عناصر الخطبة
1/فضائل أبي هريرة 2/إسلام أبي هريرة وحفظه للسنة النبوية 3/مناقب أبي هريرة وخصاله وصفاته 4/عبادته وبره بأمه 4/دور أبي هريرة في نشر الحديث النبوي.اقتباس
أبو هريرة من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الصحابة في الحديث،.. وبسبب قوة حفظه، ونشره للحديث، وتفرُّغه له، وتأخُّر وفاته الى ما بعد سنة خمسين من الهجرة، وحاجةِ الناس إلى علمه، وكثرة الرواة عنه، وتنقله في الأمصار كالشام والعراق والبحرين، رَوى عنه نحو ثمانية وعشرين من كبار الصحابة وصغارهم.. كما روى عنه وتتلمذ عليه مئاتٌ من التابعين..
الخطبة الأولى:
راوية الإسلام، ومُحدث الأمة، أحَفْظ الصحابة، وأحرصهم على الحديث ونشره، من أهل الصفة الذين هم أفقر أهل المدينة، شديد الملازمة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ما سمع به أحد إلا أحَبّه، مروياته تقارب نصفَ مرويات المكثرين من الرواية مع أنه لم يهاجر إلا قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث سنين.
إنه الصحابي الجليل أبو هريرة عبد الرحمن بن صخرٍ الدوسي قيل: إن اسمه في الجاهلية عبدُ شمس، فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبدَالرحمن، واشتُهر بكنيته، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا أبا هريرة"، و"يا أبا هر"، وقيل: إنه وجد هرة فحملها في كُمِّه.
وسبب إسلامه: أن الطفيلَ بنَ عمرٍو الدوسي له مكانةٌ عند قومه، ومنزلة عند قريش، وما أن عَرَفَتْ بقدومه إلى مكة، حتى انطلق إليه رجال منها يُحذِّرونه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصدوه عن الإسلام، واقتنع الطفيل بقولهم، ونوى ألا يسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى لا يؤخذ بسحره كما ادَّعوا، وذهب الطفيل إلى الكعبة، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي، فسمع كلامه فأُعجب به، وأَبَى الله إلا أن يفتح قلبه للإيمان، وذهب مع الرسول الكريم إلى داره فعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن، فشعر بحلاوة الإيمان، وطلب من الرسول أن يدعوَ له، وأن يجعل الله له عونًا في حمل الإسلام إلى قومه ودعوتهم إليه.
وعاد الطفيل إلى قومه فدعاهم للإسلام، فأجابه أبو هريرة وحده، وأبطأ عليه قومه، فعاد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بإبطاء قومه، وقال له: يا رسول الله! إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال: "اللهم اهد دوسًا وأت بهم"(متفق عليه واللفظ للبخاري).
فأجاب الله دعوة رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلوا المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، ولحقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين، قدم أبو هريرة -رضي الله عنه- المدينة قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث سنين، وعمره قد زاد على الثلاثين، قال عن نفسه: "فأقمت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات، أدور معه في بيوت نسائه، وأخدمه، وأغزو معه، وأحج، فكنت أعلمَ الناس بحديثه".
وأثنى الصحابةُ والتابعون ومن بعدهم على حفظه وضبطه للحديث، قال ابن عمر -رضي الله عنهما- لأبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنت كنت ألزمَنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحفظنا بحديثه".
قال البخاري: "روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظَ من روى الحديث في عصره"، وقال الأعمش عن أبي صالح قال: "كان أبو هريرة مِنْ أحفظ الصحابة".
وقال الشافعي: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره"، وقال سعيد بن أبي الحسن: "لم يكن أحد من الصحابة أكثرَ حديثًا من أبي هريرة".
وقال ابن عبد البر: "وكان أحفظَ أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار، لانشغال المهاجرين بالتجارة، والأنصار بحوائطهم".
وكان -رضي الله عنه- ملازمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- تاركًا الصفق في الأسواق والعمل في الحوائط، وقد وصف شدة جوعه بقوله: "لقد رأيتني وإني لأَخِرُّ فيما بين منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حجرة عائشة مغشيًا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع"(رواه البخاري).
قال أبو هريرة: "يقولون إن أبا هريرة قد أكثر - يعني: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله الموعد، ويقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه وسأخبركم عن ذلك، إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم، وإن إخواني من المهاجرين يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملأ بطني فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا.
ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا "أيكم يبسط ثوبه، فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئًا سمعه"، فبسطت بردة عليّ حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئًا حدثني به، ولولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئًا أبدًا: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاََّّعِنُونَ)[البَقَرَة: 159]"(رواه مسلم).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "كان أبو هريرة أحفظَهم للحديث ببركةٍ حصلت له من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث".
وقد شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه حريصٌ على العلم والحديث، قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك، لما رأيت من حرصك على الحديث"(رواه البخاري).
حِرْصُه على الحديث ظاهر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يأخذ مني خمس خصال فيعمل بهن، أو يعلمهن من يعمل بهن؟"، قال: قلت: أنا يا رسول الله، قال: فأخذ بيدي فعدهن فيها، ثم قال: "اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"(رواه الترمذي).
وكان -رضي الله عنه- جريئًا على أن يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أشياء لا يسأله عنها غيره، قال أُبي بنُ كعب: "إن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أشياء لا نسأله عنها"(رواه أحمد)، وقال رجل لابن عمر -رضي الله عنهما-: "إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن عمر: أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجيءُ به، ولكنه اجترأ وجَبَنَّا".
انتفع الصحابة من علمه: ففي الصحيح عن نافع قال: "قيل لابن عمر: حديث أبي هريرة، إن من اتبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، الحديث، فقال أكثَرَ علينا أبو هريرة، فسأل عائشة فصدقته، فقال: لقد فرطنا في قراريطَ كثيرة"(متفق عليه).
وكان أبو هريرة يدعو الناس إلى طلب العلم، فقد مر بسوق المدينة فوقف عليها، فقال يا أهل السوق ما أَعجزُكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقْسم وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه، قالوا وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا.
ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئا يُقسم! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى رأينا قومًا يُصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-"(رواه الطبراني).
محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظاهرة في تحديثه فكان يقول: "حدثني الصادق المصدوق خليلي أبو القاسم"(رواه أحمد)، ومرة يقول: "حدثني حبيبي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-"(رواه ابن حبان)، وكان يبتدئ حديثه بحديث: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"(متفق عليه).
وقد يؤكِّد أحيانًا صحة ما يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "يشهد على ذلك لحمُ أبي هريرة، ودمُه"(رواه أحمد)، لأنه على يقين مما يقول، فقد سمع بأذنه، ووعى بقلبه، وذكر بلسانه.
وكان من عبادته أنه كان يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: ثلثًا يصلي، وثلثًا ينام، وثلثًا يدرس الحديث، ويقسم الليل هو وامرأته وخادمه أثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويتمثل هو وأهله قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته"(رواه أبو داود).
وكان لأبي هريرة مسجد في مُخْدعه -أي مستودع بيته-، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب داره، إذا خرج صلى فيها جميعًا، وإذا دخل صلى فيها جميعًا.
وصَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث، قال: "ثلاث أوصاني بهن خليلي -صلى الله عليه وسلم- لا أدعهن أبدًا: الوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والغسل يوم الجمعة"(رواه أحمد).
وكان يكثر من التسبيح والتكبير في أطراف النهار والليل، وكان يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، ويقول: أسبح بقدر ذنبي.
وما من أحد سمع به الا أحبه، قال أبو هريرة: "أما والله ما خلق الله مؤمنًا يسمع بي ولا يراني الا أحبني"، وذلك أنه طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: "قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويجبهم إلينا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبب عُبيدك هذا -يعني أبا هريرة- وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين"، فما خُلق مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلا أحبني"(رواه مسلم).
واهتم -رضي الله عنه- بِبِرِّ بأمه: فقد فرح بإسلام أمه فرحا شديدًا، وبقي وفيًّا لها، بارًا بها، يخدمها كل حياته، ولم يفارقْها، حتى إنه لم يحج حتى ماتت لصحبتها.
رضي الله عن أبي هريرة، وعن بقية الصحابة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أبو هريرة من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الصحابة في الحديث، ولم يكن أحد أكثر منه حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، قال أبو هريرة -رضي الله عنه- عن نفسه: "ما من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"(متفق عليه).
إلا أن ظروف عبد الله بن عمرو وتنقُّلَه مع أبيه بين الحجاز ومصر والشام، وعدمَ استقراره، وانشغالَه بالعبادة عن التحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أصبح ما رُوي عنه أقل مما روي عن أبي هريرة بكثير، حيث بلغت سبعَمائةِ حديث، مقابل مرويات أبي هريرة خمسةُ الاف وثلاثُمائة وأربعةُ وسبعون حديثًا.
هناك أسباب أعانت أبا هريرة -رضي الله عنه- في نشر الحديث، منها: ملازمته للنبي -صلى الله عليه وسلم- ملازمةً تامة، حضرًا وسفرًا، يدور معه حيث دار، فقد تفرغ فيها للعلم والتحصيل، لا يشغله عنهما شاغلٌ من تجارة، أو زراعة، وهي ملازَمة لم تتيسر لعموم الصحابة.
وبسبب قوة حفظه، ونشره للحديث، وتفرُّغه له، وتأخُّر وفاته الى ما بعد سنة خمسين من الهجرة، وحاجةِ الناس إلى علمه، وكثرة الرواة عنه، وتنقله في الأمصار كالشام والعراق والبحرين، رَوى عنه نحو ثمانية وعشرين من كبار الصحابة وصغارهم، كزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعائشة، وغيرهم -رضي الله عنهم-، كما روى عنه وتتلمذ عليه مئاتٌ من التابعين -رحمهم الله-.
وامتاز أبو هريرة بالحكمة وسدادِ الرأي وبُعْدِ النظر، فلم يُحدِّث عن الفتن والملاحم قبل وقوعها، قال -رضي الله عنه-: "حفظت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم".
قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "في ذلك الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار، ولهذا لما كان مقتلُ عثمانَ وفتنةُ ابنِ الزبير ونحوُ ذلك.
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتهدمون البيت وغير ذلك، لقلتم: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها؛ لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوسُ الناس وعوامُهم".
عاش أبو هريرة -رضي الله عنه- ثمانٍ وسبعين سنة، وتوفي سنة سبع وخمسين في العام الذي توفيت فيه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وقيل: بعدها.
نِيل من أبي هريرة من أعداء الإسلام، لا لشخصه، وإنما لأجل السنة التي حفظها ووعاها ونشرها.
فرضي الله عنه وأرضاه.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات