شقة الأبناء تحترق

الشيخ شايع بن محمد الغبيشي

2023-12-13 - 1445/05/29
عناصر الخطبة
1/حرص الآباء على أبنائهم في أمور الدنيا 2/تساهل الآباء مع أبنائهم في أمور الصلاة 3/الوعيد الشديد على من ترك الصلاة 4/ بعض المقترحات لإنقاذ نفسك وذريتك

اقتباس

فمسؤولية الأبوين في تربية الأبناء على الصلاة مسؤولية عظيمة، لابد لهما أن يقوما بجهد عظيم في إنقاذ ذريتهما من النار، فهذا ابراهيم -عليه السلام- يبين سبب إسكانه لزوجه وولده بوادٍ غير ذي زرع...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنّ الحمدَ لله، نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ الله- حق التقوى؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إخوة الإيمان: دونكم هذا الحدث الغريب العجيب، جلس الأبوان في الصالة يتجاذبان أطرف الحديث تارة، ويتصفح كل واحد منها جواله تارة، وفجأة يشتمان رائحة دخان، وما هي إلا لحظات وإذ بالدخان يتدفق من شقة الأبناء بكثافة، يخالطه صراخ الأبناء واستغاثتهم، والمدهش أن الأب والأم أخذا يرددان: لاحول ولا قوة إلا بالله، لا نستطيع إطفاء ذلك الحريق، وعاد كل واحد منهما إلى جواله، ولم يصيبهما الذعر، ولم يحاولا فتح الأبواب لإنقاذ البنين والبنات، ولم يتصلا بالدفاع المدني، ولم يستعينا بأحد من الناس!.

 

هل تتوقعون أن هذا مشهد حقيقي؟ هل يتصور عقلٌ بشري هذا التصرف من الأبوين؟ هل يُتصور أن يصدر هذا التصرف من إنسان له قلب وجنان وأحاسيس وحنان؟.

 

نعم لا يتصور ذلك، ولكن الواقع أشد إيلاماً من ذلك؛ فبيوتنا تحترق على من فيها حريقاً أشد من أحترق الشقة، ولكنه حريقٌ لا نرى لهبه، ولا نشتم دخانه، ولا نحس بلفحه وإحراقه!.

 

أدرك أنكم تتساءلون كيف ذلك؟! إنه الحريق الذي يحدث في كثير من البيوت دون أن نشعر به، أو نحن في غفلة عنه، هو حريقُ تضيع الصلاة وخطره والله عليهم أعظم من احتراق شقتهم عليهم؛ لأنه حقيقته إحراقٌ للأبناء في الدنيا والآخرة، تأملوا قول رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو مشفق علينا: "تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُم الفَجْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُم الظُّهْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُم العَصْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُم المَغْرِبَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلّيْتُم العِشَاءَ غَسَلَتْهَا ُثُمَّ تَنَامُونَ فَلا يُكْتَب عَلَيْكُمْ حَتَّى تَسْتَيْقِظُوا"(رواه الطبراني وصححه الألباني).

 

وينذرنا أخرى فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "يُبْعَثُ مُنَادٍ عِنْدَ حَضْرَةِ كُلِّ صَلَاةٍ فَيَقُولُ: يَا بَنِي آدَمَ، قُومُوا فَأَطْفِئُوا عَنْكُمْ مَا أَوْقَدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيَقُومُونَ فَيَتَطَهَّرُونَ وَتَسْقُطُ خَطَايَاهُمْ مِنْ أَعْيُنِهِمْ، وَيُصَلُّونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ مَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُوقِدُونَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الْأُولَى نَادَى: يَا بَنِي آدَمَ، قُومُوا فَأَطْفِئُوا مَا أَوْقَدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَيَقُومُونَ فَيَتَطَهَّرُونَ وَيُصَلُّونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعَصْرُ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْمَغْرِبُ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْعَتَمَةُ فَمِثْلُ ذَلِكَ، فَيَنَامُونَ وَقَدْ غُفِرَ لَهُمْ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَمُدْلِجٌ فِي خَيْرٍ، وَمُدْلِجٌ فِي شَرٍّ"(رواه الطبراني وحسنه الألباني).

 

ويوم القيامة يأتي السؤال للمفرطين في الصلاة المضيعين لها: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدثر: 42، 43].

 

عباد الله: فرق كبير بين حريق نار الدنيا قد يكتب الله لصاحبه أجر الشهيد، ويلقى الهناء والمسرات في آخرته، وحريق ترك الصلاة، عذابٌ وضيقٌ وشقاءٌ في الدنيا، وفي القبر؛ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)[غافر: 46]، وفي النار حريق لا فكاك منه؛ (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحج: 22].

 

لذا فمسؤولية الأبوين في تربية الأبناء على الصلاة مسؤولية عظيمة، لابد لهما أن يقوما بجهد عظيم في إنقاذ ذريتهما من النار، فهذا ابراهيم -عليه السلام- يبين سبب إسكانه لزوجه وولده بوادٍ غير ذي زرع فيقول: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)[إبراهيم: 37]، ويخرج من عندهما فيلهج بالدعاء لنفسه ولذريته فيقول: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إبراهيم: 40]، ويمدح الله إسماعيل عليه السلام فيقول: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)[مريم: 54، 55]، ويأمر الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر أهله بالصلاة: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132].

 

تروي لنا أمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهله فتقول: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ، مَاذا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنٍ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ أيْقِظُوا صَوَاحِب الْحُجَرِ؛ فَرُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنيا عَارِيةٍ في الآخِرَةِ"(رواه البخاري).

 

عباد الله: إن واقعنا مع الصلاة محزنٌ مبكيٌ، أين خوفنا على أبنائنا؟ أين شفقتنا عليهم؟ سأل معلمٌ في المرحلة الثانوية طلاب فصله: من صلى منكم الفجر هذا اليوم؟ فلم يرفع يده إلا ثلاثة طلاب؟ وسألهم مرة أخرى: من الذي لا يحافظ على أداء جميع الصلوات؟ فكانت الفاجعة، ما يقارب نصف الفصل لا يحافظ على أداء جميع الصلوات، يصلي بعضها ويترك بعضها!.

 

إنها كارثةٌ مؤذنةٌ بالخطر، ألا نخاف من قول الله -عز وجل-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم: 59]؟ (يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي: الشَّرُّ الْعَظِيمُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) واد في جهنم، بعيد القعر، خبيث الطعم".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أما بعد:

 

عباد الله: الصلاة صلة بين العبد وربه، فكيف نرضى لأبنائنا أن يقطعوا صلتهم بالله؟! الكون كله يسجد لله، فكيف يشذ أبناؤنا عن هذا الكون المتسق في عبوديته لله؛ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)[الحج: 18].

 

الصلاة حماية للأبناء من الفتن المتلاطمة التي تحدق بهم، فكيف نحميهم من فتن الشبهات والشهوات وهم مضيعون للصلاة؟ قال -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[العنكبوت: 45]، قال الإمام السعدي: "ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها".

 

إن ترك الصلاة والتفريط فيها كفر بالله -عز وجل-، فعن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"(رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني)، وعن جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"(رواه مسلم)، قال عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: "وَلَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ"(رواه الإمام مالك في الموطأ).

 

أخي رب الأسرة: تذكر أنك مسؤول أمام الله -عز وجل-؛ ولذا عليك أن تستفرغ جهدك في إنقاذ نفسك وذريتك من هذا الحريق المهول، وإليك بعض المقترحات لإنقاذ نفسك وذريتك:

أولاً: كن قدوة حسنة صالحة لأهل بيتك، مبادراً لأداء الصلاة في بيوت الله.

 

ثانياً: ربِ أسرتك على الصلاة من أول حياتك الزوجية، واستغل سن الصغر للحث على الصلاة والأمر بها.

 

ثالثاً: الدعاء ثم الدعاء ثم الدعاء؛ من أعظم أسلحة الوالدين في إصلاح الأبناء وتربيتهم على الصلاة.

 

رابعاً: الصبر وعدم اليأس، والاستمرار في التوجيه، والحث على المحافظة على الصلاة.

 

خامساً: التواصل مع المدرسة والمسجد، وتكامل الأدوار في الأمر بالصلاة والربية عليها.

 

سادساً: حسن العشرة والتعامل مع الأهل والأبناء، والرفق بهم والرحمة والشفقة عليهم، وكسب قلوبهم من أعظم أسباب إصلاحهم وهدايتهم.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life