عناصر الخطبة
1/ عوامل صناعة الحدث 2/ نماذج لصناعة الأحداث 3/ تحليل لتلك النماذجاهداف الخطبة
اقتباس
السؤال: هل يمكن أن نتدخل في صناعة الحدث عند الآخرين؟ لنستعرض بعضاً من صور صناعة الحدث، أو التدخل في صناعته عند الآخرين في القديم وفي الحديث، ثم نستخلص من تلك الصور الجواب المطلوب.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: أيها المسلمون، الحياة في جانبها المادي مجموعة من الأحداث التي تصدر لتحقيق غايات أو استجابة لمؤثرات، والحدث لا بد له من ظرف أو وعاء يحدث فيه من الزمان والمكان، والأحداث إنما يصنعها فاعلها لتحقيق مصالح أو أغراض وأهداف، لكنه لا يملك النتيجة، فقد تأتي النتيجة موافقة للغرض الذي من أجله صنع الحدث، وقد تأتي مخالفة، أو تحقق شيئاً وتعجز عن شيء، وهذا -لا شك- من الأقدار التي يقدرها الله بحكمته وعلمه، فكل شيء مخلوق بقدر: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر) [القمر:49].
لكن الله -سبحانه وتعالى- جعل الحياة تمضي وفق نظام، وهو السنن والأسباب التي قدرها لحصول المسببات، فمن اتبع السنن وأخذ بالأسباب أوشك أن يحقق مطلبه إلا أن يشاء الله -تعالى- شيئاً غير ذلك، وهو الحكيم الخبير، وعلى هذا فليس هناك في ميزان الشارع تعارض بين الإيمان بالقدر، وبين اتباع الشريعة والأخذ بالأسباب، فإن القدر والأسباب يسيران في اتجاه واحد ولا يتعاكسان.
السؤال: هل يمكن أن نتدخل في صناعة الحدث عند الآخرين؟ لنستعرض بعضاً من صور صناعة الحدث، أو التدخل في صناعته عند الآخرين في القديم وفي الحديث، ثم نستخلص من تلك الصور الجواب المطلوب.
[من ذلك ما] قص الله علينا في قصة ملكة سبأ، حيث أبلغ الهدهدُ سليمان -عليه السلام- بخبر تلك المرأة التي تعبد هي وقومها الشمس من دون الله -تعالى-، كان الحدث الذي يريده سليمان -عليه السلام- هو هداية تلك المرأة وقومها، وعبادة الله وحده لا شريك له، فماذا فعل -عليه السلام-؟: أرسل لها خطاباً يقول فيه: (أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِين) [النمل:31]، وهذا أمر جازم يصدر إلى ملكة مما يشعرها بمكانة مرسل الخطاب وقوته، إذ لا يجرؤ أن يكلم الملكة بهذه الطريقة إلا من كان أقوى منها، وأعز جانباً.
ورفَض قبول الهدية التي أرسلتها لتختبره، أو في مقابل تركها وما تعبد من دون الله، مما يدل على أنه رجل صاحب رسالة وليس طالب دنيا، وقال للرسول حامل هدية الملكة: (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُون) [النمل:36-37]، ويبدو أن الملكة بعد وصول هذا التهديد الشديد لها استشعرت خطورة القضية، فقررت الذهاب إليه لتستطلع الأمر بنفسها.
أمر سليمان أحد جنوده أن يأتي له بعرشها قبل أن يصلوا إليه، وأمر بتنكير العرش، أي: تغيير وضعه وترتيبه، ثم جاءت فوجدت العرش قد سبقها، وقيل لها: (أَهَكَذَا عَرْشُكِ) [النمل:42]؟ أملاً أن تدرك أن هذا عرشها، رغم هذه التبديلات، فتعلم أن سليمان لم يكن لديه القدرة على إحضاره إلا بعون من الله، فيحملها ذلك على الإيمان، لكنها مع ذلك لم تهتدي.
قيل لها: (ادْخُلِي الصَّرْحَ) [النمل:44]، فلما رأت الصرح حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها لتصون ثيابها من الماء، ولم تكتشف حقيقته، فقيل لها: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِير) [النمل:44]، وإنه لا خوفَ عليها من الماء، عند ذلك أدركت المرأة أن سليمان نبي من عند الله -تعالى-، وأن ما يدعو إليه هو الحق، فآمنت به، واعترفت بأنها كانت ظالمة لنفسها، وقالت، كما في قوله -تعالى-: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا) [النمل:44].
ومن ذلك نجد أن سليمان -عليه السلام- لكي يصنع مع الملكة حدث الإيمان اتبع عدة أساليب: الأمر الجازم الجاد الذي يُشعِر الخصم بقوة خصمه وهيبته، وثقته في نفسه وفي إمكاناته. عدم المساومة على المبدأ، ورفض قبول الهدية التي تكون في مثل هذه المواقف رشوة مقنّعة. تخويفهم بالقوة الشديدة التي لديه، وبتبدل حال النعيم التي هم فيها، وخروجهم عن الأوطان والديار أذلة صاغرين. إظهار المقدرة غير المعتادة التي تدل على الإمكانات الهائلة التي لدى سليمان -عليه السلام- كإحضار العرش قبل وصولها إليه مما يدل على عدم جدوى معاندته أو الوقوف أمامه. إقامة الدليل العقلي بالتجربة العملية على أن العين قد تخطئ في تقدير أقرب الأشياء إليها، فتخطئ في إدراك حقيقة ما تحت أرجلها، مما يدل على خطأ نظرها في عبادة الشمس من دون الله.
ومن كل ذلك تَولّد لدى المرأة اليقين التام بصدق سليمان -عليه السلام-، وأن ما يدعو إليه هو الحق، لذلك أعلنت الإيمان بما جاء به.
وبذلك نقول: إن سليمان -عليه السلام- قد تدخل في صناعة الحدث ليكون على النحو الذي يريد.
والملاحظ أن الحدث الذي كان يريد سليمان -عليه السلام- حصوله هو إيمان الملكة، وهو الانتقال من دينها إلى دين الإسلام، وشأن الانتقال من دين إلى دين آخر شأن ليس بالهين أو اليسير؛ ولذا فإن هذا يحتاج إلى قوة غير عادية لإحداث هذا التغيير، وهذا ما يفسر لهجة الخطاب الأول، كما يفسر لهجة التهديد الشديد بعد ذلك؛ فلعل تلك القوة تحملها على مزيد التفكير الذي يقودها للإيمان، فلما تغير موقفها، ووافقت على الذهاب إلى سليمان -عليه السلام- ظهر من مسلكها نوع من التعقل والانصياع؛ لذا استعمل معها أسلوباً آخر، وهو التعامل مع قدراتها العقلية من خلال تنكير العرش، ومن خلال الصرح الممرد، حتى يتبين لها أن تلك الأفعال ليست في مقدور بشر غير مؤيد من الله.
وأما في الجانب المقابل فإن الملكة في أول أمرها كانت تريد البقاء على دينها، وكانت تريد صرف سليمان -عليه السلام- عنها، ولذا فقد حاولت أن تتدخل في صناعة هذا الحدث عن طريق المؤثرات، فأرسلت إليه بهدية، لكنها أخفقت في تحقيق ذلك لأن ذلك اصطدم بالإيمان، فغلبه الإيمان.
موقف آخر: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى الإسلام، ويحب أن يؤمن الناس جميعهم، بل هذا كان أوْلى شيء عنده؛ لذلك كانت كل تصرفاته على مختلف أنحائها ووجوهها من أجل تحقيق هذا الهدف، ولننظر في قصة ثمامة كيف تحقق هذا الحدث.
نستمع إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول: "بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خيلاً قِبَل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له "ثمامة بن أثال"، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما عندك يا ثمامة؟"، فقال: عندي خير يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتُرك حتى كان الغد، ثم قال له: "ما عندك يا ثمامة؟"، قال: ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟"، فقال: عندي ما قلت لك، قال: "أطلقوا ثمامة!"، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله".
فثمامة هذا سيد قومه، وإسلامه -علاوة على أنه خير له- فيه -أيضاً- قوة للإسلام ومدعاة لإسلام قومه أو أكثرهم؛ فماذا فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليحصل ذلك الحدث؟:
أطلعَ ثمامة على عبادة المسلمين وذلك من خلال ربطه في المسجد، فيرى إقبال المسلمين على الصلاة في خشوع ونظام، ويسمع القرآن الذي جعله الله -تعالى- هداية للقلوب، ويرى أثناء ذلك تعامل المجتمع المسلم من خلال تعامل الصحابة بعضهم مع بعض، ومن خلال تعاملهم مع قائدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو حبسه في بيت من البيوت لما تحقق شيء من ذلك.
بيان أخلاق المسلمين في تعاملهم مع الأسرى وذلك من خلال إطعامه، وإحضار كميات كبيرة له من الطعام، فلم يقوموا بضربه أو تعذيبه إذ لا فائدة هنا ترتجى من وراء ذلك مما يكون له أثر كبير على موقف الرجل من الإسلام.
ما ظهر له من أن المسلمين ليسوا طلاب دنيا، وأنه لا يدعوهم إلى أسْرِه الرغبةُ في جمع المال، فلم يلتفتوا إلى قوله: "إن كنتم تريدون المال أعطيتكم منه ما شئتم".
وقد تبين للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن موقف ثمامة بدأ يتغير وذلك من خلال اختلاف أجوبته، ففي أول مرة قدم التهديد حيث قال: "إن تقتلني تقتل ذا دم"، أي: إن قتلتني فهناك من يأخذ بثأري، لكنه ما عاد يكررها في المرات التالية، وقدم على ذلك مجازاة إحسان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالاعتراف بالجميل والشكر عليه وذلك بقوله: "وإن تُنعم تُنعم على شاكر".
وهنا أطلقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن الخير في إطلاقه على كلا الحالين: فهو إن أسلم فذلك خير كبير، وإن لم يُسلم فسوف يحفظ هذه المنة للمسلمين، كما قال: "إن تُنعم تُنعم على شاكر"، أي: يشكر هذه النعمة ويكافئ عليها، فصار ليس في قتله فائدة، وقد صدق ما توقع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ثمامة، فأعلن إسلامه وشهد شهادة الحق.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: أيها المسلمون: لننتقل إلى العصر الحديث لنرى صناعة حدث فيه: في الخامس من شهر حزيران من عام سبعة وستين وتسعمائة وألف للميلاد، نشبت حرب بين اليهود والعرب انتهت في مدة وجيزة بانتصار ساحق لليهود، حققوا به جزءاً من أحلامهم التي تحدد دولتهم بأنها من النيل إلى الفرات. فكيف حدث ذلك؟.
جرى تسريب خبر مضمونه أن دولة اليهود تحشد جنودها على الحدود السورية، وهي على وشك أن تجتاح هذه البلدة الصغيرة، ومسربو الخبر يريدون إشعال حرب بين العرب واليهود، يظهر فيها العرب على أنهم البادئون في الوقت الذي تنتهي فيه هذه الحرب بفوز اليهود.
وانطلاقاً من دراسة الواقع فقد جرى تسريب ذلك الخبر، ففي الجانب المقابل الزعيم العربي الذي ملأ بضجيجه دنيا العرب بالآمال العريضة، فقد كانوا يعلمون شخصيته المحبة للظهور بمظهر البطولة المفتونة بالعظمة وبإعلائه لوثن القومية، وأن خبراً مثل هذا سوف يدعوه لإظهار خصائص شخصيته، وسوف يتصرف تصرفات هوجاء لا تقوم على أية حسابات، وإن كان لا يريد حقيقتها وإنما للاستهلاك المحلي، ويقوم اليهود في الطرف المقابل باستغلال تلك التهويشات بشن الحرب الخاطفة التي تكون في نظر العالم يومئذ حرباً دفاعية وليست عدوانية.
وقد قامت الحرب بالفعل بعد أيام قليلة، وهُزم الجيش المصري هزيمة نكراء، وكسب اليهود فوزاً ساحقاً رخيصاً لم يكلفهم ثمناً يذكر، وصارت هذه الحرب هي الطريق إلى إذلال العرب حتى اليوم.
وقد تحقق الحدث على الصورة التي أراد له المصممون، وقد تم ذلك من خلال: المعرفة الجيدة بشخصية زعيم القومية في ذلك الوقت. والمعرفة بضعف إمكانات الجيش، وعدم قدرته على خوض معركة لم يجهز أو يعد لها. والدعاية بأن اليهود في موقع الدفاع أمام طوفان العرب الذي سوف يلقي بهم في البحر كما يصرح بذلك زعيم القومية. واستعداد اليهود لهذه الحرب والتخطيط لها منذ أمد، فالحرب لم تفرض عليهم، ولم يخوضوها رغماً عنهم، بل هم في الحقيقة الذين فرضوها.
ولم يبق بعد ذلك إلا صناعة الحدث الذي تتوالى بعده الأحداث، ولم يستطع زعيم القومية العربية أن يصنع شيئاً بتهديداته؛ لأنها كانت بلا رصيد، وكان الطرف المقابل يدرك ذلك جيداً.
اللهم...
التعليقات