عناصر الخطبة
1/ فضل سورة الرحمن 2/ التعريف بها 3/ عرض لمحتواها 4/ تفسير لبعض آياتها 5/ دعوة لتدبر القرآن الكريماهداف الخطبة
اقتباس
سورة فيها تذكير ببعض نعم الله على الإنسان، بل على الثقلين: الإنس والجن، هي سورة الرحمن، وهي سورة مدنية، فيها سمات القرآن المكي، من قِصَر الآيات، وختمها عموماً بحرف واحد هو النون، والميم أحياناً، وتمتاز بأنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير، وإشهاد بنعم الله على الثقلين الإنس والجن المخاطبين بها جميعاً ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ورجاء ثوابه، والخوف من عقابه، وحديثنا اليوم عن إحدى سور القرآن الكريم، سورة هي عروس القرآن، وهي كالعروس بين سائر سور القرآن، رُوي في الحديث الشريف: "لكل شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن".
سورة فيها تذكير ببعض نعم الله على الإنسان، بل على الثقلين: الإنس والجن، هي سورة الرحمن، وهي سورة مدنية، فيها سمات القرآن المكي، من قِصَر الآيات، وختمها عموماً بحرف واحد هو النون، والميم أحياناً، وتمتاز بأنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير، وإشهاد بنعم الله على الثقلين الإنس والجن المخاطبين بها جميعاً.
وهي السورة الخامسة والخمسون في ترتيب المصحف الشريف، وهي ثمان وسبعون آية، وقد استهلت بوصف الله جل شأنه بالرحمن، هذه الصفة التي لا تطلق إلا عليه سبحانه، ثم فصلت صفات الله، بادئة بالأهم وهو إنزال القرآن، وتيسير قراءاته وتدبره وتعليمه، ثم خلق الإنسان من العدم، ثم تعليمه الكلام والإفصاح عما في نفسه: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-3].
ثم سريان الشمس والقمر في الفضاء بحساب دقيق لا يخطئ، ثم السجود المتدرج في النبات الذي لا ساق له، إلى الشجر القائم على الساق لله عز وجل، ثم رفع السماء عظيمة متناسقة الأجرام بلا عمد، ثم شرع الله تعالى العدل لئلا تتجاوزوا في أقوالكم وأفعالكم.
ثم أمر سبحانه بإقامة الوزن الحسي بالعدالة، ونهى عن إنقاص موزون الميزان، ثم مهد الأرض وحفظها وجعلها صالحة لجميع الخلائق، فيها كل أنواع الفاكهة، وبالأخص النخل، له أكياس طلع بنبت منها الثمر، ثم خلق فيها جميع أنواع الحبوب التي لها تبن، وخلق كذلك كل مشموم زكي الرائحة.
وبعد هذا العرض الرائع الدقة للنعم يأتي سؤال التنبيه والإشهاد والتسجيل، والخطاب فيه للإنس والجن على مشهد من العالم كله: (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [13]؟ هذا السؤال تكرر في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة، تكرر عقب كل نعمة أو سواها حتى آخر السورة، ليجدوا مع كل مرة استيقاظاً وتسجيلاً وإشهاداً، وبأي سؤال؟ أي: بأي نعم الله تكذبون أيها الأنس والجن؟.
وقد بدأت بنعمة أصل خلق الإنسان، وهو آدم، من طين يابس يسمع له صلصلة وصوت يشبه الفخار، وهو الطين المحروق المتحجر، وأنشأ أو خلق الجن من لهب صاف لا دخان فيه، من نار.
ثم أنه خلق مشرقي الشمس في الصيف وفي الشتاء ومغربيها في الصيف وفي الشتاء، وهو أمر ملحوظ الأثر في توزيع الحرارة على الأرض، وبقدرة الله لا يطغى أحدهما إلى خواص الآخر.
ثم إخراج اللؤلؤ والمرجان في الأماكن التي تتفجر فيها من البحار، مثلما نراه من عابرات المحيطات تمخر عُباب البحار، وهي تجري في مياه البحار، وهذه من أعظم دلائل قدرة الله الباهرة.
ثم ذكر الله عز وجل أنه مع كل هذه النعم فإنه سبحانه قد حكم بالفناء على كل من على وجه الأرض من الأحياء ويبقى الله عز وجل الواحد (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [26-27].
ثم أخبر سبحانه أن كل من في السماوات والأرض يسأله وحده، فهو الذي يصرف كل شؤونهم، ويغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين.
ثم يخاطب الله عز وجل الإنس والجن بقوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ) [31]، أي: أيها الإنس والجن، أي الثقلين الضعيفين، وسنقصد لحسابكم لذلك مثلما أراد الله عز وجل.
ثم يخاطب الله الإنس والجن بخطاب تحَدٍّ وتعجيز: إن استطعتم أن تنفروا وتهربوا من أطراف السماوات والأرض ففروا واهربوا، وهيهات لهم ذلك! فلا يستطيعونه إلا بقوة وقهر لا يملكونهما! (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [33].
ثم ذكر الله عز وجل أنه يرسل على الإنس والجن لهبا لا دخان له من نار وصفر مذاب فلا يمنعان منه، ولا ينجيهما ناصر من عذاب الله.
ومن مشاهد القيامة أن تنفلق السماء فتصير حمراء منصهرة مثل الزيت في الذوبان، ويسأل الجن والإنس عن كل شيء: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر:92-93].
ثم ذكر الله عز وجل أنه في يوم الحشر يوم القيامة يميَّز المجرمون بعلاماتهم وهم العصاة، ومن علاماتهم سواد الوجوه، وزرقة العيون، فتوثق زبانية جهنم مقدمات رؤوسهم إلى أقدامهم قبل سواد الوجوه وزرقة العيون، وتأخذهم إلى النار.
ثم يشير الله عز وجل إلى جهنم التي كان المجرمون يكذبون بها، فهاهم يترددون إليها، فإن ضاقوا بها وطلبوا الماء فإلى ماء حار بالغ منتهي الحرارة يغلي في البطون: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ) [43-44].
وفي مقابل المجرمين يذكر الله عز وجل الذين يخافون القيامة بين يدي ربهم، وهم صنفان: سابقون مقربون، وصنف أقل منهم هم أصحاب اليمين؛ كما وصفتهم سورة الواقعة، فلكل واحد من الصنفين جنتان، أي: حديقتان داخل الجنة الكبرى، توصفان بنعيمهما بأن لأشجارهما أغصانا نضرة، وفيهما عينان تجريان بالماء الزلال، إحداهما التسنيم، عين في الجنة صافية حلوة الطعم، والأخرى السلسبيل، أي: العذبة كالسلسلة المنقادة.
وفيهما من جميع أصناف الفواكه، وكل صنف نوعان حتى لا يمل، ثم إن لهم فيهما فرُش باطنها الملاصق للأرض من غليظ الديباج وهو الحرير، فكيف بظاهرها؟ وثمار الجنتين قريب منهم لا يكلفهم جنيها عناء كثمار الدنيا، وعلى الفرش نساء للتمتع قصرن أبصارهن على أزواجهن ولن يتصل بهن جنسياً قبل أزواجهن إنس ولا جان، وهن ناضرات لامعات، (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [58] في الحمرة والجمال وكل ذلك بسبب إحسانهم في الدنيا؛ لأن الإحسان ليس له جزاء إلا الإحسان.
عباد الله: ألسنا بأشد حاجة إلى فهم معاني القرآن؟ ألسنا بحاجة إلى قراءته؟ ألسنا بحاجة إلى العمل به؟ إنه بين أيدينا، وكتب التفسير متوفرة في المكتبات وفي المدارس، فهل أطلعنا على شيء منها؟ هذه السورة العظيمة تصور لنا نعم الله وعظمته، وما أعده للعصاة وما أعده لمن يخافه.
ذكرنا ما أعده الله للفئة الأولى فئة السابقين، ندعو الله أن نكون منهم، فبينهم وبين الفئة الأخرى فرق كبير، مع عظم ما أعده الله للفئة الثانية، ولكن الجنة درجات.
نسأل الله أن نكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أعلى الدرجات في الفردوس الأعلى من الجنة. كما أن النار دركات، نعوذ بالله منها! ومن أقل دركاتها؛ لأن صاحب أقل دركة في النار من شدة ما يلقى من العذاب أنه يرى أنه لا يُعذب أحد بمثل ما يعذب به.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة خاتم رسله -صلى الله عليه وسلم-، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: استكمالا لما ورد في سورة الرحمن نكمل ما ذكر وما امتن الله به من نعم على الإنس والجن، فنذكر ما أعد الله للفئة الثانية أصحاب اليمين من عباد الله الصالحين التي نسأل الله إن لم نكن من الفئة الأولى أن لا نحرم من أن نكون من هذه الفئة، فأصحاب اليمين هم أقل أعمالا صالحة من السابقين، قد أعد الله لهم جنتين اسودتا من شدة الخضرة والري، (مُدْهَامَّتَانِ) [64].
فيهما عينان فياضتان بالماء، وفيهما بالأخص النخل والرمان لما لهما من الفائدة والجمال، وفيهن نساء فاضلات الخلقة، فيهن حور العيون مقيمات في البيوت المعبر عنه بالخيام، وهن أبكار لم يمسسهن قبلهم أحد من الإنس والجن، وأصحابها متكئون فيها على وسائد أو فرش مرتفعة في الجنة خضراء اللون، وبسط جميلة ذات نقوش عجيبة، وهاتان الجنتان على عظم ما فيهما نجد أنهما أقل من الجنين التي أعدت للسابقين.
ثم ختم الله عز وجل السورة بالثناء على نفسه بقوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [78]، أي: كثر خير وإحسان اسم خالقك صاحب العظمة والفضل التام.
عباد الله: للآية (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [68]، سبب نزول وهو كما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال جاء أناس من اليهود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا : يا محمد أفي الجنة فاكهة؟ قال: "نعم، فيهما فاكهة ونخل ورمان".
فهذه السورة العظيمة مع بقية سور القرآن نحن بحاجة إلى دراستها وفهم معانيها والعمل بها، والعمل لأجل الوصول إلى الجنة، ويا ليتنا نكون من السابقين! ونعوذ بالله أن نكون من المجرمين العصاة. أحببت أن تكون لنا اليوم درساً وخطبة.
أسأل الله لي ولكم حسن الفائدة، وأن ينفعنا بما نقول ونسمع، وأن يرزقنا العمل الصالح، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات