قبل امتطاء المطية، وخلع الشريك مع خلع الثياب للإحرام، وتجريد القلب لله قبل تجريد البدن من المخيط".
ثانيًا: خذوا عني مناسككم:
أذّن المؤذن في السنة العاشرة من الهجرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحج السنة، فقدم المدينة بشرٌ كثير، كلهم يريد أن يأتمَّ به -صلى الله عليه وسلم-، كيف لا؛ ومحمد -صلى الله عليه وسلم- سيكون المرشد العام في الحج.. أرأيت لو كنت حاضرًا تلك السنة أتُراك تتخلّف عن الحج معه؟! أم تُراك تطلب رفقة أحدٍ سواه؟!
أما وقد خُلِّفْتَ بعده وليس لك إلى صحبته سبيل، فعليك بسنّته وهديه -صلى الله عليه وسلم- إن كنت صادقًا في دعوى الصحبة، فقد أرشدك فقال: «خذوا عني مناسككم».
وها هي سنَّة نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد دوّنت فالزمْها، محفوظة فاعمل بها، فإن العمل كلما كان أقرب إلى السُّنَّة كان أرجى للقبول، وأدلّ على التقوى. صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ»[15]، فاحذر أن تترك السُّنَّة والشرع بحجة جريان العادة بخلافها، فإن مقابلة الشرع بالعادة من حال الذين لا يؤمنون (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) [الزخرف:23].
فعلى الراغب في اقتفاء سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يستعدَّ لتعلُّمها قبل الحج، بحضور دورات أو دروس في فقه الحج وسننه وآدابه، ويقرأ ما كتبه العلماء -بعبارة واضحة- في ذلك، ويستمع لما سجّلوه من تسجيلات، وأن يصحب عارفًا بالأحكام حريصًا على حفظ الليالي والأيام.
ثالثًا: لازم العمل الصالح:
حافظ على العمل الصالح وعليك بالازدياد منه، فذلك من دلالات التقوى، ومعالم البرّ، قال ابن رجب: "من حجَّ من غير إقامة للصلاة كان بمنزلة من سعى في ربح درهم وضيّع رأسماله وهو ألوف كثيرة"[16].
لقد دأب السلف في الحج أن يحافظوا على نوافل الصلاة فضلًا عن إقامة الفريضة على أحسن حال.
كان محمد بن واسع رحمه الله يصلي الليل في طريق مكة في مَحْمله يُوْمئ إيماءً، ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه، حتى يُشْغَل عنه بسماع صوت الحادي فلا يُتفطن إليه[17].
وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني يحجُّ من اليمن ماشيًا، وكان له ورْد بالليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن، فيقف فيصلي حتى يفرغ من ورْده، ثم يلحق بالركب متى لحق وربما لم يلحقهم إلا آخر النهار[18].
سلام على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، ما مثلنا ومثلهم إلا كقول القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم *** ونزلت بالبَيْداء أبعد منزل
وعليك بالصدقة والدعاء والذِّكر والحمد والثناء، لازمْ قرع الباب فقد دنا فتحه؛ علَّ دعوة منك تستجاب فتسعد في دنياك وأُخراك. فمن الناس من يأخذه التجوال عن التسبيح والسؤال، وينشغل بالمحادثة عن النافلة، فإياك وتضييع الأوقات في غير طائل، وذهاب الأيام الفاضلة وأنت غافل، واجتهد تلقَ رحيق العنبري.
رابعًا: الخدمة والإحسان:
عليك بالإحسان إلى الناس وخدمتهم، وحسن الخُلق معهم، والصبر على أذاهم، وأحقُّهم بذلك من جمعتك بهم رفقة السفر، فالإحسان إليهم وخدمتهم أفضل من العبادة القاصرة على النفس. كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر في حرٍّ شديد ومعه صائم ومفطر، فسقط الصُّوَّام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ»[19].
وفي مراسيل أبي داود عن أبي قلابة رضي الله عنه قال: قدم ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفر يثنون على صاحب لهم قالوا: ما رأينا مثل فلان قط ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا نزلنا منزلًا إلا كان في صلاة، قال: «فمن كان يكفيه صنعته؟».. حتى ذكر «من كان يعلف دابته؟!» قالوا: نحن. قال: «فكلكم خير منه»[20].
وعن مجاهد قال: صحبت ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنا أريد أن أخدمه وكان يخدمني أكثر[21]. وكان كثيرٌ من السلف يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم؛ اغتنامًا لأجر ذلك، منهم: عامر بن عبد قيس، وعمر بن عتبة بن فرقد، وكان إبراهيم بن أدهم يشترط الخدمة والأذان.
وعليك أن تحسن إلى الحجيج عامة، وأن تبشَّ في وجوههم، وتعينهم في قضاء حوائجهم، ولا تحقرنَّ من ذلك شيئًا، فقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جري الهجيمي فقال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ دَلوك في إناء المسُتسقي، ولو أن تعطي صِلة الحبل، ولو أن تعطي شِسعَ النعل، ولو أن تنحّي الشيء عن طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض»[22]، الوحشان: المغتم. وفي الحج تكثر حاجة الناس إلى بعض، فجُدْ بنفسك ولا تبخل.
عليك أن تصبر على ما في الناس من هفوات، وأن تلجم نفسك بلجام الصبر والحِلْم، وإن سابَّك أحد أو شاتمك أو زاحمك فقل: "إني حاج"، واصبر على ما يصيبك من زحام أو ما ينالك من شغف ومشقة، وإياك أن تحتقر ضعيفًا لضعفه أو فقيرًا لفقره، واعلم أن الحج ليس محلًا للتباهي بالمظاهر الدنيوية من مراكب ومفارش ومساكن أو ترف مقيت، بل قد استحبَّ بعض أهل العلم أن يكون الحاج أشعث أغبر؛ لما جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة فيقول: انظروا إلى عبادي أَتوني شُعْثًا غبرًا»[23].
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الحاجّ الشعث التفل»[24].
وهذا لا يعني أن يسعى المسلم إلى اتّساخ بدنه أو قبح منظره، بل المقصود أن يجهد المسلم في عبادته لربه ويحتمل في سبيل ذلك ما قد يصيبه من مشاقّ وشعث -إذ الحج مظنّة ذلك- وليعلم أن آثار العبادة ونتائجها محلّ ثناء الله وشكره، وأنها تقع من الله بمكان. قال -صلى الله عليه وسلم- في الصائم: «ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»[25]، وقال في الدم الخارج من الشهيد الذي ذهبت نفسه في سبيل الله: «اللون لون الدم والريح ريح المسك»[26].
خامسًا: اختر صاحبًا صالحًا:
إذا اخترت الحج واشتاقت نفسك إليه فاختر صاحبًا مصاحبًا، راغبًا مشتاقًا، له قلب خاشع، ومحجر دامع، حتى تنال من الحج بغيتك، وتجد في مشاعره منيتك، عندها يتضاعف فيك الجِدّ، وتعظم الرغبة، وترتفع الهمة، ويحسن العمل..
عن مُخَوَّل بن راشد قال: جاءني بُهيم العجلي فقال لي: تعلم رجلًا من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم، فذهبت به إلى رجل من الحي له صلاح ودين، فجمعت بينهما، وتواطآ على المرافقة، ثم انطلق (بُهيم) إلى أهله، فلما كان بعد أتاني الرجل وقال: يا هذا ! أحب أن تزوي عني صاحبك ويطلب رفيقًا غيري. فقلت: ولِمَ؟! والله لا أعلم بالكوفة له نظيرًا في الخُلق والاحتمال. قال: ويحك حُدِّثتُ أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا العيش، فقلت: ويحك إنما يكون البكاء أحيانًا عند التذكرة، أوَ ما تبكي أنت؟ قال: بلى؛ ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم من كثرة بكائه، قلت: اصحبه لعلك تنتفع به، فقال: أستخير الله، فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه جيءَ بالإبل ووطئ لهما، فجلس (بُهيم) في ظل حائط يبكي فوضع يده تحت لحيته، ثم على صدره حتى والله رأيت دموعه على الأرض، فقال لي صاحبي: يا مخول! قد ابتدأ صاحبك، ليس لي برفيق. فقلت: ارفق، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم.
وسمعها (بُهيم) فقال: يا أخي! والله ما هو بذاك، وما هو إلا لأني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب، فقال لي صاحبي: ما هي بأول عداوتك لي، ما لي ولبُهيم؟! إنما كان ينبغي أن ترافق بين (بُهيم) وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص حتى يبكي بعضهم إلى بعض، فيشتفون أو يموتون، فلم أزل أرفق به وقلت: ويحك لعلها خير سفرة سافرتها، وكل ذلك لا يعلم به (بُهيم)، ولو علم ما صاحبه، فخرجا ورجعا، فلما وصلا جئت أسلِّم على جاري، قال لي: جزاك الله يا أخي عني خيرًا، ما ظننت أن في الخُلق مثل أبي بكر، كان والله يتفضل عليّ في النفقة وهو معدوم وأنا موسر، وفي الخدمة وأنا شاب وهو شيخ، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم. فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طول بكائه؟ قال: ألفت والله ذاك البكاء وَسرَّ قلبي حتى كنت أساعده عليه حتى تأذَّى بنا الرّفقة، ثم ألفوا ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أَوْلى بالبكاء منا والمصير واحد؟! فيبكون ونبكي. ثم خرجت من عنده فأتيت (بُهيمًا) فقلت: كيف رأيت صاحبك؟ قال: كخير صاحب، كثير الذِّكر لله، طويل التلاوة، سريع الدمعة، جزاك الله عنّي خيرًا[27].
وإياك وصحبة مترف قاعد، ذي عزم راكد، وهمٍّ فاسد، يقطعك إذا تقدمت، ويردّك إن أقبلت، طوَّاف بالأسواق، لا ينتهي حديثه، ولا يسلم منه جليسه. قال أبو منصور الكرماني: "... وينبغي أن يجتنب الرفيقَ السوء والفاسق، فإن ذلك سبب لحِرْمان الطاعات، وترك المندوبات والواجبات، ويحرّضه أيضًا على ارتكاب المناهي والمعاصي" [28].
وصدق رحمه الله فكم سمعنا من أصحاب سوءٍ من أفسدوا الحج والعمرة على صاحبهم، بل ربما أجبروه على قطع نُسْكه، وحلّ إحرامه، والرجوع إلى بلده، لمجرد أنه تأخر عن أداء النسك لعذر نوم أو نحوه، فلم يحتملوا الانتظار حتى يتم نسكه، وهذا تكرر كثيرًا!
سادسًا: فلا رفث ولا فسوق:
قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ? فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة من الآية:197]. وفي الحديث الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»[29].
عليك اجتناب المنكرات أو الآثام واحذر أن تكون ممن زين له الشيطان عصيان ربه في أعظم البقاع، واعلم أن من أهل العلم من قال: من همَّ بسيئة داخل الحرم عُوقب عليها وإن لم يفعلها[30]؛ لقوله تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج من الآية:25]، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- موقوفًا عليه: "لو أنَّ رجلًا أراد بإلحادٍ فيه بظلم وهو بعَدَن أبين[31]، لأذاقه الله من العذاب الأليم"[32]. فيكون ذلك تخصيصًا لما جاء في الحديث من العفو عن الهمِّ المجرد وحديث النفس. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم..»[33] الحديث.
والإلحاد هنا هو الميل والحيد عن دين الله، يدخل فيه الشرك والبدع، أو فعل شيء مما حرم الله، أو ترك شيء ممن أوجبه الله، أو انتهاك حرمات الحرم، حتى قال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة[34]، فما بالُك بمن يعمل ما هو أعظم منه؛ كأكل الربا والتعامل به، أو شرب الخمر، أو الزنا، أو ترويج المخدرات، أو بيع آلات اللهو والدخان وغير ذلك؟! أليس هذا من الإلحاد في الحرم؟ أليس من انتهاك حرمة المكان والزمان؟
قال أبو جعفر الطبري بعد أن ذكر الأقوال في الآية: "وأَوْلى الأقوال بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم-، من أن المعنيَّ بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله، وذلك أن الله عمَّ بقوله: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) [الحج من الآية:25]، ولم يخصص به ظلمًا دون ظلم في خبرٍ ولا عقلٍ، فهو على عمومه، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم، فيعصي الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع مؤلم له"[35].
إن من أشدِّ الناس حِرْمانًا من يطوي المراحل إلى البيت، ويفني الظهر، ويهلك النفس، ثم لا يعود إلا بالبوار، يا حسرة من وقف في الحج مع الناس ببدنه، وقلبُه في أودية الهوى يهمُّ، لم تلتقط عدسات عينيه دعاء الداعين ولا كثرة الملبِّين، بل وقعت على ما يهواه قلبه، فازداد بذلك فتنة، وتقطَّعت نفسه حسرات، وحُرم لذّة العبادة، ونسي الطاعة.
أطبْ نفقتك في الحج فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام فأنّى يُستجاب لذلك؟ ![36]، وحكى ابن رجب: أن رجلًا مات في طريقه لمكة فحفروا له فدفنوه، ونسو الفأس في لَحْده فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفأس فإذا رأسه وعنقه قد جمعا في حلقة الفأس، فردوا عليه التراب، وسألوا أهله عنه، فقالوا: صحب رجلًا فأخذ ماله فكان منه يحج ويغزو![37].
إذا حججتَ بمالٍ أصله سُحْتٌ *** فما حججتَ ولكن حجّتِ العيرُ
لا يقبل الله إلا كلَّ طيبة *** ما كلُّ مَنْ حجَّ بيت الله مبرورُ
إن أقبح الناس جريمة، وأعظمهم سرقة للمال، من يسرق ضيف الله والوافد إلى بيته، الآمن في حرمه! ففي الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى النار في صلاة الكسوف... قال: «ورأيت صاحب المحجن يجرّ قصبه في النار، كان يسرق الحاجّ بمحجنه، فإن فطن له، قال: إنما تعلَّق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به»[38].
إن من دلائل التقوى الأخذ على يد العاصي، والاجتهاد في إزالة المنكرات، وتطهير بلد الله عزَّ وجل منها؛ تحقيقًا لقوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) [البقرة من الآية:125]، وقيامًا بتعظيم شعائر الله: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ) [الحج:32]. قال شجاع بن الوليد: كنت أحج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا[39]. إن التقصير في ذلك يجعل الشر يزداد في خير البقاع كيف والوارد كثير ثم قد ينتهي الأمر بالناس إلى اعتياد المحرمات، ونسيان السنن والواجبات، فتحلّ البدعة مكان السُّنّة، والمعصية بدل الطاعة، والله المستعان.
إن أقبح شيء أن يقطع المسلم إلى بيت الله الفيافي والقفار، يريد بذلك مغفرة الغفّار، ثم لا يعود منها إلا بالخَسَار! قد اسودّت صحيفته، مما جنتْه يداه، وكسبه لَحْظه، أو نطق به فِيْه، وأين؟! في البلد الحرام!
ألم ترني وموسى قد حججنا *** وكان الحج من خير التجارة
فآبَ الناس قد برّوا وحجّوا *** وابْنا موقرين من الخسارة
نعوذ بالله من ضياع الأعمال، وذهاب الأعمار، ونسأله حسن القصد، وهداية السبيل، وتمام النهاية، والله أعلم، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
______
[1]- الترمذي [3444] من حديث أنس، قال الألباني: حديث حسن صحيح.
[2]- الترمذي [3445] من حديث أبي هريرة، قال الألباني: حديث حسن.
[3]- مسلم [1342].
[4]- لطائف المعارف، ص [417].
[5]- الترمذي [1988].
[6]- محاسن التأويل للقاسمي [3/143]، دار الفكر.
[7]- حلية الأولياء [8/399].
[8]- مسلم [2985].
[9]- ابن ماجه [2890]، وقال الألباني: حديث صحيح.
[10]- لطائف المعارف، ص [419].
[11]- لطائف المعارف، ص [420].
[12]- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي [1/99].
[13]- تفسير المنار [2/186]، إحياء التراث، وقد نقله صاحب المنار عن شيخه محمد عبده.
[14]- مسلم [2986].
[15]- البخاري [2697]، مسلم [1718].
[16]- لطائف المعارف، ص [415].
[17]- لطائف المعارف، ص [415].
[18]- لطائف المعارف، ص [415].
[19]- البخاري [2890].
[20]- المراسيل، ص [234]، وانظر: تحفة الأشراف، رقم [18904].
[21]- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي [1/117].
[22]- أحمد [3/483]، وأبو داود [4084].
[23]- أحمد [2/224].
[24]- صحيح الجامع الصغير [3167]، والمشكاة [2523]، والشعث: مغبر الرأس، والتّفل: من ظهر منه رائحة كريهة لترك استعمال الطيب.
[25]- البخاري [1894].
[26]- البخاري [2803].
[27]- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، ابن الجوزي [1/114]، ولطائف المعارف، ص [413].
[28]- المسالك في الناسك [1/215]، تحقيق: الشريم.
[29]- أحمد [2/229 -410].
[30]- أضواء البيان [5/62].
[31]- عَدَن: بالتحريك: اسم مدينة في اليمن، على ساحل المحيط الهندي، ويقال لها: عدن أبين؛ تمييزًا لها عن عدن لاعة، معجم البلدان [4/89].
[32]- قال الشنقيطي: وهو ثابت عن ابن مسعود، ووقْفُه عليه أصحُّ من رَفْعه، الأضواء [5/62].
[33]- البخاري [6882].
[34]- تفسير الطبري [16/509]، تحقيق: التركي.
[35]- تفسير الطبري [16/510].
[36]- مسلم [1015].
[37]- لطائف المعارف، ص [133 419].
[38]- مسلم [904].
[39]- سير أعلام النبلاء [2/1846]، بيت الأفكار الدولية، وحلية الأولياء [7/13].
التعليقات