عناصر الخطبة
1/ظهور الفتن بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- 2/ظهور القصاصين وتحذير السلف منهم 3/تكرار حادثة القصاصين في هذا العصر تحت مسميات مختلفة 4/استهداف الأعداء للأمة في دينها وتاريخِها ولغتهااقتباس
بَعدَ مَقتلِ عُثمانَ -رَضِيَ اللهُ عنه- ظَهَرَتْ الفِتنُ، ومِنْ رَحِمِ الفِتنِ تُولَدُ المِحَنُ، ظَهَرَتْ فِئةٌ غَريبةٌ على أَهلِ الإسلامِ، وهُم القَصَّاصُونَ الذينَ يَقُصُّونَ على النَّاسِ القَصصَ وأَحداثَ الأممِ والتَّاريخِ، ويَأتونَ بما يُضحِكُ النَّاسَ من الطَّرائفِ
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
بَعدَ مَقتلِ عُثمانَ -رَضِيَ اللهُ عنه- ظَهَرَتْ الفِتنُ، ومِنْ رَحِمِ الفِتنِ تُولَدُ المِحَنُ، ظَهَرَتْ فِئةٌ غَريبةٌ على أَهلِ الإسلامِ، وهُم القَصَّاصُونَ الذينَ يَقُصُّونَ على النَّاسِ القَصصَ وأَحداثَ الأممِ والتَّاريخِ، ويَأتونَ بما يُضحِكُ النَّاسَ من الطَّرائفِ والنَّوادرِ، فيَكسِبونَ الشُّهرةَ، ويجمعونَ المالَ من الحُضورِ، فبدأَ يجتمعُ عليهم النَّاسُ في المَساجدِ، والنِّساءُ والأطفالُ في الطُّرقاتِ، ولأجلِ المُحافظةِ على مَصدرِ رزقِهم وجَذبِ انتباهِ السَّامعينَ، بدأوا يَخْلِطونَ الصَّحيحَ بالضَّعيفِ، والغَثَّ بالسَّمينِ، والطَّالحَ بالصَّالحِ، والحَقيقةَ بالكَذبِ، فكذبوا في الأحاديثِ، وألَّفوا القَصصَ الخَياليةَ، وزَيَّفوا الحَقائقَ التاريخيةَ، ولذلكَ حَذَّرَ السَّلفُ مِنهم.
فها هو عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنه- يُخرِجُ القَصَّاصينَ من جَامعِ البَصرةِ، ورأى عبدُاللهِ بنُ عُمرٍ -رضيَ اللهُ عَنهُما- قَاصَّاً يَقُصُّ في المَسجدِ، فَوَجَّهَ لصَاحبِ الشُّرطةِ: أَنْ أَخرِجْهُ من المَسجدِ، فَأخرجَهُ.
واليومَ نرى حَادثةَ القَصَّاصينَ تتَكررُ ولكن على نِطاقٍ أَكبرُ، وتتَغيَّرُ المُسميَّاتُ ويَبقى المعنى والمضمونُ والأثرُ، فيأتي من يُطلقُ على نَفسِه بأنَّه: صانعُ مُحتوى، وهو خَالٍ من المُحتوى، فكيفَ لمَنْ لا يَملكُ شيئاً أن يُطفأَ ظَمأَ المَشاهدينَ، فَهلْ لكوبٍ فَارغٍ من المَاءِ، أن يسقيَ عَطشاناً؟، هَكذا هُم صُنَّاعِ المُحتوى الفارغينَ، الذينَ لا هَمَّ لهم إلا تكثيرَ المُتابعينَ، فبالأمسِ كلمةٌ مُفيدةٌ، واليومَ قِصَّةٌ جَديدةٌ، وفي الغَدِ وقد انتهى المَحتوى الضَّحلُ المُتواضعُ، والمتابعونَ ينتظرونَ طَلَّةَ النَّجمِ السَّاطعِ، فماذا عسى أن يُبدعَ المَشهورُ في جديدِ المَقاطعِ؟
هُنا تَبدأُ كَشفُ العوراتِ الحِسيَّةِ والفِكريَّةِ، للمُحافظةِ على الشَّعبيَّةِ الجماهيرِيةِ: ما رأيُّكم بجاهلٍ في الدِّينِ والتَّاريخِ والآدَابِ يَفتحُ كلَّ المواضيعِ باباً خلفَ بابٍ لا هَمَّ لأكثِرهم إلا جَمعَ المالِ والشُّهرةَ العَريضةَ، ولو كانَ على حِسابِ الأخلاقِ والفَضيلةِ، يُصوِّرُ كلَّ شيءٍ، وفي كلِّ وقتٍ، لا يمنعُه وازعُ الدِّينِ والحَياءِ، قد أَعمَى عينَه بريقُ الأضواءُ، ولا مانعَ من رؤيةِ المتابعينَ لبعضِ الأسرارِ، وحبذا بعضُ الكَذبِ لجَذبِ الأنظارِ، ويُظهرُ للنَّاسِ أنَّه أَسعدُ النَّاسِ، وفي حقيقتِه أنَّه أَشقى النَّاسِ، والمُصيبةُ إذا كانَ المُستهدفُ هم شبابُنا وفَتياتُنا، فَتصلُ المَعلومةُ دُونَ تَحليلٍ إلى العُقولِ، صحيحةً كانتْ أو خُرافةً من مجهولٍ، فأيُّ قِيمٍ تُبنى بِها أرواحُ الأجيالِ، وأيُّ حَضارةٍ نَبحثُ عنها بينَ الأطلالِ؟
قَالَ ابنُ كَثيرٍ -رَحمَهُ اللهُ- في تَفسيرِ قولِهِ تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ)[الجاثية: 27] قَدِمَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْمَدِينَةَ، فَسَمِعَ الْمُعَافِرِيَّ يَتَكَلَّمُ بِبَعْضِ مَا يُضْحَكُ بِهِ النَّاسَ -وفَرقٌ بينَ من يُضحكُ النَّاسَ ومَن يُسعِدُهم-، فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ لِلَّهِ يَوْمًا يَخْسَرُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ؟ قَالَ: فَمَا زَالَتْ تُعْرَفُ فِي الْمُعَافِرِيِّ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فكانَ لهذِه الكلماتِ أثرٌ في تَغييرِ حياتِهِ حتى ماتَ -رحِمَهم اللهُ تعالى-.
أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم فَاستغفروهُ إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ذِي العِزةِ والجَبروتِ، والكبرياءِ والملكوتِ، إلى الإسلامِ هَدانا، ومن فَضلِه أعطانا، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلمَاً، وأَشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِه وأصحابِه وسَلمَ تَسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: إذا أردتَ أن تعرفَ مُستقبلَ بَلَدٍ مِن البُلدانِ، فانظرْ إلى مَشاهيرِها الذي يُشارُ إليهم بالبَنَانِ، هل هم علماءُ الدِّينِ والطِّبِ والهّندسةِ والإبداعِ في كلِّ المجالاتِ، أم هم الفارغونَ والفارغاتُ والسَّاقطونَ والسَّاقطاتُ؟، ولذلكَ يجبُ منعُ من يُضيَّعُ ثَمينَ أوقاتِنا، ويُفسدُ عُقولَ أبنائنا وبناتِنا، في تَاريخِ ابنِ جَريرٍ رحمَهُ اللهُ، وفي حَوادثِ سَنةِ 279 للهجرةِ: نَوديَ في بَغدادٍ: "ألاَّ يَقعدُ على الطَّريقِ ولا في المَسجدِ الجَامعِ قاصٌّ، ونُهيَ النَّاسُ عن الاجتماعِ إلى القُصَّاصِ"، وهكذا تُحفظُ أوقاتُ وعُقولُ النَّاسِ.
أيُّها الأحبةُ: الأمَّةُ مُستَهدفةٌ في أغلى ما تملكُ، في دِينِها، وفي تاريخِها، وفي لُغتِها، وفي بلادِها، وفي ولاتِها، وفي علمائها، وفي نسائها، وفي أبنائها وبناتِها، فنحتاجُ إلى تَوعيةٍ بمصادرِ الأخطارِ، ونُريدُ تَوضيحاً لمكائدِ الفُجَّارِ، ونتمنى تَذكيراً بعداوةِ الكُّفارِ، نَطمحُ أن يأتي مَن يُحيي في قُلوبِنا تُراثَنا الأصيلَ، ويُحدِّثُنا عن تاريخِنا الجَليلِ، ويبعثُ في نفوسِنا الأملَ الجميلَ، ويُذكِّرُنا بوَعدِ اللهِ لنَّا بالتَّبديلِ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور: 55].
اللهمَّ أَصلِحْ أَحوالَنا وأَحوالَ المسلمينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ رُدَّنا إلى دِينِنا رَدًّا جَميلاً.
اللهمَّ وَفِّقنا لطَاعتِكَ والعَملِ بشَريعتِكَ.
اللهمَّ من أَرادَنا وأَرادَ دينَنا وشبابَنا ونساءَنا بسوءٍ فاخزِه في هذه الدُّنيا قَبلَ الآخرةِ، اللهمَّ اجعلْ عملَه في بَوارٍ، اللهمَّ أرِنا فِيهِ عَجائبَ قُدرتِكَ، اللهمَّ من أَرادَ ثَوابتَ دينِنا وقِيَمَنا بسُوءٍ فَأشغلْهُ في نَفسِه، اللهمَّ اجعله عِبرةً للمُعتبِرينَ، اللهمَّ اجعله للمسلمينَ آيةً وعِبرةً، ورُدَّ كَيدَه في نَحرِه.
اللهمَّ مُنَّ على شَبابِنا بالطَّاعةِ والتَّقوى والتربيةِ الصَّالحةِ، ومُنَّ على نِساءِ المسلمينَ بالتَّقوى والعِفَّةِ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ جنِّبهُنَّ أَسبابَ الشُّرورِ والفُجورِ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أمرِنا لما تُحبُّ وتَرضى، واجعلهم حِصناً حَصيناً لأحكامِ الإسلامِ يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ اغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ.
عِبادَ اللهِ: اذكروا اللهَ ذِكراً كَثيراً، وسَبحوهُ بُكرةً وأَصيلاً، وآخرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ.
التعليقات