طاعة الله والاستعداد للقائه

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2024-10-15 - 1446/04/12
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/اغتنام الحياة الدنيا 2/الحرص على فعل الطاعات وترك المنكرات 3/أشد الناس خسارة 4/محاسبة النفس 5/ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني 6/من علامات محبة الله 7/الحياة الطيبة 8/التحذير من الغفلة.

اقتباس

ما هو جهادنا الآن معشر الأحياء؟ أهو اللعب لننال به الكبر والإعراض؟ أم عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام؟ أم هو الكسل والضعف حتى عن القيام بمسؤولية البيت وتربية الأهل والأولاد؟ إن المنصف منّا حقًّا يدرك...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، فسبحانه من إله عظيم ورب كريم، رؤف رحيم.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطلع على كل شيء، فلا تخفى عليه خافية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، والدين القويم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقواه وتعرَّفوا لعظمته، واستعدّوا للقائه، فما منا من أحد إلا وسيكلّمه ربه ومولاه، في الصحيحين عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظرُ أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرُ أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظرُ بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".

 

أيها المسلمون: اغتنموا الحياة فيما يُرضِي الله، واستعدّوا للجواب حين نُوقَف بين يديه ونُسأَل، فعن أبي برزة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدَما عبدٍ يوم القيامة، حتى يُسأل عن عمره فيمَ أفناه، وعن عمله فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه".

 

أيها المسلمون: الكَيِّس مَن دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبَع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، فتذكروا -رحمكم الله- صحائفكم وما أودعتم فيها، فسنُعْرَض حتمًا على ربنا ونُعطَى هذه الصحائف، وسيندم المفرط حين لا ينفع الندم، قال الله -تعالى-: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: ٤٨ – ٤٩] ، وقال: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق: ٦].

 

عباد الله: إن الخاسر حقًّا مَن خسر نفسه وأهله يوم القيامة؛ (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)[سورة الزمر:15-16]؛ فما أعظمه من بيان لمن أراد الله له الهداية والتقى! وما أعظمه من تخويف لمن تتجلى له هذه الحقائق فيخشى ربه وينيب إليه.

 

عباد الله: ألا نحب لأنفسنا وأهلينا القرب من الله والسكنى في الفردوس الأعلى، فنكون في الروح والريحان وجنة نعيم؟ ألا نحب على الأقل أن نكون من أصحاب اليمين الذين قال الله فيهم: (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ)[الواقعة: ٩١]؟ لا شك أن كلاً منا يتمنَّى ذلك ويحنّ قلبه إليه، فهل سرنا مع الطريق المُوصِّل إليه، وتمسكنا به تمسك الغريق الذي وجد من ينقذه من الغرق؟ هل شَمَّرنا لطاعة الله وطاعة رسوله بجدٍّ ونشاط وحزم؟ أم نحن في ارتخاء وتقصير وتهافت على ما تهواه النفس وتميل إليه؟

 

عباد الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، لقد كان من آثار صدق الصحابة -رضي الله عنهم- وجدّهم إلى لقاء الله ومرضاته، أن منهم من وجد رائحة الجنة في الدنيا قبل مفارقة هذه الحياة؛ وذلك ليقينه بها وسيره إليها، وذلك في مسيرهم إلى أُحُد.

 

 بل إن منهم من اشتاق حين استُشْهِدَ أن يُبلِّغ إخوانه الأحياء فضل الجهاد لئلا يزهدوا فيه فينكلوا عن الحرب، وقد تكفل الله بتبليغهم مكرمة منه -تعالى- لهم، وحثًّا لأوليائه حتى ينالوا أعلى الدرجات عنده.

 

روى الإمام أحمد وابن جرير وغيرهما، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما أُصيب إخوانكم يوم أُحُد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تَرِد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش؛ فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسنَ مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب؛ فقال الله -عز وجل-: أنا أُبلِّغهم عنكم؛ فأنزل الله هذه الآيات: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: ١٦٩ – ١٧1]، الآيات فما أعظم صدقهم مع ربهم! وما أعظمه من ثواب!

 

إخواني الكرام: ما هو جهادنا الآن معشر الأحياء؟ أهو اللعب لننال به الكبر والإعراض؟ أم عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام؟ أم هو الكسل والضعف حتى عن القيام بمسؤولية البيت وتربية الأهل والأولاد؟ إن المنصف منّا حقًّا يدرك ذلك، بل قد أصبح المال والولد عذابًا على البعض من الناس، والعياذ بالله، وذلك والله بسبب التفريط والتقصير وضعف الصدق في المعاملة مع رب البرية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: ٦٩]، بارك الله...

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، مُوفِّق مَن شاء لهدايته فضلاً منه وكرمًا، ومُضِلّ مَن شاء مِن عباده لكمال علمه به وحكمته، فكتب عليه الضلال؛ لأنه كالتربة السبخة لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأً، فلو عُذِّب في نار جهنم، ثم أعيد إلى الدنيا لعاد إلى كفره وضلاله، فسبحانه من إله عظيم، حكيم بصير.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المَلِك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله ربكم فإن الله يُحذِّركم نفسه، قال -تعالى-: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: ٣٠].

 

عباد الله: إن من علامة محبة الله: اتباع سُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[سورة آل عمران:31]، وإن الحياة الطيبة قد أرشد إليها -تعالى- بقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: ٩٧]، فهذا وعد منه -تعالى- بالحياة الطيبة، والثواب الحسن، ووعده الحق، فاعملوا صالحًا لتكونوا سعداء في هذه الدار، ولتنالوا الثواب في الآخرة بأحسن ما كنتم تعملون، وإن الإهمال والغفلة أمرهما خطير.

 

عباد الله: ليس لنا في الآخرة من مستقر إلا إلى الجنة أو النار، وإن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة رجل يُوضَع في أخمص قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة لرجل يُوضَع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابًا".

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: في حديث آخر: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصُّعُدَات تجأرون إلى الله -تعالى-".

 

فاتقوا الله -عباد الله- وأنيبوا إليه، لنُقدِّم أمامنا سترًا وحجابًا عن النار.

 

اللهم وَفِّقنا لذلك، واجعلنا من عبادك الصالحين.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life