عناصر الخطبة
1/طلب العلم أفضل القربات 2/تأملات في سِيَر السلف الصالحين 3/من صور حرص السلف على طلب العلم 4/المشقة والتعب في تحصيل العلم.اقتباس
قال ابن القاسم: وأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئًا، فبينا أنا عنده ذات يوم إذ أقبل حجاج مصر، فإذا شاب متلثم قد دخل علينا ونحن في المسجد فسلم على مالك، وقال: أفيكم ابن القاسم فأشاروا إليَّ فأخذ يُقبّل ما بين عيني، ووجدت منه راحة الولد، فإذا ابني الذي تركت أمه حاملاً به قد شَبَّ وصار رجلاً.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ذي القدرة والجلال، والنعم السابغة والإفضال، الذي مَنَّ علينا بمعرفته، وهدانا إلى الإقرار بربوبيته، وجعلنا من أُمَّة خير النبيين، السامي بفضله على العالمين، الطاهر الأعراق، العالي الأخلاق، صلى الله عليه وأزلف منزلته بين يديه، وعلى إخوانه النبيين، وعلى أقربيه وصحابته والتابعين، وسلم عليه وعليهم أجمعين دائمًا أبدًا إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله وراقبوه؛ فإنكم غدًا بين يديه موقوفون، وبأعمالكم مجزيون، فكونوا على أُهبة واستعداد؛ رحمني الله وإياكم أجمعين.
معاشر المسلمين: إذا علم المرء أن طلب العلم أفضل القربات، وعلم كيف يؤول العلم بصاحبه إلى نعيم الدنيا والآخرة والدرجات؛ زاده ذلك حرصًا على طلبه، والسعي الدؤوب في تحصيله، ولم تنقضِ نهمته منه حتى الممات بل تزداد بزيادة طلبه له.
ولما كان المسلم ينشط أحيانًا ويفتر أخرى، كان لزامًا أن يجعل له زادًا يقويه ويرفع همته، ويدفعه إلى الأمام في طلب العلم، ولا أجد شيئًا يصنع ذلك -بعد توفيق الله ورحمته- مثل قراءة سير السلف الصالحين الذين ضربوا في كل طرق الخير؛ فلا تجد أحدهم إلا وله سهم في دروب الخير وإمعانًا فيه.
ولهذا سنعرض في هذه الخطبة طرفًا من سِيَرهم؛ علَّنا نحذو حذوهم، ونسير على دربهم؛ فهم فخرنا وعزنا، ولقد ذلت أمة ليس لها سلف تسير على خطاه.
قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف:111]، وقال: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود:120]؛ قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "الحكايات جند من جنود الله يثبّت الله بها قلوب أوليائه".
قال المزني: قيل للشافعي: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا تتنعم بما تنعمت به الأذنان.
فقيل له فكيف حرصك عليه؟ فقال حرص الجَمُوع المَنُوع في بلوغ لذته للمال.
فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال طلب المرأة المضلة لولدها، ليس لها غيره.
ولما قيل لابن عباس: إلى كم تكتب العلم؟ فقال: إذا نشطت فهو لذتي، وإذا اغتممت فهو سلوتي.
قال ابن القيم: وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية، ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها؛ لتجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفّت بحجاب من المكاره، وحجبوا عنها بحجاب من الجهل ليختص الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.
عباد الله: لقد كان العلم هو حياة سلفنا الصالح؛ فمن أجله يأكلون، وله يتّجرون، بل ومن أجله يعيشون، وما ذاك إلا لأنه الطريق الموصل إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته، فبه تحصل اللذة التي حرمها الكثير.
جاء في ترجمة أبي جعفر القصري: أنه كان ربما باع بعض ثيابه، واشترى بثمنها كتبًا أو ورقًا لنسخ كتاب.
بل كانوا -رحمهم الله- يضحون بأنفسهم في سبيل تحصيل العلم. فها هو عمر بن عبد الكريم الرؤاسي سقطت أصابعه في طلب العلم من شدة البرد في إحدى رحلاته.
وقال هشام بن عمار: باع أبي بيتًا له بعشرين دينارًا، وجهزني لطلب العلم والحج.
وهذا إمام الدنيا في زمانه أبو عبدالله البخاري -كما يحدث عنه تلميذه ابن أبي حاتم- قال: كنت معه في سفر، وكان يجمعنا سقف واحد، فكان يضطجع على فراشه لينام فتمر به الخاطرة من العلم، فيقوم من فراشه، ويأخذ القداحة، ويوقد السراج، ويخرج أحاديثه فيعلم عليها، ثم يضطجع لينام فتمر به الفائدة، فيقوم؛ هكذا دأبه يصنع ذلك في الليلة الواحدة من خمسَ عشرة مرة إلى العشرين، وكان يصلي بالسحر ثلاث عشرة ركعة.
وهذا الإمام الحازمي: كان يدخل بيته في كل ليلة، فيطالع في الكتب، ويصنف إلى الفجر، فقال أحدهم لخادمه: لا تدفع له هذه الليلة زيتًا للسراج، فلعله يستريح الليلة، فلما أقبل الليل طلب الحازمي من خادمه زيتًا ليوقد به السراج، فاعتذر إليه بانقطاع الزيت، فدخل الحازمي بيته وصف قدميه يصلي لله في الظلام حتى أصبح.
هكذا طلبوا العلم من أجل العمل.
وقال أبو إسحاق المرادي: جاورت الحافظ المنذري ثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء المصباح في بيته، وهو مشتغل بالعلم حتى كان في حال الأكل والكتب عنده يشتغل فيها.
معاشر المسلمين: إن الذي يُطالِع في كتب السلف يعلم فضلهم، وكيف جادوا بأوقاتهم لتحصيل وتدوين هذا العلم.
قال ابن الجوزي: فسبيل طالب الكمال في العلم: الاطلاع على الكتب التي بقيت من المصنفات، فليكثر من المطالعة؛ فإنه يرى من علوم القوم وعلوّ همتهم ما يشحذ خاطره ويحرّك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة.
وقال في موضع آخر: وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره من قبل فكأني وقعت على كنز.. وإن قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب.
قال الخطيب البغدادي في وصف الكتاب: حاضر نَفْعه، مأمون ضرَرُه، ينشط بنشاطك فينبسطَ إليك، ويمل بملالك فينقبضَ عنك، إن أدنيته دنا، وإن أنأيته نأى، لا يبغيك شرًّا ولا يفشي لك سرًّا، ولا ينمُّ عليك/ ولا يسعى بنميمة إليك.
أيها الناس: لقد كان سلفنا الصالح يجوعون ويظمئون في سبيل تحصيل العلم.
قال النضر بن شميل: لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه.
وقال ابن خراش: شربت بولي في أثناء الرحلة لطلب العلم خمس مرات خشية الهلكة من الظمأ.
وقال البخاري: تأخرت نفقتي حتى جعلت أتناول من حشيش الأرض وأنا في طلب العلم.
عباد الله: هكذا يكون طلب العلم، فرأس المكارم هو تحصيل العلم، والمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعْبَر إليها إلا على جسر المشقة، فلا تُقطع مسافاتُها إلا في سفينة الجد والاجتهاد. قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنال العلم براحة الجسم وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
اللهم علمنا ما ينفعنا... أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين.......
أما بعد فيا أيها الناس: إن النفوس إذا أحبَّت الشيء، وطمعت فيه هانت دونه المصائب كلُها.
ومن حكمة الله أن جعل دون العلم المشقة والتعب. فها هو الإمام بقي بن مخلد يرحل من بلاده بالأندلس وهي دولة إسبانيا حاليًا، يرحل منها إلى بغداد لطلب العلم على يدي الإمام أحمد كل ذلك على قدميه.
وقيل للشعبي من أين لك هذا العلم؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.
عباد الله: قالوا قديمًا: إن العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه. وإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا.
قال إسحاق بن إبراهيم: كان الحافظ المنذري لا يخرج من المدرسة التي يدرس فيها لا لعزاء ولا لهناء ولا لفرجة، ولا لغير ذلك، بل كان يستغرق كل زمانه في العلم.
قال ابن القيم: ومن لم يغلب لذة إدراكه العلم وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم أبدًا، فإذا صارت شهوته في العلم، ولذته في إدراكه؛ رُجي أن يكون من جملة أهله.
وصدق -رحمه الله- فلقد كان السلف يبيعون ما يملكون لينالوا شيئًا من العلم.
قال ابن القاسم: أفضى طلب العلم بالإمام مالك إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه.
وقال مالك: لا ينال هذا الأمر حتى يذاق فيه طعم الفقر.
أيها المؤمنون: لقد كان بعض السلف لا يجد وقتًا للأكل أو الشرب، بل كانوا يتركون ما يحتاج إلى مضغ، ويعدلون إلى ما يُشْرَب لتدارك الوقت، وكان بعضهم يجبر على الأكل لعدم فراغه، قال عبيد بن يعيش: ما أكلت بالليل منذ ثلاثين سنة إنما كانت أختي تلقمني الطعام، وأنا مشغول بكتابة الحديث.
وقال عيسى بن موسى: مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل الهريسة، فلا أقدر على ذلك؛ لأجل البكور إلى سماع الحديث.
وكان الإمام النووي: لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد صلاة العشاء الآخرة، وكان يشرب شربة واحدة عند السحر؛ كل ذلك لانشغاله بطلب العلم.
أيها المؤمنون: لقد ملأ طلب العلم قلوب السلف حتى إنهم ليبيعون ثيابهم لتعلُّم العلم.
قال على بن حرب: أتينا الإمام زيد بن الحباب لنطلب عليه العلم، فلم يكن له ثوب يخرج فيه، فجعل يحدثنا وبيننا وبينه حاجزٌ، وحدثنا من ورائه.
وقال عمر بن حفص: فقدنا الإمام البخاري أيامًا من كتابة الحديث بالبصرة، قال فطلبناه فوجدناه في بيته وهو عريان، وقد نفد ما عنده، ولم يبق معه شيء فاجتمعنا فاشترينا له ثوبًا فخرج معنا.
وأعظم من هذا كله؛ لقد كانوا يؤثرون طلب العلم على الأهل والأولاد والزوجة. فها هو ابن القاسم العتكي يتزوج بابنة عمه، فحملت منه، ثم أراد السفر إلى المدينة ليأخذ العلم على مالك، فخَيَّر زوجته بين الطلاق والبقاء حتى عودته، فاختارت البقاء.
قال ابن القاسم: وأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئًا، فبينا أنا عنده ذات يوم إذ أقبل حجاج مصر، فإذا شاب متلثم قد دخل علينا ونحن في المسجد فسلم على مالك، وقال: أفيكم ابن القاسم فأشاروا إليَّ فأخذ يُقبّل ما بين عيني، ووجدت منه راحة الولد، فإذا ابني الذي تركت أمه حاملاً به قد شَبَّ وصار رجلاً.
وها هو ابن منده: يرحل من بلده إلى طلب العلم وعمره عشرون عامًا، ولا يرجع إليها إلا وعمره خمس وستون سنة، وكانت رحلته خمسًا وأربعين سنة، ثم عاد إلى وطنه شيخًا فتزوج ورُزِقَ الأولاد وحدَّث بالكثير.
وها هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديثٌ عن رجل من أصحاب النبي لم أسمعه، فاشتريت بعيرًا وشددت عليه رَحلي، وسافرت إليه شهرًا إلى الشام، فسمعته منه رجعت ولم أَحلّ رحلي.
أيها المسلمون: بعد هذه النُّبَذ اليسيرة لأهل العلم من سلفنا الصالح، تبين لنا أن العلم من هذا الدين لم يصل إلينا إلا على جِسر من التعب، وتيقّنا أن الله قيَّض لهذا الدين رجالاً حموه وحفظوه وبلّغوه كما سمعوه.
لهذا كان لزامًا علينا أن نسعى جاهدين في تحصيل العلم؛ فالأمر ميسور ولله الحمد، فها هي الكتب متوفرةٌ بأحسن الطبعات، وهاهم العلماء متوافرون في كل بلد، ولم يبقَ منا إلا الطلب فلنحرص على طلبه، ولنُنَشِّئ أبناءنا على ذلك؛ فمن منا لا يحب أن يكون ابنه هو مفتي بلده وعالمها، ألا إن دون ذلك الجد والاجتهاد، ولا يدرك الأمر براحة الجسد ولا بالأماني والغرور.
اللهم هيئ لنا أسباب طلب العلم، وأعنّا على ذلك.
اللهم علمنا ما ينفعنا، اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا..
التعليقات