عناصر الخطبة
1/ أساس ضلال العرب وانحرافهم في الجاهلية 2/ أهمية شأن سياسة الناس واجتماعهم 3/ وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور 4/ مفسدة مخالفة ولي الأمر والخروج عليه 5/ عقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع ولاة الأمور.اهداف الخطبة
اقتباس
ولأجل ما يترتب على تنصيب الأئمة من مصالح الدين والدنيا؛ أجمع العلماءُ على وجوب ذلك، ومِن مواطن السيرة المدهشة في هذا المعنى: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يدفنوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حتى بايعوا أبا بكر على الخلافة.. إن المصالح التي تترتب على تنصيب الأئمة والولاة عظيمةٌ وجليلة، يُدركها العاقلُ بوضوح - خاصة بعدما رأى أثر غياب السلطان الجائر في عددٍ من الدول حوْله -، ومع هذا فإن التذكير بشيءٍ منها صار من المهمات، خاصة وقد نشأت أجيالٌ لا يُدركون التأصيل الشرعي لهذا المعنى، ويَظنونه مبدأً سياسياً محضاً.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أقام لنا الملة والدين، وجعلنا خير أمة أخرجت للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ من يرجو النجاةَ بها يوم الجزاء والدين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، بدَّد اللهُ به دياجير الظلم، وأخرجنا به من ضلالات الجهل والتفرق، إلى نعمة العلم والاعتصام بالحبل المتين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغُر الميامين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي - أيها المسلمون - بتقوى الله تعالى؛ فهي كسفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق.
أيها المؤمنون: لقد بعث اللهُ نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- والعربُ في جاهليةٍ جهلاء، وضلالةٍ عمياء، اتفقوا على التفرّق، وتفرّقوا على أتفه الأسباب؛ فصاروا شِيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون، وأضحوا تبعاً لمن حولهم من الأمم القوية - فارس والروم - ولن يجد المؤمن أصدق ولا أبلغ في وصف تلك الحال التي كانوا عليها من قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103]، وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الأنفال: 26]، وحين خاطبَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بُعيد غزوة حنين - في قصة مشهورة -: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم اللهُ بي، وكنتم متفرقين فألّفكم اللهُ بي، وعالَةً فأغناكم الله بي»(البخاري ح(4330)، مسلم ح(1061).
والمتأمل في تاريخ العرب في الجاهلية يجد أن أساسَ ضلالهم وانحرافهم قائمٌ على ثلاث مسائل:
الأولى: الشرك بالله بشتى صوره.
الثانية: التفرق والتناحر.
والثالثة: اعتبارهم أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة؛ فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلّظ في ذلك، وأبدا فيه وأعاد.
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب معلقاً على هذه المسائل الثلاث: "وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: ألا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولاه أمرَكم»، ولم يقع خللٌ في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها" (مسائل الجاهلية (ص:7).
ولعظيم شأن سياسة الناس واجتماعهم، وأن هذا الدين ولا عمارة الدنيا لا تقوم مع الفوضى، واختلال الأمن، جاءت النصوص الدالة على وجوب تنصيب الأئمة والأمراء الذين من أعظم مهامهم إقامة الشريعة، وحفظ الأمن.
وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «كانت بنو إسرائيل تَسوسهم الأنبياءُ، كلما هلك نبيٌّ خلَفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فُوا ببَيعة الأول فالأول، أعطُوهم حقَّهم؛ فإن الله سائلُهم عما استرعاهم»(البخاري ح(3455)، مسلم ح(1842).
ولما كان مبدأ السمع والطاعة شاقاً على النفوس مع وجود المعصية أو الظلم من الأئمة، جاءت الأحاديث النبوية بتربية النفوس وتطويعها على هذا المبدأ الذي يشقّ على النفس - وهو السمع للإمام وإن جار وظلم - لأن مفسدة مخالفتِه والخروجَ عليه أعظمُ عند الله من مراعاة حظّ النفس الخاصة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مخاطباً أمّته: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشي، كأن رأسَه زبيبة» (البخاري ح(7142)، وما أَشَق على العربيّ الجاهليّ أن يسمع لعبدٍ حبشي هذه صفته! لكنه الدين يا عباد الله، والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً.
ولما سبق في علم الله من وجود فتنٍ وتفرّق؛ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤكد على هذه المعاني بين فَينة وأخرى، وكرّر وأعاد؛ لما في الإخلال بها من شرٍ عظيم، وفسادٍ عريض، وكثُرت النصوص التي تحرّم الخروج عليهم، وتؤكّد على السمع في المنشط والمكره، ففي الصحيحين: عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أَثرَة علينا، وعلى أن لا نُنازع الأمرَ أهلَه، وعلى أن نقول - أو نقوم بالحق - أينما كنا، لا نخاف في الله لومةَ لائم" (البخاري ح(7199)، مسلم ح(1709).
وفي الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يُؤمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة" (مسلم ح(1839).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثَرَة عليك"( مسلم ح(1836).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها تكون بعدي أَثَرة وأمور تنكرونها" قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: "تُؤدّون الحقَّ الذي عليكم، وتَسألون اللهَ الذي لكم" (البخاري ح (3603)، مسلم ح (1843).
وفي الصحيحين عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحدٌ من الناس يخرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتةً جاهليةً"(البخاري ح(7054)، مسلم ح(1849).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات؛ مات ميتةً جاهليةً، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصية فقُتل فقتلةٌ جاهليةٌ"، وفي لفظ: "ليس من أمتي من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يَفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه"(مسلم ح(1848).
علّق ابنُ تيمية على هذه النصوص - بعدما أوردها وأورد غيرها -: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع اللهَ ورسولَه بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم؛ فما له في الآخرة مِن خَلاق" (مجموع الفتاوى (35/ 16).
ولأجل ما يترتب على تنصيب الأئمة من مصالح الدين والدنيا؛ أجمع العلماءُ على وجوب ذلك، ومِن مواطن السيرة المدهشة في هذا المعنى: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يدفنوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حتى بايعوا أبا بكر على الخلافة.
أيها المسلمون: إن المصالح التي تترتب على تنصيب الأئمة والولاة عظيمةٌ وجليلة، يُدركها العاقلُ بوضوح - خاصة بعدما رأى أثر غياب السلطان الجائر في عددٍ من الدول حوْله -، ومع هذا فإن التذكير بشيءٍ منها صار من المهمات، خاصة وقد نشأت أجيالٌ لا يُدركون التأصيل الشرعي لهذا المعنى، ويَظنونه مبدأً سياسياً محضًا.
قال العلماء في بيان شيء من حِكَم تنصيب الأئمة، ووجوب السمع والطاعة لهم بالمعروف: أن مِن الناس مَنْ يُدفع شرّه بتخويف السلطان وتهديده، ما لا يندفع بالقرآن بتكرار وعظه، وفي الأثر: "إن الله ليَزَع بالسلطان ما لا يزَع بالقرآن"، أي: يدفع؛ لما في الطباع البشرية من العدوان والاستعصاء عن الطاعة، ومن ثم قال ابن المبارك:
إن الجماعةَ حبلُ الله فاعتصموا *** بعُرْوته الوثقى لمن دانا
كم يَدفع اللهُ بالسلطان مَظلَمةً *** في ديننا رحمةً منه ودنيانا
لولا الخلافةُ لم تأمن لنا سُبُل *** وكان أضعَفنا نهبًا لأقوانا
ومن ذلك: أنه يندفع به ضررُ ما يفوت بتقدير فقْده من حاجة الخلق لتنفيذ الأحكام، وإقامة الصلوات، وجباية الخَراج، ونصْب القضاة، وحماية البَيضة، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش، وقسم الغنائم، وبعث السُّعاة والولاة، وإنصاف المظلوم.
وقال إمامُ أهل السنة الإمام المبجّل أحمد بن حنبل- رحمه الله- مبيناً معتقد أهل السنّة والجماعة في هذا الباب وغيره:
"أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والإقتداء بهم، وتركُ البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المِراء والجدال والخصومات في الدين..." فذكر أموراً ثم قال: "والسمعُ والطاعة للأئمة، وأميرُ المؤمنين البَر والفاجر، ومَن ولي الخلافةَ فاجتمع الناسُ عليه ورضوا به، ومَن غلبهم بالسيف حتى صار خليفةً وسُمي أمير المؤمنين.
والغزو ماضٍ مع الأمراء إلى يوم القيامة، البر والفاجر لا يُترك، وقسمة الفيء، وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ، ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم، ودفعُ الصدقات إليهم جائزة ونافذة، مَن دفعها إليهم أجزأتْ عنه بَراً كان أو فاجراً.
وصلاةُ الجمعة خلفه وخلف مَن ولَّى جائزة تامّة ركعتين، مَن أعادهما فهو مبتدعٌ تاركٌ للآثار، مخالف للسنة، ليس له من فضل الجمعة شيء، إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة مَن كانوا بَرهم وفاجرهم، فالسنة أن تصلي معهم ركعتين من أعادهما فهو مبتدع، وتَدين بأنها تامّة، ولا يكن في صدرك من ذلك شك.
ومن خرج على إمامِ المسلمين وقد كان الناسُ اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان - بالرضا أو بالغلبة - فقد شق هذا الخارجُ عصا المسلمين، وخالف الآثارَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن مات الخارجُ عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتالُ السلطان، ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمَن فعل ذلك فهو مبتدعٌ على غير السنة والطريق" انتهى كلامه رحمه الله (المدخل إلى مذهب الإمام أحمد. لابن بدران (ص: 79).
ومن بديع ما نختم مقامَنا هذا قول عمرو بن العاص لابنه: "يا بُني! احفظ عني ما أوصيك به: إمامٌ عادل خير من مَطرٍ وابل، وأَسدٌ حَطوم خير من إمامٍ ظلوم، وإمامٌ ظلوم غشوم خيرٌ من فتنة تدوم"(تاريخ دمشق لابن عساكر (46/ 184).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
التعليقات