عناصر الخطبة
1/من السنن الكونية في التعامل بين القوي والضعيف 2/أهمية تكوين شخصية موحدة للمجتمع الواحد 3/شخصية المسلم في الإسلام 4/الاعتزاز بالهوية الإسلامية واجب وطني

اقتباس

جَاءَ الإِسلامُ بِبَيَانِ شَخصِيَّةِ الـمُسلِمِ وَتَحدِيدِهَا، في لِبَاسِهِ وَمَظهَرِهِ؛ فلِبَاسُهُ سَاتِرٌ لِلعَورَةِ فَوقَ الكَعبِ، لَيسَ حَرِيرًا وَلا مُعَصفَرًا، وَجَاءَ في بَيَانِ مَظهَرِ الـمُسلِمِ بِأَنَّهُ مُعفٍ لِلِحيَتِهِ، حَافٌّ لِشَارِبِهِ...

الْخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

أَمَّا بَعدُ: فَـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ)[الحشر:18].

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: عِندَمَا يُسَافِرُ أَحَدُنَا إِلى أَيِّ بَلَدٍ مِن بُلدَانِ العَالَمِ، فَإِنَّ مِمَّا يَلفِتُ نَظَرَهُ -وَلا بُدَّ- عَادَاتِ الـمُجتَمَعِ وَتَقَالِيدَهُ وَشَخصِيَّتَهُ؛ فَلِكُلِّ مُجتَمَعٍ في ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ وَاضِحَةٌ، يُمكِنُ بِهَا التَّفرِيقُ بَينَهُ وَبَينَ الـمُجتَمَعَاتِ الأُخرَى، وَمَعرِفَةُ مَدَى تَقَدُّمِهِ عَلَى الآخَرِينَ وَسَبقِهِ، أَو تَأَخُّرِهِ عَنهُم وَتَخَلُّفِهِ.

 

وَقَد جَرَتِ السُّنَّةُ في هَذَا العَالَمِ أَن يَتَأَثَّرَ الضَّعِيفُ بِالقَوِيِّ وَيَسِيرَ وَرَاءَهُ، وَأَن يُقَلِّدَهُ في أَنظِمَتِهِ وَيَأخُذَ شَيئًا مِن ثَقَافَتِهِ، وَأَن يَتَشَبَّهَ بِهِ في أَخلاقِهِ وَعَادَاتِهِ، بل وَدَرَجَ الكَثِيرُ مِمَّن يَرَونَ أَنفسَهُم أَقوِيَاءَ العَالَمِ وَعُظَمَاءَهُ، عَلَى السَّعيِ الحَثِيثِ لِنَشرِ ثَقَافَتِهِم في الـمُجتَمَعَاتِ، وَفَرضِ شَخصِيَّتِهِم عَلَى الدُّوَلِ؛ مِن خِلالِ مَا يَملِكُونَهُ مِن وَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَسَالِيبَ مُتَنَوِّعَةٍ؛ سَوَاءٌ مِنهَا الجَادَّةُ أَوِ الهَازِلَةُ، أَوِ المُباشِرَةُ أَوِ الخَفِيَّةُ، أَوِ النَّاعِمَةُ أَوِ الخَشِنَةُ؛ فَالأُمَمُ الغَربيَّةُ في عَصرِنَا عَلَى سَبِيلِ الـمِثَالِ، تَسعَى لِتَصدِيرِ ثَقَافَتِهَا إِلى جَمِيعِ بُلدَانِ العَالَمِ وَخَاصَّةً العَربَ وَالمُسلِمِينَ، وَتَعمَلُ عَلَى فَرضِ شَخصِيَّتِهَا عَلَيهِم مُستَخدِمَةً في ذَلِكَ مَا يُمكِنُهَا؛ اِبتِدَاءً بِالتَّرفِيهِ وَالتَّمثِيلِ وَالغِنَاءِ وَاللَّعِبِ، وَمُرُورًا بِالـمَطَاعِمِ وَالـمُنتَجَاتِ الاِستِهلاكِيَّةِ، وَانتِهَاءً بِإيقادِ الحُرُوبِ وَاستِعمَالِ السِّلاحِ وَالقُوَّةِ العَسكَريَّةٍ.

 

وَلأَهَمِّيَّةِ أَن يَكُونَ لِلمُجتَمَعِ الوَاحِدِ شَخصِيَّةٌ وَاضِحَةٌ يَعتَزُّ بِهَا ويفتَخِرُ، وبِهَا يَتَوَحَّدُ صَفُّهُ وَعَلَيهَا تَجتَمِعُ كَلِمَتُهُ، وَبِقُوَّتِهَا يَبقَى مُتَمَسِّكًا بِتَارِيخِهِ وَرُمُوزِهِ، مُعتَزًّا بِمَاضِيهِ وَحَاضِرِهِ وَمُستَقبَلِهِ، يَصُدُّ مَا يَدعُوهُ لِلانسِلاخِ مِن دِينِهِ وَقِيَمِهِ وَمَورُوثَاتِهِ؛ فَقَد حَرِصَ الإِسلامُ عَلى أَن تَكُونَ لِلمُجتَمَعِ المُسلِمِ هُوِيَةٌ مُوَحَّدَةٌ، يَكُونُ أَفرَادُهُ بِهَا إِخوَةً مُتَحَابِّينَ مُتَآلِفِينَ، مُتَعَاوِنِينَ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى، مُتَنَاهِينَ عَنِ الإِثمِ وَالعُدوَانِ.

 

وَمَن تَأَمَّلَ نُصُوصَ الكِتابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا مُتَوَاتِرَةً في الحَثِّ عَلَى الاعتِزَازِ بِالهُوِيَّةِ الإِسلامِيَّةِ، وَالتَّحذِيرِ مِن مُشَابَهَةِ مَا عَدَاهَا مِن هُوِيَّاتٍ؛ فَقَد أَمَرَ الإِسلامُ -مَثَلاً- بِالتَّزَيِّيِ بِزِيٍّ يَخُصُّ الـمُسلِمِينَ، وَنَهَى عَنِ التَّشَبُّهِ بِمَلابِسِ الكُفَّارِ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسلمٍ أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عَبدِاللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- ثَوبَينِ مُعَصفَرَينِ؛ أَيْ مَصبُوغَينِ بِالعُصفُرِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ مِن ثِيَابِ الكُفَّارِ فَلا تَلبَسْهَا".

 

وَجَاءَ النَّهيُ -أَيضًا- عَن مُشَابَهَةِ الكُفَّارِ في أَوقَاتِ عِبَادَاتِهِم؛ ففِي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِعَمرِو بنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "صَلِّ صَلاةَ الصُّبحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَى تَطلُعَ الشَّمسُ حَتَّى تَرتَفِعَ؛ فإِنَّهَا تَطلُعُ حِينَ تَطلُعُ بَينَ قَرنَي شَيطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسجُدُ لَهَا الكُفَّارُ".

 

أَجَل -أَيُّهَا الإِخوَةُ- لَقَد جَاءَ الإِسلامُ بِبَيَانِ شَخصِيَّةِ الـمُسلِمِ وَتَحدِيدِهَا، في لِبَاسِهِ وَمَظهَرِهِ؛ فلِبَاسُهُ سَاتِرٌ لِلعَورَةِ فَوقَ الكَعبِ، لَيسَ حَرِيرًا وَلا مُعَصفَرًا، وَجَاءَ في بَيَانِ مَظهَرِ الـمُسلِمِ بِأَنَّهُ مُعفٍ لِلِحيَتِهِ، حَافٌّ لِشَارِبِهِ، قَاصٌّ لأَظفَارِهِ، نَظِيفٌ في جَسَدِهِ، شَعرُ رَأسِهِ مُتَسَاوٍ لَيسَ بِالقَزَعِ.

 

وَكَمَا حَرِصَ عَلَى خُصُوصِيَّةِ الرَّجُلِ في لِباسِهِ وَمَظهرِهِ؛ فقَد كَانَ عَلَى خُصُوصِيَّةِ المَرأَةِ في لِباسِهَا وَمَظهَرِها أَشَدَّ حِرصًا؛ فهِيَ الجَوهَرَةُ المَكنُونَةُ وَالدُّرَّةُ المَصُونَةُ، الَّتي يَجِبُ أَن تُحمَى وَتُحفَظَ؛ لِئَلاَّ تَكُونَ أُلعُوبةً في أَيدي العَابِثِينَ؛ فمَملَكتُهَا بَيتُهَا، وَقرارُهَا فِيهِ وَاجِبٌ عَلَيهَا، وَخُروجُهَا مِنهُ لا يَجُوزُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ أَو حَاجَةٍ، وَهِيَ مَأمٌورَةٌ بِالحِجَابِ وَسِترِ جَميعِ جَسَدِها، وَأَن تضرِبَ بِخِمَارِها عَلَى وَجهِها وَجَيبِها، وَأَلاَّ تُظهِرَ يدًا وَلا رِجلاً وَلا شَعرًا، وَلا تَخضَعَ بِقَولٍ وَلا تُبدِيَ زِينةً لِتَفتِنَ غيرَهَا... ومَعَ هَذَا فَقَدْ عَلِمَ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِما عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ وَكَشَفَهُ لَهُ، أَنَّ تَقلِيدَ هَذِهِ الأُمَّةِ لِلأُمَمِ الكَافِرَةِ حَاصِلٌ لا مَحَالَةَ، وَمِن ثَمَّ حَذَّرَ مِن ذَلِكَ وَذَمَّهُ وَقَبَّحَهُ؛ ففي البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَن قَبلَكُم شِبرًا بِشِبرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَو دَخَلُوا جُحرَ ضَبٍّ تَبِعتُمُوهُم" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟! قَالَ: "فَمَن".

 

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- فَقَد جَعَلَت بَعضُ أَخلاقِ الكُفَّارِ وَعَادَاتُهُم تَغزُو مُجتَمَعَاتِنَا؛ في لِبَاسِنَا وَكَلامِنَا وَأَكلِنَا وَشُربِنَا، وَفي نَومِنَا وَصَحوِنَا، وَفي أَعيَادِنَا وَحَفَلاتِنَا وَمُنَاسَبَاتِنا، وَفي تَنَاوُلِنَا لِتَأرِيخِنَا وَعَرضِنَا لِثَقَافَتِنَا، وَفي طَرَائِقِ عَيشِنَا وَتَعَامُلِنَا مَعَ بَعضِنَا؛ فالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الإغراقِ في التَّشَبُّهِ بِالكَافِرِينَ، وَاللهَ اللهَ بِالاستِقَامَةِ عَلَى الطَّريقِ القَوِيمِ؛ فإِنَّهُ لا نَجَاةَ وَلا كَرامةَ، إلاَّ لأَهلِ الثَّبَاتِ وَالاستِقَامَةِ (إِنَّ الَّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزاءً بِمَا كَانُوا يَعملُونَ)[الأحقاف:13-14].

 

بَارَكَ اللهُ لي وَلَكُم في القُرآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيات وَالذِّكرَ الحَكِيمَ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَمَّا بَعدُ: فَـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].

 

أَيُّهَا الإِخوَةُ: وَكَمَا أَنَّ الاعتِزَازَ بِالهُوِيَّةِ الإِسلامِيَّةِ وَاجِبٌ دِينِيٌّ؛ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وَطَنيٌّ وَخَاصَّةً في بِلادِنَا الَّتي هِيَ بِلادُ التَّوحِيدِ وَمَهبِطُ الوَحيِ وَمَنبَعُ الإِسلامِ، وَإِلَي قِبْلَةِ الْمُسْلِمِيْنَ تَهفُو قُلُوبُهُمْ قَبلَ أَبدَانِهِم، وَيَستَقبِلُونَهَا كُلَّ يَومٍ آلافَ المَرَّاتِ في صَلَوَاتِهِم.

 

في عَلَمِ بِلادِنَا كُتِبَت شَهَادَةُ التَّوحِيدِ وَأُعلِنَ رُكنُ الإِسلامِ الأَعظَمِ، وَعَلَى أَرضِهَا بَيتُ اللهِ وَمَسجِدُ رَسُولِهِ، وَفِيهَا عَاشَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَفِيهَا مَاتَ وَدُفِنَ، وَفِيهَا نَزَلَ القُرآنُ وَأَكمَلَ اللهُ الدِّينَ، وَمِنهَا انطَلَقَ الصَّحَابَةُ مُجَاهِدِينَ دُعَاةً إِلى سَبِيلِ اللهِ؛ فَاستَشعِرُوا كُلَّ ذَلِكَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَافتَخِرُوا بِهِ، وَتَفَقَّدُوا هُوِيَّتَكُم وَهُوِيَّةَ أَبنَائِكُم وَنِسَائِكُم وَمَن تَحتَ أَيدِيكُم، وَاستَمسِكُوا بِالحَقِّ الَّذِي أَنتُم عَلَيهِ وَعَضُّوا عَلَيهِ بِالنَّوَاجِذِ، وَاستَقِيمُوا وَلا تَتَلَفَّتُوا، وَحَافِظُوا عَلَى أَعظَمِ مُكتسَبَاتِكُم وَاثبُتُوا، وَحَذارِ حَذَارِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهلِ الكُفرِ وَالضَّلالِ؛ فَإِنَّ الـمُشَابَهَةَ في الظَّاهِرِ تُفضِي إِلى المُمَاثَلَةِ في البَاطِنِ، وَمَن تَشَبَّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنهُم...

 

المرفقات
No4YNcTVWVFWYqgTaJ9oCemoiooEYSnp2DVOWSLd.pdf
ic85MMeIgCqEgBPODln7VWPQdJUa8QlQqzSwFDxv.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life