عناصر الخطبة
1/ التعريف بسورة محمد 2/ الإشارة إلى اعتنائها بالتشريع والمنافقين 3/ بيان أن محور السورة هو الجهاد في سبيل الله 4/ تفسير السورة الكريمةاهداف الخطبة
اقتباس
وسورة محمد من السور المدنية التي تعني بالأحكام التشريعية شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت السورة أحكام القتال والأسرى والغنائم، وأحوال المنافقين، ولكن المحور الذي تدور عليه السورة هو موضوع الجهاد في سبيل الله ..
الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه، واتبع هداه إلى يوم الدين.
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، موضوعنا اليوم عن سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-، السورة السابعة والأربعون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ثمان وثلاثون آية.
وسورة محمد من السور المدنية التي تعني بالأحكام التشريعية شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت السورة أحكام القتال والأسرى والغنائم، وأحوال المنافقين، ولكن المحور الذي تدور عليه السورة هو موضوع الجهاد في سبيل الله.
ابتدأت السورة الكريم بدءاً عجيباً بإعلان حرب سافرة على الكفار أعداء الله وأعداء رسوله الذين حاربوا الإسلام، وكذبوا بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، ووقفوا في وجه الدعوة المحمدية ليصدوا عن سبيل الله، (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:1]، أي: الذين جحدوا بآيات الله وأعرضوا عن الإسلام ومنعوا الناس عن الدخول فيه أبطل الله أعمالهم وأحبطها، وجعلها ضائعة لا ثواب لها؛ لأنها لم تكن لله، فبطلت، والمراد أعمالهم الصالحة كإطعام الطعام، وقرى الضيف، وصلة الأرحام، وغيرها.
(وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) [2]، أي: جمَعُوا بين الإيمان والعمل الصالح، والتصديق بما أنزل الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- تصديقاً جازماً، محا الله عنهم ما مضى من الذنوب والأوزار، وأصلح شأنهم وحالهم.
وبيَّن اللهُ سبحانه سبب ضلال الكفار واهتداء المؤمنين، فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ)، أي: سلكوا الباطل واختاروه عن الحق، (وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)، وأن المؤمنين سلكوا طريق الهدى، وتمسكوا بالحق والإيمان المنزل من عند الرحمن، (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) [3]، أي: مثل ذلك البيان الواضح بيَّن الله أمر كل من الفريقين المؤمنين والكافرين بأوضح بيان، وأجلى برهان؛ ليعتبر الناس ويتعظوا.
ثم أمر الله -عز وجل- في السورة المؤمنين بقتال الكافرين وحصدهم بسيوف المجاهدين لتطهير الأرض من رجسهم حتى لا يبقى لهم شوكة ولا قوة، ثم دعت إلى أسرهم بعد إكثار القتل فيهم والجراحات: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)، أي: أنتم مخيرون بعد أسرهم بأن تمُنوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مقابل من مال، أو تأخذوا منهم مالاً فداء لأنفسهم، ولكن بعد أن تكونوا قد كسرتم شوكتهم حتى تنقضي الحرب بوضع آلاتها وأثقالها، وذلك بعزة الإسلام وانحدار المشركين.
(ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ)، أي: لأهلكهم بقدرته دون أن يكلف المؤمنين إلى قتالهم، (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)، أي: ولكنه أمركم بجهادهم ليختبر إيمانكم وثباتكم، وليصير من قتل من المؤمنين إلى الجنة ومن قتل من الكافرين إلى النار.
ولهذا قال: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) [4]، أي الذي استشهدوا في سبيل الله فلن يبطل عملهم؛ بل يكثره ويضاعفه وينميه، (سَيَهْدِيهِمْ) إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة (وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) [5]، أي: ويصلح حالهم وشأنهم، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [6]، أي: ويدخلهم الجنة دار النعيم، بيَّنَها لهم بحيث يعلم كل واحد منزله ويهتدي إليه، قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا.
ثم بيَّن سبحانه طريق العزة والصبر، وشروط نصره لعباده المؤمنين، وذلك بالتمسك بشريعته ونصرة دينه، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [7]، أي ينصركم على أعدائكم، ويثبتكم في مواطن الحرب.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ)، أي: هلاكا وشقاء لهم، وهو عائد عليهم بالتعاسة والخيبة والخذلان، (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [8]، أي أبطلها وأحبطها؛ لأنها كانت في طاعة الشيطان، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ)، أي: من القرآن والكتب والشرائع، (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [9]، أي: أذهبها وأضاعها؛ لأن الإيمان شرط لقبول الأعمال والشرك، محبط للأعمال.
وضربت السورة لكفار مكة الأمثال بالطغاة المتجبرين من الأمم السابقة وكيف دمر الله عليهم بسبب إجرامهم وكفرهم وطغيانهم فقال تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [10]، أي: أهلك الله الأمم المكذبة لكفار مكة أمثال تلك العاقبة الوخيمة، والعذاب المدمر، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا)، أي: وليهم وناصرهم، (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)، أي: لا ناصر لهم ولا معين ولا مغيث.
ثم بين الله تعالى مآل كل من الفريقين المؤمنين والكافرين في الآخرة فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، أي: جنات النعيم، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ)، أي: يتمتعون في الدنيا بشهواتها ولذاتها ويأكلون كما تأكل البهائم ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم، (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [12]، أي: وجهنم مقامهم ومنزلهم في الآخرة.
ثم ذكَّر الله تعالى الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) [13]، أي: وكم من أهل قرية عاتية ظالمة كانوا أقوى من أهل مكة الذين أخرجوك منها أهلكناهم بأنواع العذاب فلم ينصرهم أحد، كذلك نفعل بهؤلاء.
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)، أي: حجة وبصيرة، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)، أي: زين له عمله القبيح فرآه حسناً، (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [14]، أي: انهمكوا في الضلال حتى عبدوا الهوى.
ثم وصف الله سبحانه الجنة وصفا عجيباً فقال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)، أي: الأبرار الأخيار، (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ)، أي: فيها أنهار جاريات من ماء غير متغير الرائحة، (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ)، أي: وأنهار جاريات من حليب في غاية البياض والحلاوة والدسامة، لم يحمض بطول المقام، ولم يفسد كما تفسد ألبان الدنيا.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ)، أي: لذيذة الطعم يتلذذ بها الشاربون؛ لأنها لا تذهب عقولهم كخمر الدنيا، (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى)، أي: في غاية الصفاء وحسن اللون والريح، لم يخالطه الشمع وفضلات النحل، (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، أي: ولهم في الجنة أنواع متعددة من جميع أصناف الفواكه والثمار، (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ)، أي: ولهم نعيم مخلد ذلك النعيم الحسن، نعيم روحي، وهو المغفرة من الله مع الرحمة والرضوان.
(كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ)؟ أي: كمن هو مخلد في الجحيم؟ والاستفهام للإنكار، أي: لا يستوي من هو في النعيم المقيم بمن هو خالد في الجحيم، (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا)، أي: شديد الغليان، (فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [15]، أي: قطع أحشاءهم من فرط حرارته. المفسرون: بلغ الغاية في الحرارة إذا دنا منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم.
وتحدثت السورة بإسهاب عن صفات المنافقين، باعتبارهم الخطر الداهم على الإسلام والمسلمين، فكشفت عن مخازيهم ومساوئهم؛ ليحذر الناس مكرهم وخبثهم، فقال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا)، أي: من المنافقين من يستمع إلى حديثك يا محمد حتى إذا خرجوا من مجلسك قالوا لعلماء الصحابة: ماذا قال محمد قريباً في تلك الساعة؟ أي لا يعقلون ما قال ولا يكترثون به.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أي: ختم عليها بالكفر، (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [16]، أي: ساروا وراء أهوائهم الباطلة، أما المؤمنون المتقون فقال الله فيهم: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [17]، أي: زادهم الله هدى، وألهمهم رشدهم.
ثم قال سبحانه عن المنافقين (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)؟ أي: فهل ينتظرون الساعة فتأتيهم فجأة فتبغتهم وهم غافلون فقد جاءت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة خاتم الرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) [18]، أي: فمِن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة حيث لا ينفع ندم ولا توبة؟!.
ثم أعاد الخطاب اللهُ سبحانه لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [19]، أي: فدُم يا محمد على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله، واطلب من الله المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات، والله يعلم تصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة.
عباد الله: هذه بعض معاني سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسنكمل الحديث عنها في الخطبة الثانية إن شاء الله، وأسأل الله أن ينفعنا بها وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم رسله.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، استكمالا ً للحديث عن سورة محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد أعاد الحديث عن المنافقين عندما يكون الحديث عن الجهاد، فقال: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)، أي: يقول المؤمنون المخلصون شوقا إلى الجهاد، وحرصاً على ثوابه: هلا أنزلت سورة فيها الأمر بالجهاد؟ (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ)، أي: سورة صريحة لم تنسخ فيها الأمر بالقتال، (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، أي: رأيت المنافقين الذي في قلوبهم شك ونفاق، (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، أي: ينظرون إليك يا محمد تشخص أبصارهم جبنا وهلعاً كما ينظر من أصابته الغشية من حلول الموت، (فَأَوْلَى لَهُمْ) [20]! أي: فويلٌ لهم!.
(طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، أي: طاعة لك يا محمد، وقولٌ جميل، خير لهم وأفضل وأحسن، (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ)، أي: فإذا جد الجد وفُرض القتال، (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [21]، أي: فلو أخلصوا نياتهم وجاهدوا بصدق ويقين لكان خيراً لهم من التقاعس والعصيان.
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [22]، أي: فلعلكم إن أعرضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالمعاصي، وقطع الأرحام، (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أي طردهم وأبعدهم من رحمته، (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [23]، أي: أصمَّهم عن استماع الحق، وأعمى قلوبهم عن طريق الحق، فلا يهتدون إلى سبيل الرشاد.
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ)؟ أي: يتفهمونه، (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [24]، أي: بل قلوبهم قاسية مظلمة كأنها مكبلة بالأقفال الحديدية فلا ينفذ إليها نور الإيمان، (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى)، أي: رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان وبعد أن وضح لهم طريق الهدى، (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [25]، أي: زين لهم ذلك الأمر وغرهم وخدعهم بالأمل، وطول الأجل.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ)، أي: قالوا لليهود الذين كرهوا القرآن حسداً، (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ)، أي: في بعض ما تروننا به كالقعود عن الجهاد والتثبيط عنه، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) [26]، أي: من الكيد والدس والتآمر على الإسلام والمسلمين.
(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [27]، أي: فكيف حالهم حين تحضرهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم، ومعهم مقامع يضربون بها وجوههم؟ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [28]، أي: ذلك العذاب بسبب أنهم سلكوا طريق النفاق، وكرهوا ما يرضي الله من الإيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات، فأبطل ما عملوه حال إيمانهم من أعمال البر.
وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) [29]، أي: أيعتقد المنافقون أن الله لن يكشف أمرهم لعباده المؤمنين، ويظهر أحقادهم وبغضهم للإسلام والمسلمين؟ بل لابد أن يفضحهم ويكشف أمرهم.
(وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ)، أي: لو أردنا لأريناك يا محمد أشخاصهم فعرفتهم عياناً بعلامتهم، ولكن الله ستر عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين؛ لعلهم يتوبون، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، وأي: لتعرفنهم يا محمد في فحوى كلامهم، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [30]، أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فيجازيكم حسب قصدكم، ففيه وعيد شديد.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [31]، أي: ولنختبرهم أيها الناس بالجهاد وغيره من التكاليف الشاقة حتى نعلم المجاهدين في سبيل الله، والصابرين على مشاق الجهاد، ونختبر أعمالكم حسنها وقبيحها.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: جحدوا بآيات الله ومنعوا الناس عن الدخول في الإسلام، (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى)، أي: عادَوا الرسول وخرجوا عن طاعته من بعد ما ظهر لهم صدقه، (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) [32]، أي: لن يضروا الله بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، وسيبطل أعمالهم من صدقة ونحوها.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، أي: امتثلوا أمر الله وأمر رسوله، (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [33]، أي: لا تبطلوها بالكفر والنفاق، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)، أي: ماتوا على الكفر، (فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [34]، وهذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر له.
(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)، أي: فلا تضعفوا وتدعوا إلى المهادنة والصلح مع الكفار إذا لقيتموهم، (وَاللَّهُ مَعَكُمْ)، أي: بالعون والنصر، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [35]، أي: لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم.
(إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، أي: زائلة فانية لا قرار لها ولا ثبات، كاللعب واللهو الذي يتلهى به الأولاد، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ)، أي: يعطيكم ثواب أعمالكم كاملا، (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) [36]، أي: يطلب منكم أن تنفقوا جميع أموالكم، بل الزكاة المفروضة فيها.
(إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا)، أي: إن يسألكم جميع أموالكم، ويبالغ في طلبها ويلح عليكم في إنفاقها، تبخلوا، (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) [37]، أي ويخرج ما في قلوبكم من البخل وكراهة الإنفاق.
(هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي: منكم من يشح عن الإنفاق ويمسك عنه، (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)، أي: ضرره على نفسه لأنه يمنعها الأجر والثواب (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)، أي: والله مُسْتَغْنٍ عن إنفاقكم، وأنت المحتاجون إليه، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)، أي: وإن تعرضوا عن طاعته واتباع أوامره يخلف مكانكم قوماً آخرين يكونون أطوع لله منكم، (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [38]، أي: في البخل عن الإنفاق؛ بل يكونوا كرماء أسخياء.
وصلُّوا وسلِّموا عباد الله على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات