عناصر الخطبة
1/ الفرق بين العبادات والمعاملات 2/ عدم اهتمام الناس بفقه المعاملات 3/ طائفة من المعاملات المحرَّمة 4/ المضارُّ الناتجة عن كلٍّاهداف الخطبة
اقتباس
أحببت أن أنبه على بعض المعاملات التجارية المحرمة؛ حتى لا يقع فيها المسلم الحريص على دينه ونجاة نفسه من مظالم العباد، وليعلم العباد شرع الله -تعالى- فتقوم عليهم الحجة به، فيعلمه من جهله، فقد انتشرت المعاملات المحرمة بين التجار، وفشت في الأسواق، ووقع الناس فيها، ما بين عالم بحرمتها متهاون فيها، وجاهل بأنها محرمة، وهي أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تحيط بها خطبة الجمعة، ولكن المسلم الحريص على ..
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والشكر له على جزيل فضله وكريم إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اعترافاً بحقه وبجوده وامتنانه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، والمبلِّغ لدينه وقرآنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة، واعتصموا بحبله، واسعَوا إلى مرضاته، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:71-72].
أيها الناس: شرائع الإسلام نوعان: عبادات، ومعاملات؛ فالعبادات هي كل ما يكون بين البعد وربه من صلاة وصوم وزكاة ونذر، وطاعة لأوامره، واجتناب لنواهيه؛ والمعاملات هي ما يكون بين العبد وغيره، مما يتعامل به الناس من معاملات، وأهمها ما يتعامل به الناس في مجال الأموال بالبيع والشراء، والإجارة ونحوها.
والمسلم مطالب بأن تكون عبادته ومعاملاته صحيحة على المنهج الذي أمر الله به، وبينه رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-. ولما كان كثير من الناس يهتم بأمر العبادات ويسأل عنها، ويحرص على معرفة أركانها وشروطها وسننها ومستحباتها، وهذا هو المطلوب من المسلم أن يعبد الله -سبحانه- على بصيرة، وأن يتقرب إليه بما شرعه، وعلى وفق ما أمر به.
لكن الكثير من الناس لا يهتم بجانب المعاملات مع الناس؛ بيعاً وشراءً وإجارة، مع أن البلية بها أعظم، والسلامة من الخطأ فيها أصعب، وهذا سببه جهل الناس بأحكامها، وظنهم أن المحاسبة عليها يسيرة.
أيها المسلمون: إن التعامل مع الناس؛ بيعاً وشراءً ونحو ذلك، أمر خطير وعظيم، ولقد جاء الوعيد الشديد على من غش فيها أو خدع، أو أخذ مال أخيه المسلم بغير حق؛ عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن اقتطع حَقَّ أمرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة". فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك" رواه مسلم.
والله -تعالى- حين يجمع العباد يوم القيامة يقتص بحكمه وعدله لبعضهم من بعض، فلا يدع لصاحب حق حقاً، ولا لمظلوم مظلمة؛ حين يقضي -سبحانه- بين الخلائق، ويؤتي كل إنسان كتاباً لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها.
ومن عظم البلية، وخطر المصيبة أن فئاماً من الناس لا يلقون لجانب المعاملة مع الآخرين بالاً، فربما ترى الرجل كثير الصلاة والصوم، والزهد والعبادة، لكنه إذا باع أو اشترى غش الآخرين وخدَعَهم، وأكل أموالهم بالباطل، بل لربما احتال بأنواع الحيل على ذلك.
لما كان الأمر كذلك -أيها الإخوة- أحببت أن أنبه على بعض المعاملات التجارية المحرمة؛ حتى لا يقع فيها المسلم الحريص على دينه ونجاة نفسه من مظالم العباد، وليعلم العباد شرع الله -تعالى- فتقوم عليهم الحجة به، فيعلمه من جهله، فقد انتشرت المعاملات المحرمة بين التجار، وفشت في الأسواق، ووقع الناس فيها، ما بين عالم بحرمتها متهاون فيها، وجاهل بأنها محرمة، وهي أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تحيط بها خطبة الجمعة، ولكن المسلم الحريص على صيانة ماله من الحرام يتعظ بالقليل، ويسأل عن المشتبه.
وأول هذه المحرمات التي عمت بها أسواقنا، وانتشرت في معاملاتنا: تطفيف الموازين، والتلاعب بالمكاييل، وهذا أمر محرم يجب البعد عنه والحذر منه؛ لأنه من صفات اليهود والنصارى والأمم الكافرة؛ قال الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ) [المطففين:1-6].
وأمر الله -تعالى- بالوفاء بالكيل والوزن؛ لما فيه من تحقيق العدل، وصيانة الحقوق، (وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [الإسراء:35]. (وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ) [الرحمن:9].
والتطفيف في الميزان أمره عظيم؛ لما يؤدي إليه ذلك من الغش والخديعة بين الناس، وأكل المال بغير حقه، فكثير من الباعة إذا اكتال لنفسه وفّاها حقها، وإذا كال لغيره بخس الميزان والمكيال، وأنقصه عن حده، بل إن بعض ضعاف الإيمان لَيُغَيِّرون في وزن العداد أو الميزان؛ ليظهر أن الوزن على حقيقته، وهو على غيرها، كل ذلك طمعاً في الحرام، أعاذنا الله جميعاً منه.
وأكثر ما يقع ذلك عند محلات الذهب والمجوهرات، ففيهم من يبيع بأكثر مما يشترى، ويبيع الذهب المخلوط بالخرز وغيره بسعر الذهب الخالص، ولا يشترى إلا ما كان خالصاً.
وكذا الجزارين الذين يبيع بعضهم اللحم، فيزن معه من العظام والشحم أضعاف ما يزن من اللحم. وغيرهم كثير وكثير.
وجزاء المطففين في المكيال والميزان عظيم عند الله، فقد أهلك الله -تعالى- أمة من الأمم ودمرها وعذبها تعذيباً على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان، وينقصون المكيال، وهم أهل مدين قوم شعيب، وما ينتظرهم في الآخرة أعظم، وما هي من الظالمين ببعيد.
ومن المعاملات المحرمة في البيع والشراء الغشُّ والخديعةُ فيه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر عل صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟! قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني" رواه مسلم.
فهذا الحديث العظيم دليل واضح على تحريم الغش في البيع، وأن من باع سلعة وبها عيب وهو يعلمه، ثم لم يبينه للمشترى، فقد برئت منه ذمة الله، واستحق الخروج عن هدي رسوله الأمين -صلى الله عليه وسلم- والعقاب الأليم من الله -تعالى- يوم الدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع؛ مثل أن يكون ظاهر المبيع خيراً من باطنه، كالذي مر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنكر عليه، ويدخل في الصناعات؛ مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز، والطبخ، والشواء، وغير ذلك؛ أو يصنعون الملبوسات، كالنساجين والخياطين، ونحوهم؛ أو يصنعون غير ذلك من الصناعات، فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان.
ويكثر مثل هذا الذي وقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأيام؛ فما أكثر من يدلس في البيع؛ فيُظهر منه الطيّب، ويخفي باطنه الفاسد عن الناس! لاسيما في محلات الفواكه والخضراوات والتمور، فالله حسيبهم.
ومما يجب على المسلمين من باب النصيحة لإخوانهم، وإبراء الذمةِ أنْ إِذا علِمَ أحدهم عيباً في السلعة ورأي إنساناً يريد شراءها وهو لا يعلم بذلك العيب الذي فيها أن يُبَيِّنَه له، وينبهه عليه، فكثير من الناس لا يهتدون لمعرفه عيوب السلعة، فيمر الشخص فيرى رجلاً غراً يريد شراءها -والعيب فيها- فيسكت عن نصحه حتى يغشه البائع، ويأخذ ماله بالباطل، وما علم ذلك الساكت أنه شريك للبائع في الإثم والحرمة؛ فإن المؤمنين نصَحَه، والمنافقين غشَشَة، والدين النصيحة.
عباد الله: ومما عمت به البلوى في هذه الأيام كثرْةُ الحلف، فتجد البائع يكثر من الحلف، وقد يكون في بعضه كاذباً، لكي ينفق سلعته، وكثير منهم لا يقتصر على ذلك، فيدخل بهذا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"؛ رواه الترمذي، وأبو داود، وأحمد.
وكثيراً ما تكون تلك الأيمان كاذبة غموساً، تغمس صاحبها في الإثم في نار جهنم، عياذاً بالله؛ عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" قال فقرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: "المسبل، والمنان والمُنَفِّق سلعته بالحلف الكاذب" رواه مسلم وغيره.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة" متفق عليه؛ والمعنى: أن البائع إذا حلف على سلعته أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، أو أن فيها كيت وكيت من الصفات، فظنه المشترى صادقاً فيما حلف عليه، فأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كاذب، إنما حلف طمعاً في الزيادة، فيكون بذلك قد عصى الله، وخالف أمره، فيعاقبه الله -تعالى- بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأساً، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذَهاب وعقاب.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إماما، لا يبايعه إلا لدنيا, فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا! فصدقة رجل، ثم قرأ هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنّاً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران:77]" رواه البخاري.
وأعظم من ذلك خطراً، وأشَدُّ إثما، أن يحلف وهو كاذب متعمداً؛ فهذا من علامات النفاق، وقد أخبر المصطفى أن من تحرى الصدق والأمانة كان في زمرة الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قال -صلى الله عليه وسلم-: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" رواه الترمذي وحسنه والدارمي.
أيها المسلمون: ومن المحرمات التي نهى الله -تبارك وتعالى- عنها البيع على البيع، والشراء على الشراء، والسَّوْم على السوم؛ لأن ذلك كله مدعاة إلى التباغض والتحاقد بين المسلمين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يبع بعضُكم على بيع بعضٍ" متفق عليه.
ومثال البيع على البيع: أن يقول لمن اشترى شيئاً ولم يحزه إلى رحله، أو كان ذلك في مدة الخيار التي بينه وبين البائع: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص منه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، فهذا حرام بنص الحديث السابق.
ومثال الشراء على الشراء: أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ هذا البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن الذي بعتَه به.
وأما السوم على السوم: فهو أن يكون مالك السلعة أو صاحبها قد اتفق مع الراغب فيها على البيع، ولم يعقده معه، فيقول الرجل للبائع: أنا أشترى منك السلعة بأغلى مما اشتراها به ذلك الشخص. وهذا حرام بعد استقرار الثمن؛ لما يؤدي إليه من فشوِّ العداوة بين المسلمين، وقطع أرزاق الذين لا يقدرون على الشراء بالغلاء، ووقوع الخصومة والحقد مما قد لا تحمد عقباه، والإسلام حريص على توثيق أواصر الإخاء والمحبة بين المسلمين.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه" رواه مسلم وأهل السنن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا -رحمكم الله- أن من المعاملات التي حرمها الله -تعالى- ونهى عنها البيعُ بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة، وتخلُّف الباعة والمشترين عن الصلاة؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:9-10].
ومع أن هذه الآيات لا يجهلها أحد من المسلمين إلا أن الكثير منهم لا يدرك معناها، ولا يعمل بما فيها، ويجتنب ما نهت عنه.
ويدخل في عموم هذا التحريمِ الشراءُ، والسوْمُ، وسائرُ العقود الأخرى كالإجارة ونحوها في قول كثير من المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وإنما ذكر البيع لأنه الغالب والأكثر.
فتخلُّفُ الباعة عن صلاة الجمعة كثير في هذه الأيام، لاسيما الذين يأتون ببضاعتهم ليبيعوا على أبواب المساجد، فتجد الأمام يخطب على المنبر ويعظ الناس، وهم في الخارج أو على باب المسجد ينادون على بضائعهم ويدللون، وينعقون، وكأنهم ليسو مخاطبين بالصلاة، وبذلك جمعوا بين مصيبتين: اتخاذ المساجد مكانا للتكسب، والبيع بعد نداء الصلاة.
أما اتخاذ المساجد مكاناً للتكسب، بالبيع في فنائها، وداخل أحواشها؛ فهذا محرم، بل لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه مَن رأى إنساناً يبيع في المسجد أن يقول له: لا ربَّحك الله؛ لأن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت للصلاة والعبادة.
أما وقوعهم في البيع بعد النداء للصلاة، وهذا فعل محرم في هذا الوقت، دخلوا به تحت الوعيد الشديد في حق مَنْ تَخَلَّفَ عن صلاة الجمعة؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول على أعواد منبره: "لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عن ودْعهم الجمُعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين" رواه مسلم.
ومن البيوع المنهي عها التي كثرت في هذه الأيام: بيع النَّجش؛ وهو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها؛ ليقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع أحياناً، فيشتركان في الإثم، وقد يقع ذلك بغير علمه، فيختص ذلك بالناجش، وقد يختص به البائع وحده، كمن يخبر اشترى سلعة بأكثر مما اشتراها به ليغري ممن يريد شراءها. قال ابن عمر -رضي الله عنهما- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهي عن النجش. رواه البخاري ومسلم. وقال ابن أبي أوفي -رضي الله عنه-: الناجش آكل رباً خائن. وقال البخاري -رحمه الله-: النجش هو خداع باطل لا يصح.
عباد الله: وما أكثر ما يقع النجش في معارض السيارات، أو أماكن الحراج؛ حين يتفق بعض الناس مع صديقه أو صاحبه ليرفع في ثمن سيارته، وهو لا يريد شراءها حقيقة، وإنما ليرفع ثمنها على المشترين، فيقعان في الحرام، ويبيعان دينهما بعرَض من الدنيا زائل.
ومن البيوع المحرمة -كذلك- بيع الغرر؛ وهو كل بيع احتوى على جهالة، أو تضمن مخاطرةً، أو قماراً، فقد نهي الشارع الحكيم عنه، ومنع منه، حفظاً لحقوق الناس، وصيانة لأموالهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" رواه مسلم وغيره.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرةٌ غير منحصرةٍ؛ كبيع الآبق -العبد المملوك الشارد- والمعدوم، والمجهول، ومالا يقدر على تسليمه، ومالا يتم ملك البائع عليه، وكبيع السمك في الماء، واللبن في الضرع، والحمل في بطن أمه، ونظائر ذلك، وكل هذا بيع باطل لا يجوز؛ لأنه غرر من غير حاجة.
ومن صور الغرر في البيوع -عباد الله-: أن يذهب الإنسان إلى محلات بيع التقسيط، فيتفق معهم على شراء سيارة، أو أجهزة أو نحو ذلك، وهي ليست عندهم، ثم يتعاقدون، ويدفع لهم عُربُوناً، أو قسطاً من الثمن، ثم يذهب صاحب المحل ويشترى السلعة من مكان آخر، ويحضرها للمشترى.
وقد يقع أحياناً أن يذهب المشترى إلى بنك من البنوك الربوية فيتق معه على الشراء، ثم يذهب إلى أحد المعارض أو المحلات التجارية ويشترى سلعته، على أن يدفع البنكُ لهذا المحل القيمة كاملة، في حين يدفعها المشترى للبنك على أقساط شهرية، فكل هذا ونظائره من الغرر والربا المحرَّم الذي لا يجوز؛ لما روى حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندى، أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك" رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وأحمد.
فاتقوا الله عباد الله، وتعلموا أمور دينكم، وكونوا على بصيرة بها تفوزوا وتفلحوا.
اللهم صَلِّ وسَلِّم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
التعليقات