عناصر الخطبة
1/كثرة نعم الله الظاهرة والباطنة 2/شكر النعم سبيل الحفاظ عليها 3/نعم الأمن والاستقرار في بلاد الحرمين 4/وجوب شكر الله تعالى على نعمه 5/الحذر من التفرق والاختلاف.

اقتباس

وفي ظِلِّ مَا يَمرُ بِهِ عالمُنَا اليومَ مِنِ أحداثٍ متسارعَةٍ وتقلُبَاتٍ متتابعةٍ، وثوراتٍ يُرادُ بِهَا الكيدُ للإسلامِ والمسلمينِ، وتفريقُ جمَاعتِهِم؛ يتأكدُ الحفاظُ عَلى وحدةِ الصفِّ، والرَدُّ إلى الكتابِ والسُنَّةِ....

الخطبةُ الأولَى:

 

الْحَمْدُ للهِ؛ خَلَقَ فسوَّى، وقدَّرَ فَهَدَى، أحمدُهُ وأشكُرُهُ عَلى نِعَمِهِ التي لا تُحْصَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ العَليُّ الأعْلى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، مَا ينْطِقُ عَنْ الهَوَى، إِنْ هَوَ إلا وَحيٌ يُوحَى، صلَّى اللهُ وسلَم وبارَكَ عليهِ وعَلى آلِهِ وأصحَابِهِ، السائرينَ عَلى دَرْبِ الفَلَاح والهُدَى، وَسَلَّمَ تَسْليمًا كَثِيراً.

 

أمَّا بَعدُ: فاتَّقوا اللَّهَ -مَعَاشِرَ المُؤمِنينَ-، واعْلَمُوا أنَّ نِعَمَ اللهِ الظَاهرةِ والباطنةِ عَلى عَبَادِهِ كثيرةٌ لا تُحصَى، وَكثرَةٌ كاثِرَةٌ لا تُستقْصَى؛ قالَ -تعالى-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[النحل: 18]؛ فهوَ -سبحانه- (غَفُورٌ) لتقصِيرِ العِبادِ في شُكرِ نِعَمهِ، وَ(رَحِيمٌ) بِهِم؛ حيثُ وَسَّعَ عَليهِم النِّعَمَ، ولمْ يَقْطعهَا عنْهُم بِالتقصِيرِ، ويرضى مِنهُم باليسيرِ مِنَ الشُكِرِ مَعَ إنعَامِهِ الكثيرِ.

 

فوظيفةُ العبادِ أنْ يقومُوا بشكْرِ المُنعِمِ، وَمحبتِهِ، والخُضوعِ لَهُ، وصرفِ النِّعَمِ فِي الاستعانةِ على طَاعَتِهِ؛ (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 1-4].

 

ونِعَمُ اللهِ -تعالى- تُقابَلُ بِالشْكرِ؛ فإنَّ النِّعَمَ بشكْرِهَا تَقِرُ وبكفرِهَا تفِرُّ، ومِنْ شُكرِ النِعمِ استشعَارُهَا، والتحدثُ بِها، والحرصُ عَلى استدامَتِهَا؛ قالَ -تعالى- عَنْ إبرَاهيمَ -عليهِ السلامُ-: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إبراهيم: 35]، ويَقولُ -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67].

 

 وقدْ كَانَ مِنْ دُعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ"(رَوَاهُ مُسْلِم).

 

وكَانَ السلفُ يُسمونَ الشُكرَ بالحَافِظِ والجَالِبِ؛ أيْ: أنَّهُ طريقٌ لحفظِ النعمِ الموجودَةِ، ووسيلةٌ لجَلبِ النِعَمِ المفقودَةِ؛ ولهَذَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]؛ فالشكرُ عُنوانُ الحِفظِ والزيادةِ، وسببُ رضَى الربِ -جلَ جلالُهُ-: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)[الزمر: 7]؛ أي: يُحِبُّهُ منكُم ويَزدكُم مِنْ فَضْلِهِ.

 

وَمِنْ شُكرِ النِّعَمِ: تركُ الذنوبِ والمعَاصِي، فإنَّهَا سَبَبٌ فِي زوالِهَا، ومَا أذنَبَ عَبْدٌ ذنبًا إلا زَالَتْ عَنهُ نِعِمةٌ بِحَسَبِ ذلكَ الذنبِ، قالَ ابنُ القيمِ: "المعاصِي نارُ النِّعَمِ تأكلُهَا كمَا تأكُلُ النارُ الحَطَبَ".

 

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ

وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ *** فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ

 

وهذا خَاتمُ النبيينَ وإمامُ الشاكِرينَ مُحمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، كَانَ يُصلِّي مِنَ الليلِ حتى تتفطَّرَ قدَمَاهُ، فتقولُ لهُ عائشة: تصنعُ هَذا وَقدْ غُفِرَ لكَ مَا تقدمَ مِنْ ذنبكَ ومَا تأخرَ؟ فيقولُ: "أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

ألا وإنَّ مِنْ أعظمِ النِّعمِ الواجبِ شُكرهَا: نعمةُ هذا البلدِ المباركِ الذي أقسمَ اللهُ -تعالى- بِهِ؛ فقال: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ)[التين: 3]، وهيَ: مكةُ، مَحِلُّ نُبوةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَسمَاهُ أمِينًا؛ لأنَّه حَرمٌ آمنٌ، يَأمنُ فيهِ الناسُ فِي الجاهليةِ والإسلامِ.

 

بلدُ المَسْجِدَينِ العَظيمينِ، والمدينتينِ المُقدَستينِ -شَرّفَهُمَا الله- ومَهْبِطُ الوَحْي، ومنبَعُ الرسالة، وقِبلةُ المسلمينَ، ومهوَى أفئدتِهِم، رايتُهَا كُلمةُ التوحيدِ، ودُستورُهَا القُرآنُ، وقيَامُهَا قِيامٌ للعَالَمينَ؛ قَالَ -تعالى-: (جَعَلَ اللهُ الكَعبَةَ البَيتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)[المائدة: 97].

 

 ومِنْ شُكْرِ هذِهِ النِعْمَةِ: تحقيقُ الولاءِ لبلدِ الحرمينِ الشرِيفينِ ومحبتُهُا، وَبَذلُ الغَالي وَالنفيسِ دُونهَا، فقدْ كَانَ حُبُّ مَكةَ -شرَّفَهَا اللهُ- في سُويدَاءِ قلبِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إذْ قالَ وَهوَ يُغادِرُهَا مُهاجِرًا: "واللهِ إنَّكِ لأحبُ بِلادِ اللهِ إليَّ، ولولا أنَّ قومَكِ أخرجوني منكِ مَا خَرجْتُ".

 

وكذلكَ حبُّ المدينة مُهاجَرُهُ -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الصحيحِ أنَّهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ"، ولا يَزَالَ هَذَا الحُبُّ والانتماءُ في قلبِ كُلِّ مُسلمٍ ومسلمةٍ.

 

إنَّ مِنْ شُكْرِ هذِهِ النعمَةِ: قيامَ كُلِ مواطنٍ ومقيمٍ بدورِهِ في الحفاظِ على الأمنِ واستدامتِهِ، والبعدِ عَنْ إثارةِ الفتنِ، وَجرِّ الناسِ إلى التنازعِ والاختلافِ الذي عاقبتُهُ الفشلُ وذهابُ الريحِ؛ (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].

 

وطَاعةُ وليّ الأمرِ فِي المُعروفِ دينٌ وعقيدةٌ، ونجاةٌ وسعادةٌ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء: 58]، وكَانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأمرُ بالجماعةِ، ويَنهى عَنْ الفُرقَةِ، فالواجِبُ على المسلمينَ التَّمسكُ بالجَمَاعةِ، والحذرُ عَنِ الفُرقَةِ، وأسبابِهَا، ومَنْ زَجَّ نفسَهُ في ذلكَ فقدْ سَارَ فِي مَرْكَبِ الجَاهليةِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ؛ فَمِيتَتُه مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وفي ظِلِّ مَا يَمرُ بِهِ عالمُنَا اليومَ مِنِ أحداثٍ متسارعَةٍ وتقلُبَاتٍ متتابعةٍ، وثوراتٍ يُرادُ بِهَا الكيدُ للإسلامِ والمسلمينِ، وتفريقُ جمَاعتِهِم؛ يتأكدُ الحفاظُ عَلى وحدةِ الصفِّ، والرَدُّ إلى الكتابِ والسُنَّةِ، وأولى الأمرِ؛ (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 83].

 

فاحذَرُوا -عَصَمَكُمُ اللهُ- مِن الشائعاتِ والأراجيفِ؛ فـ"بئسَ مطيةُ الرجلِ: زعمُوا"، و"كفَى بِالمرءِ إثمًا أنْ يُحدِثَ بِكلِ مَا سَمِعَ".

 

واحذرَوا مِنْ دُعاةِ الفتنةِ وفِرَقِ الضلالةِ، التي استَحلتْ الدمَاءَ المعْصُومَةَ، وفرقتْ الجماعةَ، وخرجتْ عنْ سبيلِ المُؤمنينَ.

 

ألا فَاتَّقوا اللَّهَ -عِبَادَ اللهِ- واشكرُوهُ عَلى النَّعم، واحمدُوهُ على مَا دفعَ مِنَ النقمِ، واعتبرُوا بمنْ حُولَكُم من البلدانِ؛ التي اختلفتْ كلمتها، وانحَلَّ عِقْدُ أمنِهَا، فَلا إمَامَ ولا جَمَاعةَ؛ فتقاتلَ أهلُهُا، وتمزَقَ شملُهُا، فَصَارُوا للنَّاسِ أحَادِيثَ؛ فالزمُوا جَماعَةَ المُسلمينَ وأئمتِهِم؛ (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].

 

اللهُمَّ أدِمْ علينَا نِعمةَ الأمنِ والإيمانِ، وارزُقنا شُكرَهَا على الوجِهِ الذي يرضيكَ عنَا، يَا حيُّ يَا قيوم يَا ذَا الجلالِ والإكْرَامِ.

 

 أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، وأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم ولسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِرُوهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَحِيمُ.

 

 

الخُطبَةُ الثَّانيةُ:

 

الحمْدُ للَّهِ وكَفَى، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الذينَ اصْطَفَى.

 

وَبَعدُ؛ فاتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التقوَى، وكونُوا عَلى يَقَظَةٍ مِنْ أمرِكُم وخُذوا حِذْرَكُم، واستَمعُوا لنداءِ رَبِكُم؛ (وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُون)[آل عمران: 103].

 

اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمينَ، واحْمِ حَوزَةَ الدِينَ، واجعلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمينَ.

 

اللهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرمينَ الشَريفينَ، ووليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

 

اللهُمَّ أعْذنَا مِنَ الشرورِ والفتنِ، مَا ظَهَرَ مِنهَا ومَا بَطنَ.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life