ضوابط المصلحة الدعوية

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

فالمصلحة التي لم ينصّ عليها لا بد أن تكون قائمة على حفظ مقاصد التشريع الخمسة: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة، ثم إن درجة حفظ هذه المقاصد يتدرج إلى ثلاث مراحل بحسب الأهمية، وهي...

المصلحة هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، في أمور الدين والدنيا، وليس في الشرع ما يخالفها أو ينفيها.

 

والمصلحة المعتبرة شرعًا هي التي تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية، من حفظ ضرورات الناس وحاجاتهم وتحسيناتهم، فليس كل ما يسمى مصلحة في اللغة أو العرف، أو يراه الناس أو طوائف منهم مصلحة يمكن أن يكون مصلحة مقصودة للشارع، تشرع لتحصيلها الأحكام، ويؤمر بها المكلفون، وكذلك الحال بالنسبة للمفسدة التي هي ضد المصلحة.

 

وأجمع العلماء على أن أحكام الشريعة الإسلامية مشتملة على مصالح العباد، ومحققة لها، ووافية بها، سواء أكانت ضرورية أم حاجية أم تحسينية.

 

قال الإمام الشاطبي: "المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معًا"(1).

 

ويقول أيضًا: "إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلًا لا آجلًا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبّر أمرًا لا يتم له على كماله أصلًا، ولا يجني منه ثمرة أصلًا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"(2).

 

ومن المصطلحات التي شاعت في عصرنا مصطلح المصلحة الدعوية، واستعمل كحجة لكل عمل، حتى وإن كان بلا مصلحة، أو المصلحة في خلاف هذا العمل، فخضعت المصلحة للأهواء الشخصية، والتعصبات الحزبية، والمنافع الذاتية.

 

وإذا علمنا هذه الحقيقة الجليلة، وأن الشريعة كلها مبناها على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، في كل أحكامها وتشريعاتها، وأوامرها ومنهياتها، فليس معنى ذلك أن المصلحة الدعوية المعتبرة هي ما نراه بمفهومنا القاصر، وعقولنا المحدودة المشوبة بشوائب الهوى والشهوة، والمتأثرة بمؤثرات الواقع المعاش والبيئة المحيطة، فكثير من الناس أخذ يتجرأ على جناب الشريعة، ويتصدى للتحليل والتحريم، محتجًا بهذه الحقيقة، وهي أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الخلق، فيقرر الأحكام بناءً على ما يراه بعقله القاصر، وتهواه نفسه الأمارة بالسوء، ويزعم أن هذا هو ما تقتضيه المصلحة، وأنه هو حكم الله، دون أن ينظر في الأدلة الشرعية، ويتعرف من خلالها وكلام العلماء المعتبرين حولها على حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فيه، وقد يكون في واقع  الأمر محرمًا منهيًا عنه، وهو عين المفسدة، أو فيه مفاسد كثيرة.

 

وأخطر من هذا أن فئامًا من المتعالمين، في زماننا اليوم، ممن جمعوا بين قلة الفقه ورقة الدين، واتباع الهوى، والإعجاب بالنفس، أخذوا يخوضون في أحكام الشريعة، ويفتون في كبار المسائل بلا حجة ولا دليل، ولا بينة ولا برهان، وإنما دليلهم هو المصالح المرسلة، التي تقررها عقولهم القاصرة، وتدعو لها أهواؤهم الضالة وإراداتهم الفاسدة، فأباحوا كثيرًا من المحرمات، وأنكروا كثيرًا من المشروعات؛ لأنها بزعمهم خلاف المصلحة التي هي مقصود الشارع(3).

 

قد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات، بعد الرسل، والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها، تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة، يحسبونه هم ليس أصيلًا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها.

 

ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم، وذلك حرصًا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها، واجتهادًا في تحقيق (مصلحة الدعوة)، ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج، دون انحراف قليل أو كثير، أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله.

 

فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج؛ إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله، ولن تكون إلا خيرًا في نهاية المطاف.

 

إن كلمة (مصلحة الدعوة) يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات؛ لأنها مزلة ومدخل للشيطان يأتيهم منه، حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص، ولقد تتحول (مصلحة الدعوة) إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل.

 

إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها، ويتحروا هذا النهج، دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرًا على الدعوة وأصحابها، فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيرًا أو قليلًا، والله أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلفين، إنما هم مكلفون بأمر واحد، ألا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق(4).

 

ونظرًا لأهمية هذا الموضوع، والحاجة لإزالة اللبس والخلط حول هذا المفهوم ومستلزماته الشرعية، نريد أن نسلط الضوء على بعض تلك المسائل الأصولية، وأن نجلي الموقف حول صحة الاستدلال بها في قضايا الدعوة والإصلاح.

 

ويزيد ابن القيم -رحمه الله- هذه القاعدة توضيحًا بقوله: "فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خاصة أو راجحة، وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها، فهذه أقسام خمسة: منها أربعة تأتي بها الشرائع؛ فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له، وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه، فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلها بحسب الإمكان، وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان، فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة"(5).

 

وهذا التقديم والتأخير للمصالح أو المفاسد قد يختلف أحيانًا باختلاف أحوال الناس والعوائد وظروف الأزمنة والأمكنة؛ ولذلك كان من الأمور الدقيقة المهمة، والتي ينبغي فيها على المجتهد أو الناظر أن يكون في غاية التحفظ والحذر.

 

يقول الشنقيطي -رحمه الله-: "والتحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ غاية الحذر؛ حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال"(6).

 

قال العز بن عبد السلام: "وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح، لا لكونها مفاسد؛ بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظًا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد، وكذلك العقوبات الشرعية، كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد؛ بل لحِكَمِها المقصودة من شرعها؛ كقطع السارق، وقطع قطاع الطريق، وقتل الجناة، ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم، وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع؛ لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية، وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب"(7).

 

والدعوة إلى الله -عز وجل- نوع من أحكام الإسلام، أمر الله -عز وجل- بها وحث عليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فأحكامها ووسائلها راجعة إلى قواعد الشرع وأدلته وأحكامه.

 

وبناءً على ما تقدم نعرف أن المصلحة الدعوية إذا لم يشهد لها الشارع باعتبار أو بإلغاء فهي من قبيل المصلحة المرسلة شرعًا، واعتبارها حجة أمر مقرر عند العلماء، وذلك لقيام الشريعة كلها على جلب المصالح ودفع المضار.

 

فما يراه الدعاة من أمور الدعوة وقضاياها فيه مصلحة كان حكمه الاعتبار، وما رأوا فيه مفسدة كان حكمه الإلغاء والرد، ولكن العلماء خشيةً منهم في دخول الهوى وحظوظ النفس في اعتبار المصلحة أو إلغائها بالنسبة للعلماء أو الدعاة، وخصوصًا ما يحدث ويستجد من أمور قد يختلط على الناظر تقدير المصلحة على وجهها الصحيح، قرّروا في ذلك ضوابط لا بد منها في الأخذ بالمصلحة، واعتبارها دليلًا يُحتج به في النوازل والحوادث والمستجدات، وعند تغير الظروف والأحوال والأزمنة.

 

الضوابط الشرعية للمصلحة الدعوية:

أولًا: اندراجها ضمن مقاصد الشريعة:

فالمصلحة التي لم ينصّ عليها لا بد أن تكون قائمة على حفظ مقاصد التشريع الخمسة: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة، ثم إن درجة حفظ هذه المقاصد يتدرج إلى ثلاث مراحل بحسب الأهمية، وهي ما أطلق عليه علماء الأصول اسم: الضروريات والحاجيات والتحسينيات(8).

 

فكل حكم تشريعي في الإسلام لا يخرج عن هذه المقاصد نُص عليه أو لم ينص عليه؛ بمعنى دلت عليه الأدلة الأخرى، ومنها المصلحة المرسلة؛ وذلك لاندراجها تحت نوع من تلك المقاصد الشرعية المعتبرة.

 

ثانيًا: ألا تخالف نصوص الكتاب والسنة:

ويدل على ذلك عقلًا أن المصلحة ليست بذاتها دليل مستقل؛ بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة، التي تقوم على حفظ الكليات الخمس، فيستحيل عقلًا أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه، وقد أثبتنا حجّيتها عن طريقه، وذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهو باطل.

 

وقد دل على ذلك من القرآن قوله تعالى: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)[المائده:49]، وقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)[النساء:59]، وقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ)[المائدة:44].

 

فاعتبار المصلحة ورد الكتاب والسنة من تحكيم الهوى، وهو منازعة لحكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

فالمصلحة إذا عارضت النص والإجماع تعتبر ملغاة ولا يعتد بها؛ ولذلك قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- ضمن حديثه عن المصلحة المرسلة: "ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود والمقدرات الشرعية، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص عليها والمجمع عليها، وما لا يجوز فيه الاجتهاد"(9).

 

فالمصلحة لا تكون مصلحة إذا خالفت ما هو منصوص عليه أو مجمع عليه؛ بل هي مفسدة غير معتبرة.

 

ثالثًا: أن تكون المصلحة يقينية أو ظنها غالب:

بمعنى أن يعلم المجتهد أو الناظر في اعتبارها قطعية وجودها، لا أن يظن أو يتوهم أو يشك وجود المصلحة المبحوثة في المسألة، ثم يحكم باعتبارها من خلال هذا الظن غير المعتبر في الشرع.

 

المصلحة القطعية تقدم على المصلحة الظنية؛ لأن المصلحة القطعية متفق عليها من قبل الجميع، ومضمونة الوقوع في الغالب، أما المصلحة الظنية فإنها محل خلاف ونظر من قبل الناس، ولأنها غير مضمونة الوقوع، فيحتمل وقوعها كما يحتمل تعطلها، وما كان متحقق الوقوع يقدم على محتمله ومضمونه(10).

 

أما إذا كان الظن بوجود المصلحة ظنًا راجحًا ناشئًا عن الاجتهاد فإنه يُنزّل منزلة اليقين؛ لأن غلبة الظن معتبرة شرعًا إذا عدم القطع.

 

يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "كَذِب الظنون نادر، وصدقها غالب (أي في المصالح والمفاسد)، وكذلك يُبنى جلب مصالح الدارين ودفع مفاسدهما على ظنون غالبة، متفاوتة في القوة والضعف والتوسط بينهما، على قدر حرمة المصلحة والمفسدة ومسيس الحاجة"(11).

 

رابعًا: أن تكون المصلحة كلية:

بمعنى ألّا تقتصر على فئة وتضر أخرى، وهذا الشرط ذكره الغزالي -رحمه الله- كذلك وضرب له أمثلة، منها:

إذا كان جماعة في مخمصة، ولو أكلوا واحدًا منهم بالقرعة لنجوا، وقال: لا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية.

 

ومثلها لو كان جماعة في سفينة لو طرحوا واحدًا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم، وقال: إنها ليست مصلحة كلية؛ إذ يحصل بها هلاك عدد محصور(12).

 

ومما يجدر التنبيه له هنا أن المقصود بكلية المصلحة ليس بأن تعمَّ الأمة جمعاء؛ بل المراد أن المصلحة المتوخاة لفئة معينة لا ينبغي أن يُنظر فيها إلى قوم منهم دون اعتبار بعضهم ممن هم شهود على هذه المصلحة.

 

فالمصلحة الكلية هنا لا تنفي اعتبار المصلحة الجزئية؛ ولكن إذا حصل التعارض بينهما فلا يُنظر حينئذٍ إلى المصلحة الجزئية في مقابل الكلية(13).

 

ومن ذلك قتل المبتدع الذي تصل بدعته حدَّ الكفر والزندقة، التي ينتقد الدين بها، عادة متبعة في دول الإسلام؛ ويدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، كما فعل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالسبئية حين حرقهم، وكذلك قتل الجعد بن درهم والحلاج وغيرهم.

 

خامسًا: عدم تفويت المصلحة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها:

وهذا الضابط معتبر عند تعارض المصالح في أيهما يُقدّم، ولا شك أن الذي يُقدّم هو الأهم والأولى في الاعتبار، وميزان الأهمية يرجع إلى ثلاثة أمور:

أولًا: النظر إلى قيمتها من حيث ذاتها ودرجتها في سلم المقاصد، فالضروريات لا تُقدم عليها الحاجيات أو التحسينيات، كما لا تُقدم التحسينيات على الحاجيات، وهكذا فإن كانت المصالح في درجة الأهمية في سلم المقاصد واحدة ينظر حينئذٍ في:

الثاني: وهو من حيث مقدار شمولها، فالمصلحة العامة تُقدم على المصلحة الخاصة، فإن كانوا في الدرجة والشمول سواء اعتبر:

 

ثالثًا: مدى التأكد من وقوع نتائجها من عدمه، فتُقدم الأكيدة على الظنية، كما بينا سابقًا(14).

 

وهناك بعض المعايير المعتبرة أيضًا في تقديم بعض المصالح على بعض عند التعارض، منها:

أ- أن المصلحة الدائمة أولى من المنقطعة، كما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"(15).

 

ب- أن المصلحة المتعدية أولى من المصلحة القاصرة؛ مثل مصلحة العلم أولى من مصلحة العبادة.

 

ج- أن المصلحة الأطول نفعًا تُقدّم على المصلحة المحدودة؛ مثل تقديم الصدقة الجارية على غيرها(16).

يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزَّة لا يهتدى إليها إلا من وفقه الله تعالى، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب"(17).

 

وهذا التقديم والتأخير للمصالح أو المفاسد قد يختلف أحيانًا باختلاف أحوال الناس والعوائد وظروف الأزمنة والأمكنة؛ ولذلك كان من الأمور الدقيقة المهمة، والتي ينبغي فيها على المجتهد أو الناظر أن يكون في غاية التحفظ والحذر.

 

يقول الشنقيطي -رحمه الله-: "والتحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ غاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة، وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال"(18).

 

التطبيقات الدعوية للمصلحة في واقعنا المعاصر:

أولًا: إن اعتبار الأخذ بالمصلحة وبناء الأحكام عليها، وجعلها ذريعة لمواقف ومنطلقات تقوم عليها الدعوة ينبغي أن يحتاط له، ولا يكون مدخلًا لنوازع النفس والهوى، أو بابًا مفتوحًا للأدعياء وأنصاف العلماء، أو نوعًا من الإقرار بالمصالح الضعيفة أو الموهومة نتيجة لضغط الواقع، أو بحجة فقه التيسير، أو توسعًا في الانفتاح على المجتمعات والرقي في سلم الحضارات.

 

ومن وسائل الاحتياط والاهتمام في الأخذ بالمصلحة في قضايا الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، أن تكون منطلقة من أهل الاجتهاد من العلماء والباحثين، من أهل الفقه والعلم؛ لسعة اطلاعهم وشمول معرفتهم لأحكام الشريعة، وكلما كان النظر والاستدلال من خلال اجتهاد جماعي لا فردي كان أكثر دقة، وأقرب إلى الصواب، وأقل احتمالًا في الخطأ.

 

يقول عبد المجيد الشرفي في أهمية الاجتهاد الجماعي أنه: "ضمانة لعدم استغلال هذه القاعدة في تعطيل شرع الله بذريعة تغير المصلحة...، ولكونه أكثر ضمانة في التحري عن المصلحة وتغيرها، وأكثر دقة في الابتعاد عن الهوى، وأكثر إصابة للحق"(19).

 

وكان هذا النهج في النظر هو فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا نزل بهم أمر وأرادوا الحكم فيه؛ فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يجمع رءوس الناس وخيارهم ويستشيرهم، فإذا اجتمع أمرهم على أمر قضى به، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك إذا أعياه أن يجد حكم مسألة ما في الكتاب والسنة، فكان يسأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به(20).

 

ثانيًا: إن النظر في المصلحة ينبغي أن يمتد إلى ما تؤول إليه من نتائج مصلحية، أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ للمصلحة على وقتها من دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان من دون اعتبار الأماكن الأخرى، أو على شخص من دون اعتبار بقية الناس، وخصوصًا في الفتاوى والأنظمة العامة، مما قد يكون وسيلة أو ذريعة إلى مفسدة أو الوقوع في محظور، مع اعتبار الأولى من المصالح، فالأولى بتقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعًا والأطول بقاءً على غيرها من المصالح المرجوحة الأخرى.

 

يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن المجتهد: "لا يُحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغبّ، جارٍ على مقاصد الشرع"(21).

 

ومن أمثلة اعتبار المآلات والذرائع في الشرع قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)[الأنعام:108]، وقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الألْبَابِ)[البقرة:179].

 

ومنها: النهي عن بيع العينة؛ لأنها ذريعة للربا، وعدم قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين؛ كي لا يقال إن محمدًا يقتل أصحابه، وعدم هدم وبناء الكعبة على قواعد إبراهيم؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بالكفر، ونهيه للصحابة عن إخراج الأعرابي الذي بال في المسجد؛ لما يترتب على ذلك من ضرر عليه وأذى في المسجد، ونهيه -صلى الله عليه وسلم- عن التشدد في العبادة والغلو فيها؛ حتى لا يحدث للإنسان ملل أو إفراط في الغلو المحظور(22).

 

وكل ذلك يتطلب أن يتجاوز الدعاة واقعهم القريب إلى استشراف المستقبل البعيد، وأن تكون لهم دراسات مستقبلية، يتوقعون فيها ما يمكن حدوثه أو يحصل تغيّره، ثم وضع برامجهم الإصلاحية، مراعين ما يلزم لذلك من احتياطات واستعدادات تكون سياجًا آمنًا من مفاجآت المستقبل ومتغيرات الزمان.

 

وليس في ذلك ادعاءٌ للغيب أو تجاوز للشرع، وحاش للدعاة أن يدّعوه؛ بل إن ذلك معتبر ضمن ما ذكرناه من قاعدة اعتبار المآلات، والنواميس التي وضعها الله -عز وجل- في الأنفس والمجتمعات والكون ثابتة لا تتغير، ومحكمة لا تتبدل إلا إذا شاء الله -عز وجل- ذلك، فإذا اكتشف الدعاة نظام هذه النواميس والسنن، وساروا ضمن قانونها العام فإنهم لن يعدموا خيرًا؛ إذ قد بذلوا ما في جهدهم من أسبابٍ تحقق لهم العزة والنصر بإذن الله.

 

رابعًا: إن اعتبار حجيّة المصلحة المرسلة جعل جمهور الفقهاء يستخرجون، بناءً عليها، أحكامًا شرعية لكثير من المسائل التي صدرت بشأنها القوانين والأنظمة؛ كقوانين العمل والعمال، وأنظمة التجارة والصناعة والزراعة، وفرض عقوبات رادعة لبعض الجرائم؛ كتعاطي المخدرات والاتجار فيها، إلى غيرها من الأنظمة والقوانين واللوائح التي تنظم المجتمع ولم يرد بشأنها نص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

فإذا قررنا اعتبار المصلحة المرسلة في تنظيم شئون المجتمع وإلزام الناس بها فما الذي يمنع من اعتبار المصلحة في تنظيم شئون الدعوة وتنظيم أمور الدعاة، وفق أنظمة وقوانين ولوائح لها قوة التطبيق والإلزام.

 

خامسًا: يمارس بعض الدعاة إلى الله نوعًا من التلفيق الاجتهادي المذموم؛ بغية الوصول إلى الهدف المطلوب والسيطرة المنشودة، ومدّ النفوذ والعلو على كل موجة؛ تحقيقًا لمصلحتهم الخاصة وإن كانت وسائلها ممنوعة، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت، والعبرة بإيجاد مصلحتهم المتوهمة ولو خالفت نصوص الشرع وقواعده الكلية.

 

إن هذا المبدأ الميكافيلي، الذي سيطر على مناهج بعض الدعوات المغرضة، حقق لهم انتصارات هامشية وامتدادًا سرابيًا بين الناس، ولكن على حساب المبادئ الشرعية والثوابت الخلقية في الإسلام.

 

يظهر هذا الانتهاك في عدة صور عملية واقعية؛ كالطعن والثلب في العقائد والأعراض، وتصيد الأخطاء والزلات لكل داعية يخالف منهجهم، وتشويه المناهج الأخرى من أجل التصدر والاعتلاء على الساحة الدعوية.

 

وقد ترى تقلب المبادئ والمناهج، بين الأخذ بالعزائم والتشدد في العقائد والعبادات وامتحان الناس بها، وأخذ خواصهم بالرخص الملفقة وإسرارهم بها، يقول عمر بن عبد العزيز، منبهًا على خطورة هذا المنهج البدعي الذي ظهر في زمانه: "من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل"(23)، كما نجد السعي الدؤوب في تبرير كل اجتهاد نحوه مهما كان انحرافه، وليّ أعناق الفتاوى، فضلًا عن نصوص الشرع، لتوافق أهواءهم وطموحاتهم الحزبية.

 

إن دعوة قامت على هذا الجرف الهار لا تلبث أن تنهار وتذهب ريحها، ويتفرق جمعها (إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس:81]، وسنن الحق سبحانه في أمثالهم جارية، والزمن كفيل بإثبات الحق وإظهاره.

 

فالمصالح الدعوية إن لم تقم على ربانية صادقة مخلصة، وتمييز للثوابت عن المتغيرات والمتغيرات عن الثوابت، بفقه دقيق وتأصيل عميق، وإلا كانت بداية انحراف وزيغ وفتنة للدعاة، تذكيها مع الأيام حركات فاتنة في صفقات غابنة، لا مربح لأحد إلا أعداء الدعوة ودعاة السوء والفتنة(24).

_______________

(1) الموافقات (1/ 199).

 

(2) المصدر السابق (1/ 349).

 

(3) المعيار الشرعي لمعرفة المصلحة والمفسدة، موقع: صيد الفوائد.

 

(4) في ظلال القرآن (4/ 2436).

 

(5) مفتاح دار السعادة (2/ 14).

 

(6) المصالح المرسلة، للشنقيطي، ص21.

 

(7) قواعد الأحكام (1/ 12).

 

(8) ضوابط المصلحة، ص110، وما بعدها.

 

(9) المصلحة المرسلة، ص10.

 

(10) تعليم علم الأصول، ص212.

 

(11) مختصر الفوائد في أحكام المقاصد، ص133-134.

 

(12) المرجع السابق (1/ 296).

 

(13) مختصر الفوائد في أحكام المقاصد، ص141-142.

 

(14) ضوابط المصلحة، ص217، وما بعدها.

 

(15) أخرجه البخاري (1132)، ومسلم (741).

 

(16) أحكام المقاصد، لابن عبد السلام، ص141-142.

 

(17) قواعد الأحكام، ص47.

 

(18) المصالح المرسلة، للشنقيطي، ص21.

 

(19) الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، ص118.

 

(20) الفكر السامي، للحجوي (1/ 286).

 

(21) الموافقات (5/ 177).

 

(22) المصدر السابق (5/ 180-181).

 

(23) مناهج أهل الأهواء، للعقل، ص90.

 

(24) ضوابط المصلحة الدعوية، موقع: صيد الفوائد.

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life