سورة الكافرون

تركي بن عبدالله الميمان

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
تفسير سورة الكافرون

اقتباس

الاِفْتِقَارُ إِلَى المَخْلُوْقِيْنَ ذُلٌّ في غَيرِ مَوْضِعِه؛ فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ بِيَدِ الله، لَا بِيَدِ العَبْد، وَمِفْتَاحُ الخَيْر هُوَ الدُّعَاءُ والاِفْتِقَار، فَاطْلُبْ حَاجَتَكَ مِنْ خَالِقِهَا الَّذِي لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا هُوَ،...

الخُطْبَةُ الأُولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

           

أَمَّا بَعْد: فاتَّقُوا اللهَ في خَلَوَاتِكُم وجَلَوَاتِكُمْ، فاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوْبِكُمْ، ومَا تُخْفِي صُدُوْرِكُم؛ (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[المائدة:7].

 

عِبَادَ الله: إِنَّهَا مُفَاصَلَةٌ مَعَ الكُفْر، وَبَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْك؛ إِنَّهَا سُوْرَةُ الكَافِرُوْن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "(قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ)[الكافرون:1]؛ تَعْدِلُ رُبُعَ القُرْآنِ"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

قالَ العُلَمَاء: "(قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُوْنَ) تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَحْوَالِ النَّشْأَتَيْنِ؛ فَهِيَ رُبُعُ القُرْآن؛ لِتَضَمُّنِهَا الْبَرَاءَةَ مِنَ الشِّرْكِ".

 

وَسَبَبُ نُزُوْلِ هَذِهِ السُّورَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ سَنَةً، وَيَعْبُدُوا إِلَهَهُ سَنَةً؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّوْرَة.

 

وَافْتَتَحَ اللهُ هَذِهِ السُّوْرَةَ بِـ(قُلْ)؛ لِلْاِهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ الْقَوْلِ، وأَنَّهُ كَلَامٌ يُرَادُ إِبْلَاغُهُ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهٍ خَاصٍّ.

 

(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ): أَيْ قُلْ لِلْكَافِرِيْنَ مُعْلِنًا وَمُصَرِّحًا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ دِيْنِهِمْ بِالكُلِّيَّةِ. قالَ ابْنُ عُثَيْمِين: "وَهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ كَافِر: سَوَاءً كَانَ مِنَ المُشْرِكِيْن، أَوْ مِنَ اليَهُوْد، أَوْ مِنَ النَّصَارَى، أَوْ مِن الشّيوعِيّين، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، كُلُّ كَافِرْ يَجِبُ أَنْ تَتَبَرَّأَ مِنْه، وَمِنْ عِبَادَتِه".

 

ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ المَفَاصَلَةَ بَيْنَ الكُفْرِ وَالإِسْلَام، في الحَاضِرِ والمُسْتَقْبَلِ؛ فَفِي قَوْلِه: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)[2-3]: وَهَذَا نَفْيٌ في الحالِ الحَاضِر. وَفِي قَوْلِه: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)[4-5]: وَهَذَا نَفْيٌ في المُسْتَقْبَل.

قال ابْنُ عَاشُوْر: "وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْغَرَضُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ تَأْيِيْسُهُمْ مِنْ أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ الْمُؤَكَّدِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِطُ شَيْئًا مِنْ دين الشِّرْك".

 

ثُمَّ مَيَّزَ اللهُ بَيْنَ الفَرِيْقَيْن، وَفَصَلَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْن؛ فَقَالَ: (لَكُمْ دِينُكُمْ)[6] وَهُوَ الشِّرْكُ والكُفْر (وَلِيَ دِينِ) وَهُوَ التَّوْحِيْدُ والإِيْمَانُ الْإِسْلَامُ، قالَ ابْنُ القَيِّم: "وَمَعَاذَ اللهِ أَنْ تَكُوْنَ الآيَةُ اقْتَضَتْ إِقْرَارًا على دِيْنِهِمْ أَبَدًا، إِنَّمَا الآيَةُ اقْتَضَتْ بَرَاءَتَهُ المَحْضَة، وَأَنْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيْنِ لا نُوَافِقُكُمْ عَلَيْهِ أَبَدًا؛ فَإِنَّهُ دِيْنٌ بَاطِل، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِكُمْ، لا نُشَارِكُكُمْ فِيه، وَهَذَا غَايَةُ البَرَاءَةِ، وَالتَّنَصُّل مِنْ مَوَافَقَتِهِمْ في دِيْنِهِمْ". قال تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس:41].

 

وَدَلَّتْ سُوْرَةُ الكَافِرُوْنَ: على أَنَّ الكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وأَنَّ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا -مَا عَدَا الْإِسْلَامِ- كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْبُطْلَانِ. فَالدِّيْنُ الحَقّ: هُوَ دِيْنُ الإِسْلَام؛ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُوْن؛ كَمَا قالَ تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)[آل عمران:19].

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

عِبَادَ الله: نَزَلَتْ سُوْرَةُ الكَافِرُوْن، بِكُلِّ أَسَالِيْبِ النَّفْيِ والجَزْمِ والتَّوْكِيْد؛ لِتُنْهِيَ كُلَّ مُسَاوَمَةٍ رَخِيْصَة، في أَمْرِ الدِّيْنِ والعَقِيْدَة، وَبِغَيْرِ هَذِهِ المُفَاصَلَة، سَيَبْقَى الغَبَشُ والتَّلْبِيْس، والمُدَاهَنَة والتَّدْلِيْس! (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)[القلم:8-9].

 

وَقَدْ تَتَنَوّعُ أَسَالِيْبُ الدَّعْوَةِ: بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيْهِ الحِكْمَةُ والمَصْلَحَة، وَلَكِنْ يَبْقَى جَوْهَرُ الإِسْلَامِ النَّقِي، والتَّوْحِيْدِ الخَالِص، بِلَا تَرْقِيْعٍ أَوْ تَمْييع! (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران:85].

 

وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ سُوْرَةَ الكَافِرُوْن، مَعَ سُوْرَةِ الإِخْلَاص: في سُنَّةِ الفَجْر، وَسُنَّةِ المَغْرِب، وَفِي سُنَّةِ الطَّوَاف؛ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الإِخْلَاصِ لله، وَاشْتِمَالِهَا على التَّوْحِيْدِ الَّذِي لا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا بِه؛ فَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ بِهِمَا النَّهَار في سُنَّةِ الفَجْر، وَيَخْتَتِمُ بِهِمَا النَّهَار في سُنَّةِ المَغْرِب، وكانَ يُوْتِرُ بِهِمَا؛ فَيَكُوْنَانَ خَاتِمَةَ عَمَلِ الليلِ والنَّهَار، وَقَدْ أَتَى رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي؟"، فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "اقْرَأْ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَفَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ"(رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، وَاخْتِمْ بالصالحاتِ أَعْمَالَنَا.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

 

فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].

 

 

المرفقات
4eQqKFHeg2RmrNoGWBxZjmsqJg7qNVLsAQM1OqAE.pdf
lH5fVkMCnZjza2WRBBjCQp7V9qp5B5cvb3JMvKYR.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life