عناصر الخطبة
1/فضل الله ومنته في موسم الحج وشرف المكان 2/بعض الأعمال الفاضلة في عشر ذي الحجة 3/لبيت الله محبة وشوق في قلوب المؤمنين 4/التأمل في مشهد الحجيج المهيب 5/بعض دلائل عظمة وقدسية عشر ذي الحجة 6/مظاهر تقوى القلوب في الحجاقتباس
حجُّ القلبِ يبدأ قبل حج البدن، وحجُّ البدن تبعٌ لِحَجِّ القلبِ، فالإخلاصُ من أعمال القلوب، والحجُّ يكون خالصًا من الرياء والسمعة، فالحاجُّ يستشعر عندَ قوله: "لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ" أن اتجاهه وقصده إلى الله وإخلاصه له وأعمال القلوب تتصل بكل شعيرة من شعائر الحج والعمرة في محبة الله والشوق إليه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، خصَّ بعضَ الأيام بالفضل وجعَلَها مواسمَ، ورتَّب على التزود فيها عظيم الأجور والمغانم، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملك العلَّام، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أفضل مَنْ صلَّى وصام، وحجَّ بيتَ الله الحرام، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، الأئمة الأعلَّام، ومَنِ اقتفى أثرَه، وسلَك نهجَه، وبلَغ المرامَ.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، وحاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعرضكم على ربكم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].
أيها المسلمون: ما أعظمَ منةَ الله على مَنْ أسلَم وجهَه لله، واتَّبَع هداه، وعَمِلَ برضاه، فالله قد شرَع لنا ما فيه صلاحنا، وما هو خير لنا، وما تستقيم به أحوالنا، وما يكون في امتثاله قربة ومثوبة، وزاد من التقوى يدخر لنا، فإذا كان ذلك كذلك فاستشعِروا فيه -إخوةَ الإيمان- ما أنتم فيه من فيض الكريم المنَّان، فها هو ذا موسم الحج العظيم، يجتمع فيه فضل الزمان وعظمته، وشرف المكان وقدسيته، وها هي عشر ذي الحجة، أفضل أيام الدنيا، وقد قال عنها -صلى الله عليه وسلم-: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرَج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء"(رواه البخاري).
والأفضل في أيام هذه العشر الإكثارُ من التعبُّد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، وهذه العشر موسم مشترك بين الحاج وغيره، قال ابن رجب -رحمه الله-: "فمن عجَز عن الحج في عام قدَر في العشر على عمل في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج"، فهَلُمُّوا -أرشَدَني اللهُ وإيَّاكم- لِنُكثِرْ فيها من ذِكْرِه ودعائه، ونلهج بتمجيده والثناء عليه وشكر نعمائه، فإن هذا مما يزيد في الإيمان واليقين، ويُعين على الثبات على الدِّين، وعلينا في هذه الأيام الفاضلة أن نبذل وسعَنا، ونستفرغ غايةَ جهدنا، ونعمل كلَّ ما نستطيع من أعمال صالحة، من صلاة وصيام، وصدقة وإطعام، وأضحية وقراءة للقرآن، وتعلُّم للعِلْم النافع، وتدبُّر وتفكُّر، وذِكْر ودعاء، واستغفار وتوبة، ودعوة إلى الله، ونصيحة وتوجيه وإرشاد، وإصلاح بين الناس، وشفاعة حسنة، وتفريج كربة، وإغاثة ملهوف، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وبِر وَالِدَيْنِ، وصلة رحم، وحفظ للسان والفرج، وغض للبصر عن المحارم، وجميع أبواب الخير، وصنائع المعروف، وأنواع البر والإحسان، وفي المقابل نحذر كل الحذر من المعاصي واللهو، والغفلة عن اغتنام مواسم الخير والفضل، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إثم المعصية في الأيام المباركة فقال -رحمه الله-: "المعاصي في هذه الأيام المفضَّلة، والأمكنة المفضَّلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان".
عبادَ اللهِ: وها هي ذي مكة المعظَّمة، أحبُّ البلاد إلى الله، فيها البيت الحرام، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 96]، ولهذا البيت محبة وشوق، وليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار، ولحرمة المسجد الحرام وعظمته جعَل اللهُ مجردَ إرادة الظلم والإلحاد فيه موجبًا للعذاب، قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الْحَجِّ: 25]، قال ابن مسعود -رضي الله عنه- في هذه الآية: "لو أن رجلًا أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بعدن أبين أذاقه الله من العذاب الأليم"؛ فعلينا أن نخشى غضب الله وعقوبته، ونستشعر مكانة البيت وحرمته، ونحذر اقتراف الإثم وعاقبته، فالمعصية في البلد الحرام أعظم إثما وعقوبة، وممَّا يراعى في تعظيم البلد الحرام امتثال ما جاء في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن هذا البلد حرَّمه الله لا يُعضَض شوكُه، ولا يُنفَّر صيدُه، ولا يَلتِقط لُقَطتَه إلا مَنْ عرَّفَها".
أيها المسلمون: وها هم وفد الله من الحجاج والعمار يؤمُّون البيتَ الحرامَ استجابةً لأمر الله وطلبًا لمرضاة الله، قد أتوا من كل فج عميق، (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الْحَجِّ: 28]، ليأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير، ويقضوا مناسكهم، ويُوفوا نذورهم، ويطوفوا بالبيت العتيق، يعظمون حرمات الله، تلهج ألسنتهم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم بالتلبية والتكبير والدعاء، يجتنبون الرجس كله، وقول الزور، لا يشركون بربهم شيئًا، تحقيقًا لكلمة التوحيد؛ لا إله إلا الله، فلا ذبح ولا نذر، ولا دعاء ولا استغاثة ولا طلب للمدد، إلا من الله، ولا صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، فغايتهم في الحج تعظيم الله، والإقرار بوحدانيته ونعمه، وتعظيم حرماته وشعائره، ولسان حالهم:
إلهنا ما أعدَلَك *** مليك كل من ملك
لَبَّيْكَ قد لبيت لك *** لَبَّيْكَ إن الحمد لك
والملك لا شريك لك *** ما خاب عبد سألك
أنتَ له حيث سلَكَ *** لولاك يا رب هلك
لَبَّيْكَ إن الحمد لك *** والملك لا شريك لك
كلُّ نبي ومَلَك *** وكل من أهَلَّ لك
وكل عبد سألك *** سبح أو لبَّى فلَكْ
لَبَّيْكَ إن الحمد لك *** والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك *** والسابحات في الفلك
على مجاري المنسَلَك
لَبَّيْكَ إن الحمد لك *** والملك لا شريك لك
اعمل وبادر أجلك *** واختم بخير عملك
لَبَّيْكَ إن الحمد لك *** والملك لا شريك لك
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)[الرُّومِ: 26].
نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قُولِي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خشَعَت له القلوبُ وخضعت، وعَنَت له الوجوهُ وذلَّت، وَصَلَّى الله على سيدنا محمد، قدوة مَنْ وجلت قلوبُهم من خشية الله وأخبَتَتْ، وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، ما أشرقت شمسُ النهارِ وغرَبَت، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: ولمكانة هذه الأيام العظام فقد أقسم بها الملك العلام؛ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن الفجر والليالي العشر زمن يتضمن أفعالًا معظَّمةً من المناسك، وأمكنةً معظَّمةً وهي محلُّها، وذلك من شعائر الله، المتضمنة خضوع العبد لربه، فإن الحج والنسك عبودية محضة لله، وذل وخضوع لعظمته، وذلك ضد ما وصف به عادًا وثمود وفرعون، من العتو والتكبر والتجبر، فإن النسك يتضمن غاية الخضوع لله، وهؤلاء الأمم عتوًّا وتكبروا عن أمر الله" انتهى كلامه -رحمه الله-.
وممَّا يحسن ذكره أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها أو يصغر بحسب ما في القلوب، وما في القلوب يتفاضل، لا يَعرِف مقاديرَ ما في القلوب من الإيمان إلا الله، وتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ: 32]، فالمعظِّم لها يُبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله، والحاج يمر بالمشاعر والمواقيت بقلبه؛ شوقًا ومحبةً وتعظيمًا ورغبةً، قبل أن يمر بها بدنه؛ لأنَّه يعلم أن القلب هو محط نظر الرب، ومناط التكليف، ومنبع العمل، ومحركه وأساسه، وحجّ القلب يبدأ قبل حج البدن، وحج البدن تبع لِحَجِّ القلبِ، فالإخلاصُ من أعمال القلوب، والحجُّ يكون خالصًا من الرياء والسمعة، فالحاجُّ يستشعر عندَ قوله: "لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ" أن اتجاهه وقصده إلى الله وإخلاصه له وأعمال القلوب تتصل بكل شعيرة من شعائر الحج والعمرة في محبة الله والشوق إليه، وتعظيمه وإجلاله والخضوع له، والتسليم والصبر واليقين، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وغيرها من أعمال القلوب، فمتى حصل إخلال أو تقصير في ذلك ضعف أثر المناسك في النفس، ونقص الأجر، وأصبح الحج مجرد أعمال جوفاء خاوية، لا روح فيها.
والمتأملُ في آيات الحج يجد أن أغلبها قد قُرنت بأعمال القلوب، كما يعد الحج من أكثر العبادات التي يظهر فيها شعائر الله -تعالى-، لما فيها من وقوف بعرفة، ورمي للجمرات، وذبح للهَدْي، ومبيت في منى ومزدلفة، وإذا ما تساءلنا عبادَ اللهِ: كيف تكون تقوى القلوب بتعظيم الله في مناسك الحج؟ فالجواب: تكون بسعي الحاج في أن يكون حجه مبرورًا، فيُقبِل على الله، ويُكثِر من ذِكْره في استكانة وخضوع، ويلتزم هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج، ويؤدِّي المناسك على الوجه المطلوب، ويتحرَّى النفقةَ الطيبةَ والمالَ الحلالَ، ويتحلَّى بحُسن الخُلُق، ويجتنِب أفعالَ الإثم؛ فيترك الجدالَ والخلافَ والخصومةَ، والشتمَ والأذى، والتدافُع والتزاحم في المشاعر وعند الطواف، ويحرص على محبة الخير لإخوانه، ونفعهم وخدمتهم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله على نبيكم استجابة لأمر ربكم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آله إبراهيم، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة والتابعين، ومَنْ تَبِعهم بإحسانٍ، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا منان.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرْ أعداءَكَ أعداءَ الدين، اللهم واحفظ بلاد الحرمين، من شر الأشرار، وأذية الفجار، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومن كل متربص وحاسد وحاقد، وعدو للإسلام والمسلمين.
اللهم واجعلها آمنةً مطمئنةً، رخاءً وسعةً، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عَنَّا الغلاء والوباء والأدواء، والربا والزنا والزلازل، والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم كُنْ لإخواننا المستضعَفين والمجاهِدينَ في سبيلك، والمرابطينَ على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كُنْ لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا ربَّ العالمينَ.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير مبدلين ولا مغيرين، وغير خزايا ولا مفتونين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
التعليقات