عناصر الخطبة
1/خَلْق الله المحكَم للكون وما فيه 2/رعاية الله وعنايته لكل ما في الكون 3/مهمة الرسل لإصلاح الأرض بالطاعات 4/العاصون والظالمون يعتدون على الكون ويفسدونه 5/ذكر الله يزيد الحسنات ويكفر السيئاتاقتباس
وإذ قد خلَق اللهُ هذا الكونَ في كماله وجَماله وفي وفائه التامّ بمقوِّمات الحياة كلها، لكلِّ مَنْ على الأرض، وفي كثرة منافعه، وتنوُّعِها وفي تسخير الأسباب لبقاء الحياة ورُقِيِّها، أخبَرَنا ربُّنا -عز وجل- بأنَّه لم يَخلُق هذا الكونَ عبثًا، ولم يتركه سُدًى، ولم يَجعله مُهمَلًا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ الأرضِ والسماواتِ، رفيعِ الدرجاتِ، أمَر بالطاعات لِمَا فيها من الخير والبركات، ونهى عن المحرَّمات لِمَا فيها من الشؤم والشرور والهلكات، أحمَدُ ربِّي وأشكره على نعمه التي لا يحصيها إلا هو، ما عَلِمْنا منها وما لم نعلم، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تفرَّد بالأسماء الحسنى وأكمل الصفات، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، خير الخلق، المؤيَّد بالمعجزات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه السابقين إلى الخيرات.
أما بعدُ: فاتقوا الله بالتقرب إليه بما يرضيه، وهَجْر ما يُغضِبه ويؤذيه، فما أحسن عاقبةَ المتقينَ، وما أسوأَ عاقبةَ العصاة المفسدينَ، فكونوا ممَّن سلَك سبيلَ النجاةِ، ولا تكونوا ممن سلك سبيل العصاة، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)[النِّسَاءِ: 69-70]، وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[الْجِنِّ: 23].
أيها المسلمون: إنَّ اللهَ خلَق هذا الكونَ وأودَع فيه كلَّ ما يحتاجه المكلَّفون من أرزاق ومتاع ورياش وزينة، ومال ودوابّ وغير ذلك، وذلَّل هذا الكونَ وسخَّرَه كلَّه لمصالح الخَلْق، ومنافعهم، وقيام حياتهم إلى أجَل مسمًّى عندَ اللهِ لا يَعدُوه، قال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الْمُلْكِ: 15]، وقال تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)[الْأَحْقَافِ: 3]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[النَّحْلِ: 5-8]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 13]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)[النَّحْلِ: 72]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34].
وإذ قد خلَق اللهُ هذا الكونَ في كماله وجَماله وفي وفائه التامّ بمقوِّمات الحياة كلها، لكلِّ مَنْ على الأرض، وفي كثرة منافعه، وتنوُّعِها وفي تسخير الأسباب لبقاء الحياة ورُقِيِّها، أخبَرَنا ربُّنا -عز وجل- بأنَّه لم يَخلُق هذا الكونَ عبثًا، ولم يتركه سُدًى، ولم يَجعله مُهمَلًا، قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 16-18]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 17]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)[ص: 27]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[الْمُؤْمِنَونَ: 115-116]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرَّعْدِ: 2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هُودٍ: 6]، وقال عز وجل: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[سَبَأٍ: 3]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)[آلِ عِمْرَانَ: 145]، ولم يكل الله الخلق إلى غيره، بل خلق هذا الكون المشاهد للحق؛ وهو التوحيد، والطاعات كلها والصلاح والإصلاح للأرض، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 21-22]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذَّارِيَاتِ: 56-58].
وقد أرسَل اللهُ الرسلَ -وآخِرُهم سيدُهم محمد صلى الله عليه وسلم، وَصَلَّى وسلَّم عليهم-؛ لإصلاح الأرض بالطاعات، وتطهيرها من الشرك والموبقات، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النَّحْلِ: 36]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)[الْأَعْرَافِ: 56]، أي: بعد إصلاح الرسل لها بالكتب المنزلة، وقد أمَر اللهُ -سبحانه- المرسَلِينَ -عليهم الصلاة والسلام- بالتمتُّع بما أحل الله في الحياة من الطيبات، وأن يداوموا على الطاعات، التي لا تصلح الأرض إلَّا بها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[الْمُؤْمِنَونَ: 51]، وأتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام هم المؤمنون المأمورون بالاقتداء بهم، في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 172]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الْأَعْرَافِ: 32]، فالرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم المؤمنون جعلوا هذا الكون مكانًا وزمانًا للصالحات، والإصلاح، ففازوا بالخيرات والجنات، والأعمال الصالحات تعود كلها إلى نَفْع النفس ونَفْع الخَلْق بالقيام بأركان الإسلام، وبقية الطاعات تابعة لهذه الأركان.
أيها المسلمُ: لا تحقرنَّ من الطاعات شيئًا، فلا تدري أيَّ عمل تَدخُل به الجنةَ، وتنجو به من النار، عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق"(رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له"(رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن امرأةً بغيًّا رأَتْ كلبًا في يوم يطيف ببئر أدلَع لسانَه من العطش، فنزعت له خُفَّها، وملأَتْه ماءً، فشرب، فغُفر لها، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 40]، فالمؤمنون اتخذوا هذا الكون زمانًا ومكانًا للطاعات، وأمَّا من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وكفَر فاتخذ هذا الكون مكانًا وزمانًا للشهوات المحرمات، والمتع الزائلة، واقترف السيئات، وأعظم السيئات الشرك بالله، بأن يتخذ العبد مخلوقًا يدعوه ويرجوه، ويتوكل عليه ويستعين به، ويستغيث به، ويرفع إليه المطالِبَ والحاجاتِ، ويرغب إليه في الرزق والنصر، ويهتف به في كشف الشدائد والكربات، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله -سبحانه-، إلا بالتوبة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا)[النِّسَاءِ: 116]، وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[الْمَائِدَةِ: 72]، وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- مرفوعًا قال الله: "إني والإنس والجن في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي"(رواه الطبراني في مسند الشاميين والحاكم في التاريخ والبيهقي في الشُّعَب).
وتأتي كبائر الذنوب في عِظَم الإجرام بعد الشرك، بحسب مفسدة الذنب، وكل معصية ظلَم بها العبدُ نفسَه بينَه وبينَ الله وتاب منها غفرها الله له، أما المظالم بين العباد، فلا يغفرها الله حتى يعطي المظلوم حقه، يوم لا درهم ولا دينار، وإنَّما هي الحسنات، يعطى المظلوم مِنْ حسنات مَنْ ظلَمَه، فإن فنيَتْ حسناتُه أُخِذَ من سيئات المظلوم فطُرحت على مَنْ ظلَم، ثم طُرِحَ في النار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كانت عندَه مظلمةٌ لأخيه مِنْ عِرضِه أو شيء منه، فليحلله منه اليومَ مِنْ قبل ألَّا يكون دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقَدْر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيِّئات صاحبه فحُمل عليه"(رواه مسلم والترمذي)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها يومَ القيامة حتى يُقاد للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء، التي نطحتها"(رواه مسلم).
ولو سَلِمَ أحدٌ من استيفاء الحقوق في المظالم لَسَلِمَ المؤمنون الأبرارُ من استيفاء حقوق المظالم بينَهم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخلص المؤمنون من النار، بعد عبورهم الصراط، فيُحبَسون على قنطرة بين الجنة والنار، ويُقتَصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت لهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده لَأحدُهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا"(رواه البخاري).
أيها المسلمُ: إياكَ والذنوبَ، وإن كانت في عينك صغيرةً، فإن لها من الله طالبًا، عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّة ربطتها، فلم تُطعِمْها، ولم تَدَعْها تأكلُ من خشاش الأرض"(رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكم ومحقَّرات الذنوب، فإنهن يجتمعنَ على الرجل حتى يُهلِكْنَهُ، قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الزُّمَرِ: 53-55].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، ونفَعَنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قُولِي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، وليِّ المتقينَ، الغنيّ عن خَلقِه، لا تنفعه طاعةُ الطائعينَ، ولا تضرُّه معصيةُ العاصينَ، أحمد ربي وأشكُرُه على نعمه التي لا يحصيها غيرُه، ما عَلِمْنا منها وما لم نعلم، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعدُ: فاتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: إنَّ ممَّا يُكفِّر السيئاتِ، ويزيد في الحسنات، ويُزكِّي الأعمالَ الصالحاتِ، ويَجبُر النقصَ في القُرُبات، ويَطرُد الشياطينَ، ذِكرَ اللهِ -عز وجل- في كل حال، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42]، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فقال: إن شرائع الإسلام قد كَثُرت عليَّ، فبابٌ نتمسَّكُ به جامع. قال: لا يزال لسانُكَ رطبًا من ذِكر الله"(رواه أحمد والترمذي)، وفي الحديث: "كفى بالموت واعظًا"، فتذكر الموت يحيي القلوب، ويزجر عن الذنوب، ويزهد في الدنيا، والغفلة عن الموت تُميت القلبَ، وتُكثِر الذنب.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عَشْرًا"، فصلُّوا وسلِّمُوا على سيِّد الأولينَ والآخِرينَ وإمامِ المرسلينَ، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، اللهم وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم وصلِّ وسلِّم عليهم وعلى التابعين ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معَهم، اللهم وارضَ عن الصحابة وارض عن التابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، يا ربَّ العالمينَ، اللهم وارضَ عنَّا معهم بِمَنِّكَ وكرمِكَ ورحمتِكَ، يا أرحم الراحمين، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، إلى يوم الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين، إنَّكَ على كل شيء قديرٌ، اللهم أبطل خطط أعداء الإسلام التي يكيدون بها للإسلام، يا ربَّ العالمينَ، اللهم أَبطِلْ خُططَهم، اللهم أَبطِلْ مَكرَهم الذي يمكرون به لكيد الإسلام يا ربَّ العالمينَ، إنَّكَ على كل شيء قديرٌ، اللهم أذل البدع، التي تضاد دينك، الذي ارتضيته لنفسك، وارتضيته لنبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وارتضيتَه للمسلمين، يا ربَّ العالمينَ، اللهم فرق جمع البدع إلى يوم الدين يا ربَّ العالمينَ، اللهم اجعلنا من المتمسكين بسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبدينه الذي ارتضيته لنفسك يا ربَّ العالمينَ، حتى نلقاك وأنت راض عَنَّا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنَّا نسألكَ فِعْلَ الخيراتِ وتَرْكَ المنكَراتِ، اللهم استعملنا في طاعاتك، وجنبنا معاصيك يا ربَّ العالمينَ، اللهم فرج أمر كل مؤمن ومؤمنة، اللهم فرج كربات المسلمين، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، اللهم اقضِ الدَّيْنَ عن المدينين من المسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّة نبيِّكَ يا قوي يا عزيز يا حكيم، إنَّكَ على كل شيء قديرٌ، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، يا ربَّ العالمينَ، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعذنا وأَعِذْ ذرياتِنا من إبليس وذريته وشياطينه وأوليائه يا ربَّ العالمينَ، إنَّكَ على كل شيء قديرٌ.
اللهم أَعِذْنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، اللهم أغثنا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن رحمتك، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا ربَّ العالمينَ.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ، وأَعِنْهُ على كل خير يا ربَّ العالمينَ، اللهم وارزقه الصحة إنَّكَ على كل شيء قديرٌ، اللهم وفِّق وليَّ عهده لما تحب وترضى، ولِمَا فيه عزُّ الإسلام والمسلمين، اللهم أَعِنْهُ على كلِّ خيرٍ يا ربَّ العالمينَ، اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه، اللهم احفظ المملكة العربيَّة السعوديَّة من كل شر ومكروه يا ربَّ العالمينَ، اللهم احفظ بلادنا من شر الأشرار، ومن كيد الفجار، ومن مكر الكفار يا ربَّ العالمينَ.
اللهم تقبَّل منا إنكَ أنتَ السميع العليم، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم ثبِّت قلوبَنا على طاعتك يا ربَّ العالمينَ، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبِسًا علينا، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، يا أرحم الراحمين، نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل.
عبادَ اللهِ: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات