اقتباس
وقال أبو العباس في موضع آخر: يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية، ويحتمل أن تلزم الجمعة مسافراً له القصر تبعاً للمقيمين، وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب، واثنان يستمعان. وهو إحدى الروايات عن أحمد[88]، وقول طائفة من العلماء.
قوله: (ولا تجب على مسافر سفر قصر، ولا عبد، ولا امرأة، ومن حضرها منهم أجزأته، ولم تنعقد به، ولم يصح أن يَؤُمَّ فيها لئلا يصير التابع متبوعاً...) إلى آخره[1].
قال في "الإفصاح": "واتفقوا على وجوب الجمعة على أهل الأمصار[2]، ثم اختلفوا في الخارج عن المصر إذا سمع النداء:
فقال أبو حنيفة[3]: لا تجب عليه.
وقال مالك[4] والشافعي[5] وأحمد[6]: تجب عليه.
وحده مالك[7] وأحمد[8] بفرسخ.
وأطلقه الشافعي[9].
وحده أبو حنيفة[10] بثلاثة فراسخ.
واختلفوا في أهل القرى:
فقال أبو حنيفة[11]: لا تجب عليهم.
وقال مالك[12] والشافعي[13] (وأحمد[14]): تجب عليهم إذا بلغوا عدداً تصح به الجمعة.
ثم اختلفوا في العدد:
فقال أبو حنيفة[15]: تنعقد بثلاثة سوى الإمام.
وقال مالك[16]: تنعقد بكل عدد تقرى به قرية في العادة، ويمكنهم الإقامة، ويكون بينهم الشراء والبيع من غير حظر، إلا أنه منع ذلك في الثلاثة والأربعة وشِبههم.
وقال الشافعي[17]: تنعقد بأربعين وهو المشهور عن أحمد[18] من رواياته، وعنه[19]: تنعقد بخمسين، وهذا العدد يعتبر فيه صفات، وهو أن يكونوا بالغين، عقلاء، مستوطنين، أحراراً.
واختلفوا: هل تنعقد الجمعة بالعبيد والمسافرين؟
فقال أبو حنيفة[20] ومالك[21]: تنعقد بهم وتجزئهم.
وقال الشافعي[22] وأحمد[23]: لا تنعقد بهم ولا تجزئهم.
واختلفوا: هل يجوز أن يكون المسافر أو العبد إماماً في الجمعة؟
فقال أبو حنيفة[24] والشافعي[25]، ومالك[26] في رواية أشهب: يجوز.
وقال مالك[27] في رواية ابن القاسم، وأحمد[28] – في روايته التي يقول فيها لا تجب الجمعة على العبد –: لا يجوز"[29].
وقال ابن رشد:
"وأما شروط الجمعة فاتفقوا[30] على أنها شروط الصلاة المفروضة بعينها ما عدا الوقت والأذان، فإنهم اختلفوا فيهما، وكذلك اختلفوا في شروطها المختصة بها.
أما الوقت: فإن الجمهور[31] على أن وقتها وقت الظهر بعينه...
إلى أن قال: وأما شروط الوجوب والصحة المختصة بيوم الجمعة، فاتفق الكل[32] على أن من شرطها الجماعة.
واختلفوا في مقدار الجماعة:
فمنهم من قال: واحد مع الإمام، وهو الطبري.
ومنهم من قال (153أ): اثنان سوى الإمام.
ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام. وهو قول أبي حنيفة[33].
ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي[34] وأحمد[35].
وقال قوم: ثلاثين.
ومنهم من لم يشترط عدداً، ولكن رأى أنه يجوز بما دون الأربعين، ولا يجوز بالثلاثة والأربعة. وهو مذهب مالك[36] وحدَّهم بأنهم الذين يمكن أن تتقرَّى بهم قرية.
وسبب اختلافهم في هذا: اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع، هل ذلك ثلاثة أو أربعة أو اثنان؟ وهل الإمام بداخل فيهم أم ليس بداخلٍ فيهم؟ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع، أو ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال؟ وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة.
فمن ذهب إلى أن الشرط في ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع، وكان عنده أن (أقل) ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان، فإن كان ممن يعد الإمام في الجمع المشترط في ذلك، قال: تقوم الجمعة باثنين: الإمام وواحد ثانٍ.
وإن كان ممن لا يرى أن يعد الإمام في الجمع قال: تقوم باثنين سوى الإمام.
ومن كان أيضاً عنده أن أقل الجمع ثلاثة، فإن كان لا يعد الإمام في جملتهم، قال بثلاثة سوى الإمام. وإن كان ممن يعد الإمام في جملتهم، وافق قول من قال: أقل الجمع اثنان، ولم يعد الإمام في جملتهم.
وأما من راعى ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم الجمع، قال: لا تنعقد بالاثنين ولا بالأربعة. ولم يحد في ذلك حداً، ولما كان من شرط الجمعة الاستيطان عنده حد هذا الجمع بالقدر من الناس الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس. وهو مالك رحمه الله[37].
وأما من اشترط الأربعين؛ فمصيراً إلى ما روي أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، فهذا هو أحد شروط صلاة الجمعة، أعني: شروط الوجوب وشروط الصحة، فإن من الشروط ما هو شروط وجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين جميعاً، أعني: أنها شروط وجوب وشروط صحة.
وأما الشرط الثاني: وهو الاستيطان:
فإن فقهاء الأمصار اتفقوا عليه؛ لاتفاقهم على أن الجمعة لا تجب على مسافر[38].
وخالف في ذلك أهل الظاهر[39]؛ لإيجابهم الجمعة على المسافر.
واشترط أبو حنيفة[40] المِصر والسُّلطان مع هذا، ولم يشترط العدد.
وسبب اختلافهم في هذا الباب: هو الاحتمال المتطرق إلى الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم (153ب) هل هي شرط في صحتها، أو وجوبها، أم ليست بشرط؟ وذلك أنه لم يصلها صلى الله عليه وسلم إلا في جماعة ومصرٍ ومسجد جامعٍ.
فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء بصلاته مما يوجب كونها شرطاً في صلاة الجمعة اشترطها، ومن رأى بعضها دون بعض؛ اشترط ذلك البعض دون غيره كاشتراط مالك[41] المسجد، وتركه اشتراط المصر والسلطان.
ومن هذا الوضع اختلفوا في مسائل كثيرة من هذا الباب، مثل: اختلافهم: هل تقام جمعتان في مصر واحد، أو لا تقام؟
والسبب في اختلافهم في اشتراط الأحوال والأفعال المقترنة بها: هو كون بعض تلك الأحوال أشد مناسبة لأفعال الصلاة من بعض؛ ولذلك اتفقوا على اشتراط الجماعة[42] إذ كان معلوماً من الشرع أنها حال من الأحوال الموجودة في الصلاة.
ولم ير مالك[43] المصر ولا السلطان شرطاً في ذلك؛ لكونه غير مناسب لأحوال الصلاة، ورأى المسجد شرطاً؛ لكونه أقرب مناسبة، حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه: هو من شرط المسجد السقف أم لا؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا؟
وهذا كله لعلَّهُ تعمُّق في هذا الباب! ودينُ الله يُسرٌ.
ولقائل أن يقول: إن هذه لو كانت شروطاً في صحة الصلاة؛ لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام، ولا أن يترك بيانها؛ لقوله تعالى: ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) [النحل:44]، ولقوله تعالى: ( لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) [النحل:64]، والله المرشد للصواب"[44].
قال البخاري: "باب: الجمعة في القرى والمدن، حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي جمرة الضبعي، عن ابن عباس أنه قال: إن أول جمعة جُمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجُواثى من البحرين[45].
حدثنا بشر بن محمد قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا يونس عن الزهري قال: أخبرنا سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ).
وزاد الليث: قال يونس: كتب رُزَيق بن حُكَيم إلى ابن شهاب - وأنا معه يومئدٍ بوادي القرى - هل ترى أن أجمع؟ ورُزيق عامل على أرض يعملها، وفيها (154أ) جماعة من السودان وغيرهم، ورزيق يومئذٍ على أيلة، فكتب ابن شهاب - وأنا أسمع - يأمره أن يجمع يخبره: أن سالماً حدَّثه: أن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته). قال: وحسبت أن قد قال: (والرجل راعٍ في مال أبيه ومسؤولٌ عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته)[46]".
قال الحافظ:
"قوله: (باب: الجمعة في القرى والمدن) في هذه الترجمة إشارة إلى خلاف من خص الجمعة بالمدن دون القرى، وهو مروي عن الحنفية[47]، وأسنده ابن أبي شيبة، عن حذيفة وعلي وغيرهما[48]، وعن عمر أنه كتب إلى أهل البحرين: أن جمِّعوا حيثما كنتم، وهذا يشمل المدن والقرى. أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة، عن عمر[49]، وصححه ابن خزيمة.
وروى البيهقي من طريق الوليد بن مسلم: سألت الليث بن سعد، فقال: كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما، وفيهما رجال من الصحابة[50].
وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون، فلا يعيب عليهم[51].
فلما اختلف الصحابة وجب الرجوع إلى المرفوع.
قوله: (إن أول جمعة جُمعت) زاد وكيع، عن ابن طَهمان: (في الإسلام)، أخرجه أبو داود[52].
قوله: (بعد جمعة) زاد المصنف في أواخر المغازي: (جُمعت) قوله: (في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية وكيع (بالمدينة)، قوله: (بجواثى من البحرين) في رواية وكيع: (قرية من قرى البحرين)، وفي أخرى عنه (من قرى عبد القيس)، وبه يتم مراد الترجمة، ووجه الدلالة منه أن الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي؛ ولأنه لو كان ذلك لا يجوز؛ لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبو سعيد على جواز العزل بأنهم فعلوه (154ب) والقرآن ينزل، فلم ينهوا عنه[53].
قوله: (وكتب رُزيق بن حُكيم) هو بتقديم الراء على الزاي، والتصغير في اسمه واسم أبيه... إلى أن قال: قال الزين بن المنيّر: في هذه القصة إيماء إلى أن الجمعة تنعقد بغير إذن السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم، وفيه إقامة الجمعة في القرى خلافاً لمن شرط لها المدن"[54].
وقال البخاري أيضاً: "باب: من أين تؤتى الجمعة؟ وعلى من تجب؟ لقول الله سبحانه وتعالى: ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) [الجمعة:9].
وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعة فنُودي بالصلاة من يوم الجمعة؛ فحق عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه.
وكان أنس رضي الله عنه في قصره أحياناً يجمع، وأحياناً لا يجمع، وهو بالزاوية على فرسخين.
وذكر حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغُبار، يصيبهم الغُبار والعَرَق، فيخرج منهم العَرَق، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانٌ منهم – وهو عندي – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا)[55]".
قال الحافظ:
"قوله: (باب: من أين تؤتى الجمعة؟ وعلى من تجب؟ لقول الله تعالى: ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) [الجمعة:9] يعني: أن الآية ليست صريحة في وجوب بيان الحكم المذكور، فلذلك أتى في الترجمة بصيغة الاستفهام، والذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على من سمع النداء، أو كان في قوة السامع، سواء كان داخل البلد أو خارجه، ومحله كما صرح به الشافعي[56] ما إذا كان المنادي صيِّتاً والأصوات هادئة، والرجل سميعاً.
وفي "السنن" لأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (إنما الجمعة على من سمع النداء) [57].
وقال: إنه اختُلف في رفعه ووقفه، وأخرجه الدارقطني من وجه آخر عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً[58].
ويؤيده: قوله صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم: (أتسمعُ النداء؟) قال: نعم. قال: (فأجِبْ)[59] (155أ).
وقد تقدم في صلاة الجماعة ذكر من احتج به على وجوبها فيكون في الجمعة أولى؛ لثبوت الأمر بالسعي إليها.
وأما حديث (الجمعة على من آواه الليل إلى أهله) فأخرجه الترمذي[60]، ونقل عن أحمد أنه لم يره شيئاً، وقال لمن ذكره له: استغفر ربك. وقد تقدم قبل باب من قول ابن عمر نحوه.
والمعنى أنها تجب على من يمكنه الرجوع إلى أهله قبل دخول الليل.
واستشكل: بأنه يلزم منه أنه يجب السعي من أول النهار، وهو بخلاف الآية.
قوله: (وقال عطاء...) إلى آخره، وصله عبد الرزاق، عن ابن جريج عنه[61].
قوله: (سمعت النداء أو لم تسمعه) يعني: إذا كنت داخل البلد، وبهذا صرح أحمد.
ونقل النووي أنه لا خلاف فيه[62].
وزاد عبد الرزاق في هذا الأثر عن ابن جريج أيضاً: قلت لعطاء: ما القرية الجامعة؟ قال: ذات الجماعة والأمير والقاضي والدور المجتمعة الآخذ بعضها ببعض، مثل: جدة[63].
قوله: (وكان أنس...) إلى قوله: (لا يجمع) وصله مسدد في "مسنده الكبير" عن أبي عوانة، عن حميد بهذا، وقوله: (يجمع) أي: يصلي بمن معه الجمعة، أو يشهد الجمعة بجامع البصرة.
قوله: (وهو) أي: القصر، و(الزاوية) موضع ظاهر البصرة معروف كانت فيه وقعة كبيرة بين الحجاج وابن الأشعث.
قال أبو عبيد البكري: هو بكسر الواو، موضع دان من البصرة.
وقوله: (على فرسخين) أي: من البصرة، وهذا وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر: عن أنس أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية، وهي على فرسخين من البصرة[64].
وهذا يردُّ على من زعم أن "الزاوية" موضع بالمدينة النبوية، كان فيه قصر لأنس على فرسخين منها، ويرجح الاحتمال الثاني.
وعُرف بهذا أن التعليق المذكور ملفَّق من أثرين، ولا يعارض ذلك ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، قال: كان أنس يكون في أرضه وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال، فيشهد الجمعة بالبصرة[65]؛ لكون الثلاثة أميال فرسخاً واحداً؛ لأنه يجمع بأن (155ب) الأرض المذكورة غير القصر، وبأن أنساً كان يرى التجميع حتماً إن كان على فرسخ[66]، ولا يراه حتماً إذا كان أكثر من ذلك. ولهذا لم يقع في رواية ثابت التخيير الذي في رواية حميد.
قوله: (ينتابون الجمعة) أي: يحضرونها نوباً، والانتياب افتعال من النوبة. وفي رواية (يتناوبون).
قوله: (والعوالي) تقدم تفسيرها في المواقيت، وأنها على أربعة أميال فصاعداً من المدينة... إلى أن قال: وقال القرطبي[67]: فيه ردٌّ على الكوفيين[68] حيث لم يوجبوا الجمعة على من كان خارج المصر.
كذا قال! وفيه نظر؛ لأنه لو كان واجباً على أهل العوالي ما تناوبوا ولكانوا يحضرون جميعاً، والله أعلم"[69].
وقال البخاري أيضاً: "باب: إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، فصلاة الإمام ومن بقي جائزة.
حدثنا معاوية بن عمرو قال: حدثنا زائدة، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد قال: حدثنا جابر بن عبد الله قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً؛ فنزلت هذه الآية: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ) [الجمعة:11]"[70].
قال الحافظ: "قوله: (باب: إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة...) إلى آخره.
ظاهر الترجمة أن استمرار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة إلى تمامها ليس بشرط في صحتها؛ بل الشرط أن تبقى منهم بقيَّةٌ ما، ولم يتعرَّض البخاري لعدد من تكون بهم الجمعة؛ لأنه لم يثبت منه شيء على شرطه، وجملة ما للعلماء فيه خمسة عشر قولاً:
أحدها: تصح من الواحد. نقله ابن حزم[71].
الثاني: اثنان كالجماعة. وهو قول النخعي وأهل الظاهر والحسن بن حي[72].
الثالث: اثنان مع الإمام عند أبي يوسف ومحمد[73].
الرابع: ثلاثة معه عند أبي حنيفة[74].
الخامس: سبعة عند عكرمة.
السادس: تسعة عند ربيعة.
السابع: اثنا عشر عنه في رواية.
الثامن: مثله غير الإمام عند إسحاق.
التاسع: عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك.
العاشر: ثلاثون كذلك[75].
الحادي عشر: أربعون بالإمام عند الشافعي[76].
الثاني عشر: غير الإمام عنه[77]، وبه قال عمر (156أ) بن عبد العزيز وطائفة.
الثالث عشر: خمسون عند أحمد[78] في رواية، وحُكي عن عمر بن عبد العزيز.
الرابع عشر: ثمانون، حكاه المازَري[79].
الخامس عشر: جمعٌ كثيرٌ بغير قيدٍ.
لعل هذا الأخير أرجحُها من حيث الدليل، ويمكن أن يزداد العدد باعتبار زيادة شرط كالذكورة والحرية والبلوغ والإقامة والاستيطان، فيكمل بذلك عشرون قولاً.
قوله: (بينما نحن نصلي) وعند مسلم من رواية عبد الله بن إدريس عن حسين: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب)[80].
فعلى هذا فقوله: (نصلي) أي: ننتظر الصلاة، (وقوله: (في الصلاة) أي: في الخطبة مثلاً، وهو من تسمية الشيء بما قاربه) فبهذا يجمع بين الروايتين.
قوله: (فالتفتوا إليها) في رواية ابن فضيل في البيوع (فانفض الناس)[81]...
إلى أن قال: واستدل به على جواز انعقاد الجمعة باثني عشر نفساً، وهو قول ربيعة، ويجيء أيضاً على قول مالك[82]، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر دل على أنه كافٍ.
وتعقب: بأنه تمادى حتى عادوا، أو عاد من تجزئ بهم إذ لم يرد في الخبر أنه أتم الصلاة، ويحتمل أيضاً أن يكون أتمها ظهراً، وأيضاً فقد فرَّق كثير من العلماء بين الابتداء والدوام في هذا، فقيل: إذا انعقدت لم يضر ما طرأ بعد ذلك ولو بقي الإمام وحده، وقيل: يشترط بقاء واحد معه. وقيل: اثنين، وقيل: يفرق بين ما إذا انفضوا بعد تمام الركعة الأولى، فلا يضر بخلاف ما قبل ذلك.
وإلى ظاهر هذا الحديث صار إسحاق بن راهويه، فقال: إذا تفرقوا بعد الانعقاد فيشترط بقاء اثني عشر رجلاً.
وتعقِّب: بأنها واقعة عين لا عموم فيها، وقد تقدم أن ظاهر ترجمة البخاري تقتضي ألا يتقيد الجمع الذي يبقى مع الإمام بعدد معين، وتقدم ترجيح كون الانفضاض وقع في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة، تحسيناً للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون في الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهي كآية ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) [محمد: 33]، وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة.
وقول المصنف في الترجمة: (فصلاة الإمام ومن بقي جائزة). يؤخذ منه أن يرى أن الجميع لو انفضوا في الركعة الأولى، ولم يبق إلا الإمام وحده؛ أنه لا تصح له الجمعة، وهو كذلك عند الجمهور كما تقدم قريباً. وقيل: تصح إن بقي واحد. وقيل: إن بقي اثنان (156ب) وقيل: ثلاثة. وقيل: إن كان صلى بهم الركعة الأولى صحت لمن بقي، وقيل: يُتمُّها ظهراً مطلقاً. وهذا الخلاف كله أقوال مخرجة في مذهب الشافعي[83] إلا الأخير؛ فهو قوله في الجديد.
وإن ثبت قول مقاتل بن حيان الذي أخرجه أبو داود في "المراسيل"[84] أن الصلاة كانت حينئذٍ قبل الخطبة زال الإشكال، لكنه مع شذوذه معضل، وقد استشكل الأصيلي حديث الباب، فقال: إن الله تعالى قد وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله، ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث كان قبل نزول الآية.
قال الحافظ:
وهذا الذي يتعين المصير إليه، مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة، وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه، فوصفوا بعد ذلك بما في آية النور، والله أعلم"[85].
وقال في "الاختيارات": "وتجب الجمعة على من أقام في غير بناء كالخيام وبيوت الشَّعر ونحوها، وهو أحد قولي الشافعي[86]، وحكاه الأزجي رواية عن أحمد، (ونقل أبو النصر العجلي عن أحمد[87]): ليس على أهل البادية جمعة؛ لأنهم ينتقلون. فأسقطها عنهم، وعلل بأنهم غير مستوطنين.
وقال أبو العباس في موضع آخر: يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية، ويحتمل أن تلزم الجمعة مسافراً له القصر تبعاً للمقيمين، وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب، واثنان يستمعان. وهو إحدى الروايات عن أحمد[88]، وقول طائفة من العلماء.
وقد يقال بوجوبها على الأربعين؛ لأنه لم يثبت وجوبها على من دونهم، وتصح ممن دونهم؛ لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين كالمريض بخلاف المسافر، فإن فرضه ركعتان"[89].
وقال الشيخ ابن سعدي:
"سؤال: ما هي السور والآيات المخصوصة المشروعة قراءتها في الصلاة؟
الجواب: يشرع قراءة: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) [الكافرون:1]، بعد الفاتحة في الركعة الأولى، وفي الثانية: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) [الإخلاص:1]، في سُنَّة الفجر، وكذا المغرب، وآخر الوتر، وسنة الطواف.
ويشرع أيضاً في ركعتي الفجر في الركعة الأولى بعد الفاتحة ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ).. إلى آخر الآية [البقرة:136]، وفي الثانية: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ )... الآية [آل عمران:64].
ويسن أن يقرأ في فجر الجمعة: ( الم * تَنزِيلُ )... [السجدة]، وفي الثانية: ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ )... [الإنسان].
وفي صلاة الجمعة: سبح والغاشية، أو سورة الجمعة والمنافقين.
وفي العيدين: بـ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) [ق] أو بسبح والغاشية.
فهذه الصلوات التي خصصت فيها هذه السور والآيات؛ لحكم لا تخفى على من تدبرها مع جواز قراءة غيرها"[90](157أ).
-------
المصادر:
[1] الروض المربع ص121.
[2] الإجماع 55. وفتح القدير 1/408-409، وحاشية ابن عابدين 2/162. والشرح الصغير 1/176، وحاشية الدسوقي 1/373. وتحفة المحتاج 2/413، ونهاية المحتاج 2/289. وشرح منتهى الإرادات 2/6-7، وكشاف القناع 3/323.
[3] فتح القدير 1/410، والمفتى به عند الحنفية أن المنفصل عن المصر إن كان يسمع النداء تجب عليه الجعة، انظر حاشية ابن عابدين 2/162.
[4] الشرح الصغير 1/177، وحاشية الدسوقي 1/373.
[5] تحفة المحتاج 2/425، ونهاية المحتاج 2/289-290.
[6] كشاف القناع 3/324، الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 5/166.
[7] الشرح الصغير 1/177، وحاشية الدسوقي 1/373.
[8] كشاف القناع 3/324، وشرح منتهى الإرادات 2/8.
[9] تحفة المحتاج 2/414-415، ونهاية المحتاج 2/290.
[10] فتح القدير 1/411، بدائع الصنائع 1/260.
[11] بدائع الصنائع 1/259.
[12] الشرح الصغير 1/177-178، وحاشية الدسوقي 1/377.
[13] تحفة المحتاج 2/413، ونهاية المحتاج 2/289.
[14] كشاف القناع 3/334، وشرح منتهى الإرادات 2/12-13.
[15] فتح القدير 1/415، وحاشية ابن عابدين 2/160.
[16] الشرح الصغير 1/177، وحاشية الدسوقي 1/376.
[17] تحفة المحتاج 2/413، نهاية المحتاج 2/289.
[18] كشاف القناع 3/338، شرح منتهى الإرادات 2/12-13.
[19] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 5/199.
[20] فتح القدير 1/417، حاشية ابن عابدين 2/165.
[21] الشرح الصغير 1/177، حاشية الدسوقي 1/377.
[22] تحفة المحتاج 2/433-434، نهاية المحتاج 284-285.
[23] كشاف القناع 3/326، شرح منتهى الإرادات 2/8.
[24] فتح القدير 1/417، حاشية ابن عابدين 2/165.
[25] تحفة المحتاج 2/443، نهاية المحتاج 2/310.
[26] المنتقى شرح الموطأ 1/198.
[27] المدونة 1/85، المنتقى 1/198.
[28] كشاف القناع 3/327، شرح منتهى الإرادات 2/9.
[29] الإفصاح 1/233-241.
[30] فتح القدير 1/408، حاشية ابن عابدين 2/145. الشرح الصغير 1/176، حاشية الدسوقي 1/379-380, تحفة المحتاج 2/406-407، نهاية المحتاج 2/284. شرح منتهى الإرادات 2/6، كشاف القناع 3/322-323.
[31] فتح القدير 1/412-413، حاشية ابن عابدين 2/156. الشرح الصغير 1/178، حاشية الدسوقي 1/372. تحفة المحتاج 2/419، نهاية المحتاج 2/295. شرح منتهى الإرادات 2/11-12، كشاف القناع 3/332-333.
[32] فتح القدير 1/415، حاشية ابن عابدين 2/160. الشرح الصغير 1/177، حاشية الدسوقي 1/376. تحفة المحتاج 2/413، نهاية المحتاج 2/289. شرح منتهى الإرادات 2/12-13، كشاف القناع 3/338-339.
[33] فتح القدير 1/415، حاشية ابن عابدين 2/160.
[34] تحفة المحتاج 2/413، نهاية المحتاج 2/289.
[35] كشاف القناع 3/338، شرح منتهى الإرادات 2/12-13.
[36] الشرح الصغير 1/177، حاشية الدسوقي 1/376.
[37] الشرح الصغير 1/177، حاشية الدسوقي 1/376.
[38] الإجماع 55. وفتح القدير 1/408-409، حاشية ابن عابدين 2/162. الشرح الصغير 1/177، حاشية الدسوقي 1/373. تحفة المحتاج 2/413، نهاية المحتاج 2/284. شرح منتهى الإرادات 2/12-13، كشاف القناع 3/335-336.
[39] المحلى 3/252.
[40] فتح القدير 1/408-410، حاشية ابن عابدين 2/162.
[41] الشرح الصغير 1/178، حاشية الدسوقي 1/374.
[42] فتح القدير 1/415، حاشية ابن عابدين 2/160، الشرح الصغير 1/177، حاشية الدسوقي 1/376، تحفة المحتاج 2/413، نهاية المحتاج 2/289، شرح منتهى الإرادات 2/12-13، كشاف القناع 3/338-339.
[43] الشرح الصغير 1/177-178، حاشية الدسوقي 1/374-376.
[44] بداية المجتهد 1/145-147.
[46] البخاري 893. وأخرجه أيضاً مسلم 1829.
[47] بدائع الصنائع 1/259.
[48] ابن أبي شيبة 2/100-101.
[49] ابن أبي شيبة 2/101، عن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كتبت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسأله عن الجمعة بالبحرين، فكتب إليَّ: أن اجمعوا حيثما كنتم.
قال الإمام أحمد كما في فتح الباري لابن رجب 5/389: إسناده جيد.
[50] البيهقي 3/178.
[52] 1068
[53] أخرجه البخاري 5207، ومسلم 1439.
[54] فتح الباري 2/380-381.
[55] البخاري 902.
[56] تحفة المحتاج 2/414، والمجموع 4/353، ونهاية المحتاج 2/289-290.
[57] أبو داود 1058، عن محمد بن يحيى بن فارس، نا قبيصة، ثنا سفيان، عن محمد بن سعيد الطائفي، عن أبي سلمة بن نبيه، عن عبد الله بن هارون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، مرفوعاً.
قال ابن الملقن في البدر المنير 4/642: حديث ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن في إسناده جماعات تُكلم فيهم بسبب جهالة العين والحال والضعف.
ثانيهما: قال أبو داود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة. وقال عبد الحق: روي موقوفاً وهو الصحيح.
[58] الدارقطني 2/6.
[59] مسلم 653، ولفظه: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى؛ فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد..." الحديث. ولم يصرح باسم الرجل الأعمى.
[60] 501-502.
[61] عبد الرزاق 3/170 5187.
[63] عبد الرزاق 3/168-169 5179.
[64] ابن أبي شيبة 1/440.
[65] عبد الرزاق 3/163 5158.
[66] في الأصل: "فرسخين"، والمثبت من الفتح، وهو الصواب.
[67] المفهم 2/482.
[68] فتح القدير 1/408-410، وحاشية ابن عابدين 2/162.
[69] فتح الباري 2/385-386.
[70] البخاري 936. وأخرجه أيضاً مسلم 863.
[71] المحلى 3/248 522.
[72] المحلى 3/248 522.
[73] فتح القدير 1/416.
[74] فتح القدير 1/415، وحاشية ابن عابدين 2/160.
[75] مواهب الجليل 2/163.
[76] تحفة المحتاج 2/413، ونهاية المحتاج 2/289.
[77] أي: أربعون غير الإمام، فيصيرون مع الإمام واحداً وأربعين، انظر: تحفة المحتاج 2/433.
[78] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 5/199.
[79] فتح الباري 2/423.
[80] مسلم 863.
[81] البخاري 2064.
[82] الشرح الصغير 1/178، حاشية الدسوقي 1/377.
[83] المجموع 4/273-274.
[84] ص105 62.
[85] فتح الباري 2/422-425.
[86] تحفة المحتاج 2/425.
[87] الفروع 2/89.
[88] الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 5/199.
[89] الاختيارات الفقهية ص79.
[90] الإرشاد ص454-455.
التعليقات