شعبان الشهر الذي تغفلون عنه - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

اقتباس

شهر رمضان ينادي في شعبان أن ابسط يديك بالنعمة للعابدين، أقبل عليهم بأنوار جلالك وبهائك، أقلع بهم في سفينة الطاعة وفلك الاجتهاد؛ لترسو على ساحل التقوى، وتحط رحالك في ميناء القرآن والصيام، ووزع بضاعتك من الحسنات والأجور على منتظري الثواب، وألبسهم لباس الدُربة، وحفزهم على مزيد من التحصيل.. أخبرهم أن لذتهم التي يجدونها في الطاعة في أيامك ولياليك سيحصّلون منها أضعافًا مضاعفة ..

لا يستطيع كائن من كان -كلما داعبه هلال شهر شعبان المبارك في كل عام- أن يمنع نفسه من تذكُّر شهر رمضان المعظم وصيامه وقيامه والأعمال الصالحة التي تظلله، لا سيما وشهر شعبان هو التمهيد الزماني لشهر رمضان وما فيه من الطاعات، وهو رياضة عبادية للقلب والجوارح على الاجتهاد في الطاعة في رمضان، حيث انطلاق الإنسان من قيوده الشيطانية، وأغلال هوى نفسه، وتكبيل مردة الجن بها؛ لينطلق الإنسان في فضاء الطاعة الرحيب، وسمائها الواسعة، لا يدخر وسعًا ولا يبخل بجهد يبذله في سبيل تحصيل ما يقدر على حمله من باقات الحسنات والطاعات.

 

لقد أظلَّنا شهر التدريبات العقلية والجوارحية، تلك التدريبات التي تضع الإنسان في وضع الاستعداد لاغتنام ما يلي شعبان من أيام رمضان، فإذا مرت أيام هذا الشهر الذي يغفل عنه عدد غير قليل من البشر؛ فإنه ما من شك في انفراط عقد رمضان من بين يديه دون أن يشعر؛ فالطاعة تأتي بالطاعة بعدها، ولا يأتي بعد الغفلة إلا مزيد من الغفلة والسقوط في بئر الحرمان..

 

إن شهر رمضان هو شهر الجائزة، ففيه يفوز الصائمون القائمون، ويخسر القاعدون المبطلون، فهو ليس مجالاً لبدء الاستعداد للاستمرار على الطاعة، وإنما أيام شعبان هي أوان أخذ بوادر الأهبة وتجهيز متاع التوبة إلى شهر الصيام والقيام؛ فالفائز في رمضان هو من أحسن الأهبة في شعبان، والمغبون أشد الغبن من استغفله الشيطان واستولى على دقائقه وساعاته في شعبان.

 

ومع كل أسف.. لا تزال هذه الكلمات يتردد صداها عبر السنين، فتملأ الآذان، ولكنها لا تخترق إلى الجَنان، فلا ينتج عنها عمل، ولا تسفر عن اجتهاد وطرد لشبح الغفلة الذي يغطي العيون؛ ففي كل عام لا يدخر الخطباء والوعاظ وسعًا في تحفيز الناس لاغتنام عبادات رمضان وعدم إضاعة الأوقات فيه، وكأن النتيجة تأتي -في أحيان كثيرة- عكسية، فيبدأ الشهر والمساجد على أشدها والصدقات تملأ صناديق المساجد، ويُسمع للقرآن دويٌّ كدويِّ النحل في أنحاء المدينة، ثم ما يلبث ذلك أن يضمحل حتى يكاد يختفي عند انتصاف الشهر الكريم، إلا بين من رحمهم الله تعالى وأراد بهم الخير والفلاح والفوز.

 

 

شهر رمضان ينادي في شعبان أن ابسط يديك بالنعمة للعابدين، أقبل عليهم بأنوار جلالك وبهائك، أقلع بهم في سفينة الطاعة وفلك الاجتهاد؛ لترسو على ساحل التقوى، وتحط رحالك في ميناء القرآن والصيام، ووزع بضاعتك من الحسنات والأجور على منتظري الثواب، وألبسهم لباس الدُربة، وحفزهم على مزيد من التحصيل.. أخبرهم أن لذتهم التي يجدونها في الطاعة في أيامك ولياليك سيحصّلون منها أضعافًا مضاعفة في أيامي ولياليَّ.. في صيامي وقيامي.. في صدقاتي وذكري..

 

 

شهر يظلنا عن قريب، فيهيج في المسلم مشاعر الهداية والإيمان، ويهتف بهم إلى الطاعة والعبادة والإحسان. فهو مقدمةٌ لشهر رمضان المبارك، وتمرينٌ للأمة الإسلامية على الصيام والقيام وصالح الأعمال؛ حتى يذوقوا لذَّة القرب من الله تعالى، ويستشعروا حلاوة الإيمان، فإذا أقبل عليهم شهر رمضان أقبلوا عليه بهمَّة عالية، ونفس مشتاقة، وانكبُّوا على الطاعة والعبادة.

 

وإن العبد يجري في هذه الدنيا في مضمار سباق نحو الآخرة، والموفق هو الذي يبادر الفرصة، ويحذر فوتها، والمحروم من حرم الخير. وإننا شهر شعبان موسم من المواسم الرابحة في التجارة مع الله تعالى.

 

ومن أبواب الخير والبر  في شهر شعبان:

1- الإكثار من الصوم في شعبان: 

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الصيام في شهر شعبان، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ أَحَبُّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَصُومهُ شَعْبَانَ، ثُمَّ يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ». (سنن أَبي داود (2431) وصححه الألباني).

 

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلاَّ شَعْبانَ وَرَمَضَانَ». (سنن الترمذي 736 وصححه الألباني).

 

عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ. فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ" (صحيح البخاري: 1969).

 

وقد أوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- علة إكثاره -صلى الله عليه وسلم- من الصيام، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَب وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِيْنِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». (سنن النسائي 2357، وصححه الألباني).

 

قال أهل العلم: وصوم شعبان مثل السنن الرواتب بالنسبة للصلوات المكتوبة، ويكون كأنه تقدمة لشهر رمضان، أي كأنه راتبة لشهر رمضان، ولذلك سن الصيام في شهر شعبان، وسن الصيام ستة أيام من شهر شوال كالراتبة قبل المكتوبة وبعدها. 

 

وفي الصيام في شعبان فائدة أخرى وهي توطين النفس وتهيئتها للصيام، لتكون مستعدة لصيام رمضان سهلاً عليها أداؤه.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وفي صومه –صلى الله عليه وسلم- شعبان أكثر من غيره ثلاث معان: أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شُغِل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان؛ ليدركه قبل الصيام الفرض.

الثاني: أن هذا الصوم يشبه سُنة فرض الصلاة قبلها تعظيمًا لحقها. 

الثالث: أنه شهر ترفع فيه الأعمال؛ فأحب -صلى الله عليه وسلم- أن يُرفعَ عملُه وهو صائم". (تهذيب السنن: 3/318).

 

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "وأما صيام النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر السنة؛ فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور". (لطائف المعارف، ص186).

 

وقال الإمام الصنعاني -رحمه الله-: "وفيه دليل على أنه يخصُّ شعبان بالصوم أكثر من غيره" (سبل السلام: 2/342).

 

2- رفع الأعمال إلى الله تعالى:

شهر شعبان موعد سنوي لرفع الأعمال إلى الله تعالى، قال العلماء: ورفع الأعمال على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: رفع يومي ويكون ذلك في صلاة الصبح وصلاة العصر  وذلك لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "(صحيح البخاري 540).

 

الدرجة الثانية: رفع أسبوعي ويكون في يوم الخميس، وذلك لما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن  عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم "(مسند أحمد:‏ 10079‏، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث 2538).

 

الدرجة الثالثة: رفع سنوي ويكون ذلك في شهر شعبان؛ وذلك لما ثبت عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَب وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِيْنِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». (سنن النسائي 2357، وصححه الألباني).

 

3- إحياء مواسم الغفلة:

مع قدوم شهر رجب كل عام يقبل الناس على الطاعة ظنًّا منهم لخصوصية شهر رجب، ثم يتكاسلون في شعبان، ولذا اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإكثار من الطاعات في شهر شعبان، إحياء لهذه الأزمان الشريفة، فقال: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَب وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِيْنِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». (سنن النسائي 2357، وصححه الألباني).

 

وقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله تعالى- في بيان حكمة إكثار النبي من الصيام في شعبان: أن شهر شعبان يغفُل عنه الناس بين رجب ورمضان؛ حيث يكتنفه شهران عظيمان، الشهر الحرام رجب وشهر الصيام رمضان، فقد اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأن رجب شهر حرام، وليس الأمر كذلك، فقد روت السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "ذُكر لرسول الله ناسٌ يصومون شهر رجب، فقال: فأين هم من شعبان؟" (لطائف المعارف، ص191).

 

وفي هذا إشارة على استحباب عمارة الأوقات التي يغفل عنها الناس ولا يفطنون لها. قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: "واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظمة القدر لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالب الفضل دل على حرصه على الخير . ولهذا فضل شهود الفجر في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت، وفضل ما بين العشاءين وفضل قيام نصف الليل ووقت السحر"(التبصرة: 2/50).

 

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط" (لطائف المعارف، ص196). 

 

4- شهر شعبان شهر القرآن:

ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء .  وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن. (لطائف المعارف، ص196).

 

المتأمل في واقع كثير من المسلمين يجد أنهم يعانون من مشكلة مزمنة مع شهر رمضان، وذلك أننا في كل عام يأتينا رمضان ونحن غافلون، فنبدأ في الطاعة والعبادة من الصفر، ثم نرقى شيئًا فشيئًا فلا نكاد نجد طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان، وانطوت صحائفه بما فيها من إحسان المحسن وإساءة المسيء! فنندم ونتحسر ونتألم، ونقول: نعوض في العام القادم، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالاً من سابقه، وهكذا حتى يحق الحق ويغادر الإنسان دنياه وهو كما هو! ومن أجل ذلك ينبغي للعبد العاقل أن يتخذ من شهر شعبان فرصة للتدرب على الطاعات، والإكثار منها، ليدخل عليه شهر رمضان وهو مهيأ للعبادة متلبس بها..

 

إن شهر شعبان شهر تفتح فيه الخيرات، تنزل فيه البركات، وتترك فيه الخطيئات، فينبغي لكل مؤمن لبيب أن لا يغفل في هذا الشهر، بل يتأهب فيه لاستقبال شهر رمضان بالتطهر من الذنوب والتوبة عما فات وسلف فيما مضى من الأيام، فيتضرع إلى الله تعالى ويقبل عليه في شهر شعبان، ولا يسوِّف ويؤخر ذلك إلى غده، لأن الأيام ثلاثة: أمس وهو أجل، واليوم وهو عمل، وغدا وهو أمل فلا تدري هل تبلغه أم لا؟ فأمس موعظة، واليوم غنيمة، وغدا مخاطرة. وكذلك الشهور ثلاثة: رجب فقد مضى وذهب فلا يعود، ورمضان وهو منتظر لا ندري هل نعيش إلى إدراكه أم لا؟ وشعبان وهو واسطة بين شهرين فليغتنم الطاعة فيه.

 

ومن أجل معالجة هذا الموضوع وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم هذه الخطب المنتقاة، ونسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول وحسن الخاتمة.

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
العنوان
شهر شعبان وغفلة الناس 2018/04/20 24076 1266 107
شهر شعبان وغفلة الناس

إن شعبان ميدان للاستعداد والتهيؤ لاستقبال رمضان، فالنفس تحتاج إلى رياضة وتدرُّج ومقدِّمات، والسموُّ والارتفاعُ يحتاج إلى سُلَّم وممهِّدات، فقد تجنح النفس وَيَكِلُّ البدنُ، وَيَفْتُرُ الإنسانُ عن العبادة بسبب عدم التدرج فَيُحْرَمُ لذتَها، ويعاني من وطأتها...

المرفقات

شهر شعبان وغفلة الناس

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life