عناصر الخطبة
1/معنى قوله صلى الله عليه وسلم: \"طوّقه الله من سبع أرَضين\" 2/أهمية العدل ودوره في قداسة الأمم 3/عقوبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة 4/خطر اليمين وتساهل بعض الناس في ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
إن هناك فئة من الناس لا يتورع من شيء، فهو مستعد أن يحلف الأيمان تلو الأيمان بأن هذا له، المهم أن يأخذ، وكم في عالم القضاء اليوم من أيمان فاجرة، وشهادات زور، ورشاوى تدفع لفاقدي الذمة والأمانة، لكي تبتز أموال وحقوق الضعفاء والمساكين، والقاضي ليس له إلا الظاهر، فإذا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
روى البخاري في صحيحه: أن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من ظلم من الأرض شيئاً طوقه من سبع أرضين".
وروى أيضاً عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين".
وروى أيضاً عن سالم عن أبيه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة تدور على أن من أخذ من أرض غيره، ولو بمقدار شبر طوق يوم القيامة من سبع أرضين.
وفي رواية: "إلى سبع أرضين".
وقد اختلف أهل العلم في هذا التطويق، فقيل: أن معناه أنه يكلف نقل ما ظلم منها في يوم القيامة إلى المحشر، ويكون كالطوق في عنقه، لا أنه طوق حقيقة.
وقيل: أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه.
وقيل: أنه بعد أن ينقل جميعه يجعل الله في عنقه طوقاً، ويُعظم قدر عنقه حتى يسع ذلك، كما ورد في غلظ جلد الكافر، ونحو ذلك، فقد روى الطبري وابن حبان من حديث يعلى بن مرة مرفوعاً: "أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس".
ولأبي يعلى بإسناد حسن عن الحكم بن الحارث السلمي مرفوعاً: "من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين".
قد يقول قائل: وكيف يأتي هذا يوم القيامة وهو يحمل هذه الأراضي على ظهره؟ ربما تكون عشرات الكيلو مترات أو المئات وليس شبراً؟
فالجواب: بأن أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، ونظير هذا ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق مانعي الزكاة، وأنه يأتي يوم القيامة يحمل على رقبته إما بعيراً أو شاةً، ونحو ذلك.
وقيل: أن المراد بالتطويق أنه يكلف هذا الإنسان الذي أخذ من أراضي المسلمين يكلف يوم القيامة أن يجعله كالطوق، ولا يستطيع ذلك، فيعذب بذلك، كما جاء في حق من كذب في منامه أن يكلف بأن يعقد شعيرة، وما هو بقادر، على كل نخرج من أقوال أهل العلم بأن هناك عذاباً قاسياً في حق من اقتطع أو أخذ شيئاً من أراضي المسلمين، ولو بقدر شبر وأن هذه مسألة خطيرة.
قال ابن حجر في فتحه بعد عرض هذه الأقوال: "ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو تنقسم أصحاب هذه الجناية، فيعذب بعضهم بهذا، وبعضهم بهذا، بحسب قوة المفسدة وضعفها".
روى ابن أبي شيبة بإسناد حسن من حديث أبي مالك الأشعري: "أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرض يسرقه رجل طوقه من سبع أرضين".
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، اتقوا الله -تعالى- إن حقوق الناس مصانة، وأن أخذ أملاك الغير جريمة عظمى عند الله -عز وجل-، ولو كان شيئاً يسيراً، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة" فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: "وإن كان قضيباً من أراك"[رواه مسلم].
وروى ابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرّج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك ترى من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هلا مع صاحب الحق كنتم؟" ثم أرسل إلى خولة بنت قيس، فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضي لك: فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال الأعرابي: أوفيت أوفى الله لك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير مُتَعتَع".
هل هذه الأمة الآن مقدسة؟
الجواب لديكم معروف.
إن من أسباب عدم قدسيتها، ومن أسباب ضعفها وتخاذلها هو أن الضعيف فيها لا يأخذ حقه، هكذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
أي من غير أن تصيبه أذى، فلو توصل إلى حقه بشكل أو بآخر لا بد أن يلحقه شيء، أما أن يخرج من القضية سالماً معافى هذا لا يمكن أبداً؛ لأنه غالباً لا يتسلط على الناس، ويأخذ حقوقهم، ويسلب أراضيهم إلا الأقوياء، وهؤلاء يصعب مواجهتهم ومنافستهم واسترداد الحق منهم، ولو حصل الاسترداد بشكل أو بآخر -كما قلت- فإن هذا الضعيف لن يسلم، كيف يراد لأمة أن يستقيم أمرها وهذا من أبسط الأشياء، وهو عدم أكل حقوق الضعفاء وعلى التسلط على أراضي الناس، هذا الأمر معدوم فيها، إلا من رحم الله، كيف نريد أن نقيم العدل في غيرنا وفي أنفسنا مفقود؟ هل يجرؤ أحد أن يخاطب أحد أكل حقك أو سلب أرضك أن يُخاطب كما خاطب ذلك الأعرابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبداً، هذا رسول الله أفضل الخلق، وأكرم الخلق، يأتيه صاحب الحق، ويقول له: أحرج عليك إلا قضيتني؟ وعندما ينتهره أصحابه يعترض المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: "هلا مع صاحب الحق كنتم".
هكذا العدل في الإسلام، وهذه شريعة الله وما سواها فباطل مردود على أصحابها.
إن الكبر والغرور يبلغ ببعض الناس إلى درجة أنه لا يرضى أن يكلمه أحد، أو أن يناقشه أحد، إن كل ما أراده أخذه، وكل ما راق له سلبه، إنها شريعة الغاب، بحدها وحديدها، إنه يخشى على مجتمع هذا وضعه أن ينهار ويسقط فجأة؛ لأن أبسط مقومات البقاء مهلهل فيها جدارها متصدع، وأساسها هش، فأين البقاء والدوام؟.
أيها المسلمون: على الرغم من وضوح هذه الحقائق، وعلى الرغم من سهولة إقامة العدل بين الناس، وإرجاع المظالم إلى أصحابها، إلا أن هناك بعض الناس يبيع دينه بأبخس ثمن، ويأكل حقوق الناس بالباطل، وهو ذاهل عن المصير المظلم الذي ينتظره.
أما في الدنيا، فقد يرفع هذا المسلوب أرضاً، أو حقاً يده إلى السماء، فيدعو على خصمه فيهلكه الله -عز وجل- في الدنيا أمام الناس، ويجعله عبرة لمن أراد الاعتبار.
وقد ذكر الحافظ بن حجر -رحمه الله- هذه القصة عندما شرح الأحاديث التي قرأتها عليكم أول الخطبة، فيقول: "أنه كانت هناك امرأة يقال لها: أروى بنت أويس، شكت الصحابي الجليل سعيد بن زيد -رضي الله عنه- أحد العشرة المبشرين بالجنة- شكته إلى مروان بن الحكم أمير المدينة، وقالت: أنه أخذ شيئاً من أرضها، فقال سعيد -رضي الله عنه-: أنا آخذ شيئاً من أرضها بعدما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ذلك، فقال له مروان: وماذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: سمعته يقول: "من اقتطع شبراً من أرض طُوقه يوم القيامة من سبع أرضين" فقال مروان: لا أسألك بعد هذا بينة، يكفيني قولك هذا، فقال سعيد -رضي الله عنه-: "اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واجعل قبرها في دارها".
وفي رواية: "واجعل ميتتها في هذه الأرض".
قال راوي الحديث عروة بن الزبير قال: "فو الله لقد عمي بصرها حتى رأيتها امرأة مسنة تلتمس الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر، وكانت تمشي في أحد الأيام فسقطت في البئر، وكان ذلك البئر قبرها".
فهل ينتظر الظلمة؟ وهل ينتظر من سلبوا الفقراء والمساكين أراضيهم ومزارعهم ليس شبراً من أرض بل أمتار وأمتار أن تكون نهايتهم كأروى بنت أويس؟ هل ينتظرون أن يدعو عليهم أصحاب الحقوق فيصابوا ببلية في أولادهم أو أهليهم أو أموالهم؟
"لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
إن ليل الظلم لن يستمر، وثوب العار سوف يتمزق، وشمس الحق سوف يشرق، وأعداء الله مهما مكروا، فإن الله سيستدرجهم من حيث لا يعلمون.
إن أول من يتخلى عن الظالم شيطانه، وأول من يفضحه أقرانه وأعوانه، والناس مصالح، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، هذا في الدنيا، أما في الآخرة، فقد روى مسلم في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".
"من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"[رواه البخاري].
"أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار"[رواه مسلم].
أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
روى مسلم في صحيحه أنه جاء رجل من حضرموت، ورجل من كِنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: "ألك بينة؟" قال: لا، قال: "فلك يمينه" قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء فقال: "ليس لك منه إلا ذلك" فانطلق ليحلف، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أدبر: "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض".
إن هناك فئة من الناس لا يتورع من شيء، فهو مستعد أن يحلف الأيمان تلو الأيمان بأن هذا له، المهم أن يأخذ، وكم في عالم القضاء اليوم من أيمان فاجرة، وشهادات زور، ورشاوى تدفع لفاقدي الذمة والأمانة، لكي تبتز أموال وحقوق الضعفاء والمساكين، والقاضي ليس له إلا الظاهر، فإذا حلف من أمامه، فهو ملزم بقبول حلفه، وهذا لا يعني بأن القاضي لو حكم له بشيء أنه أصبح حقاً له، بل هو سحت ونار يأكله في بطنه.
عن أم سلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار"[رواه البخاري ومسلم].
فلنتق الله -أيها المسلمون-، اتقوا الله -تعالى-، واحذروا حقوق الآخرين، فإن الشبر من الأرض يطوق به صاحبه إلى سبع أرضين يوم القيامة، وهذا كلام عام للجميع وخصوصاً من لهم تعامل في الأرض بيعاً وشراءً، فإنه يحصل فيها هذه الأمور الشيء الكثير، خصوصاً إذا لم تكن الأمور محددة بالضبط، ويحصل أكثر في المزارع المتجاورة، فإن المد والجزر يحصل فيها أكثر مما يحصل في الأراضي السكنية فلينتبه أصحاب العقار من لهم تعامل ...
ثم إن الاقتطاع ليس منحصراً في الأراضي فحسب، وأننا لو تحكمنا وضبطنا هذا الباب فقد أقمنا العدل في المجتمع، كلا، فإن الموظف بإمكانه أن يقتطع من الحرام، لو أراد ذلك، وبعضهم مُريد لذلك، والجار بإمكانه أن يقتطع من حق جاره، ويظلمه ويؤذيه، والبعض يفعل ذلك، وهكذا، لكن أذكر بقضيتين أركز عليهما، ولا أريد أن أنهي الخطبة إلا وهي واضحة الأولى: وهو أن ظهور أمثال هذه الظواهر في المجتمع مؤشر خطير، لو كثر التعدي، وكثر هضم حقوق الآخرين، وكثر التسلط على المسلمين، فإن هذا منذر بليل قد ادلهم ظلامه.
"لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
فلنسعَ جادين، وليساهم كل منا بقدر استطاعته، وفي حدود إمكانه وولايته لرفع الظلم، ومنع التعدي، وأن لا نرضى بذلك، ولو حصل التعدي والتسلط ممن لهم شوكة ومنعة، فسكوت المجتمع يعني الدمار على الجميع، فالذي يريد أن يسلم لا بد أن ينكر، إما بيده إن كان قادراً أو بلسانه إما مشافهة أو كتابة، أو بأية وسيلة، المهم أن لا ندع هذا المرض يستشري، ويصبح التعدي والتسلط والأخذ أمراً مسلماً به.
"فإنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلمَّ ...
اللهم آمنا في أوطاننا ...
اللهم ولِّ علينا خيارنا، ولا تولِّ علينا شرارنا ...
القضية الثانية: هو أنه إذا كان أخذ شبر من الأرض، يكون هذا جرمه وجزاءه عند الله، فكيف بالذي يتنازل عن الأرض كله، كيف بالذي يسلم الأرض كله لأعداء الله؟ من يهود، ويسلم مع الأرض رقاب من على تلك الأرض -والله المستعان-.
"من اقتطع شبراً من أرض طوقه الله يوم القيامة إلى سبع أراضين".
فكيف بمن اقتطع الأرض كلها، وأخذ ثمنها وتقاسمها هو وزبانيته؟ هذا بماذا يطوق؟ ويقول ويصرح عن أعداء الله ورسوله أنهم أبرياء.
نسأل الله -جل وعلا- أن يطوق كل ظالم وخائن ببلية في الدنيا إذا لم يتب، وأن يطوق في قبره بسبع حيات تكون طوقاً له إلى يوم القيامة ...
التعليقات
زائر
01-01-2021.. جزاكم الله خيراً, أخوكم من اليمن ..
"من أهل السنة والجماعة "