عناصر الخطبة
1/ القرآن إشباعٌ لحاجات الناس وهدىً وشفاءٌ ونورٌ 2/ سنن الله الدارجة تؤكد حقائق القرآن 3/ رحلة مع قصص القرآن تبين نتائج الطاعة والطغيان 4/ على المسلمين أن يتوكلوا على الله حق توكلهاهداف الخطبة
اقتباس
وخلاصة القول: إن آيات القرآن وقصصه ترشدنا إلى الارتباط الوثيق بالخالق في حال القوة أو الضعف، وتهدينا للعبودية الحقة لرب العالمين في حال السراء والضراء، وتدعونا للشكر والعدل مع الله ومع خلقه، وتحذرنا من مغبة الظلم والكفر عاجلاً أو آجلاً، وتقص علينا من آثار الأمم والدول ما فيه مدكر، وصدق الله إذ يقول في هذه القصص: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). اللهم اهدنا بالقرآن، وانفعنا بمواعظ القرآن ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:1-2]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
إخوة الإسلام: يؤسس القرآن في نفوس المسلمين معاني عظمى، ومعالم كبرى، وفي أي وقت عادوا إليها وجدوا فيها ما يروي الظمأ، وفي أي مكان تأملوها وجدوا فيها أمناً وتطميناً، كيف لا؟ والقرآن هدىً وشفاء ونور ورحمة للمؤمنين، قال الله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38]، ويقول -جل ثناؤه-: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42].
فالمريض يجد في القرآن شفاءه، والخائف المضطرب يجد في آياته ما يطمئنه ويسليه، والضعيف يقف في القرآن على ما يقويه ويشد من أزره، والقوي المستكبر يجد في القرآن ما يطأطئ من كبريائه، والظالم يضع القرآن حداً لظلمه وهكذا.
وفي سنن الله الدارجة في الكون تأكيد على حقائق، القرآن وشاهد عليها، وتأكيد كذلك على أن الضعيف يقوى إذا احتمى بالله وتوكل عليه والتزم شرعه، وهو ما يسمى بقوة الضعف، والقوي يضعف إذا طغى وتجبر وظن أن القوة قوته والكيد كيده، ولربما زاد في الطغيان فقال: أنا ربكم الأعلى!.
وفي رحلة مع شيء من قصص القرآن دعونا نقرأ نماذج لهذا وذاك؛ فأهل سبأ طغوا وتجبروا وأعرضوا بعد أن مكّن الله لهم، ووهبهم من الرزق ما وهبهم، وكان في جناتيهم آية، فماذا كانت نتيجة طغيانهم وإعراضهم؟ قال تعالى: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ:16-17] وتأملوا كيف تم التدمير بالماء؟ وهو في العادة مصدر نماء وحياة، فعاد -بقدرة الله- وسيلة تدمير وإهلاك!.
أيها المسلمون، وتأملوا طائفة من الأقوام والأمم التي يعرضها لنا القرآن مشيراً إلى طغيانها وتمردها، وكيف صدوا عن السبيل وكانوا مستبصرين، وكيف مكن لهم في الأرض فما استقاموا على منهج الله، وفي النهاية وحين بلغ الطغيان والجحود مبلغه كانت النهاية المؤسفة كما قال -تعالى-: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:38-40].
إخوة الإيمان، وحين يقال: إن النمرود بن كنعان أحد الملوك الأربعة الذين ملكوا الدنيا فمن المؤكد أن الذي حاجّ إبراهيم -عليه السلام- في ربه وصل غروره وكبرياؤه إلى حدٍّ قال فيه: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:258]، وكتُبُ التفسير تشير إلى نهاية مؤلمة لهذا الملك الجبار، وفيها عظة وعبرة.
نقل ابن كثير: قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى عليه، ثم الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم ذباباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاماً بالية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه مدة طويلة عذبه الله بها، فكان يضرب رأسه بالمرزاب في هذه المدة حتى أهلكه الله بها.
عباد الله، تأملوا! فالفرق كبير بين رجل يدَّعي الربوبية وبين بعوضة يتسع لدخولها المنخر، والمسافة هائلة بين الدعوة الجائرة وبين النهاية بهذه البعوضة. وكذلك يمحق الله الكافرين وينهي الظلم وينتقم من الظالمين.
أمة الإسلام، لا تخافوا البغي في الأرض حين ترتبطوا بخالق الأرض والسماء، ولا تخافوا الضيعة من قوى الأرض فمن فوقها قوة السماء، ومهما بلغت قوة البشر فثقوا أن القوة لله جميعاً، وإذا توكلتم على الله حق توكله فلن يستطيع أحد أن يؤذيكم، ولقد تحدى فرد أمة من الناس؛ لكنه كان مؤمناً وهم مشركون، ونجح المتحدي وأبلس المجرمون، قال الله حاكياً عنه: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:54-56].
إخوة الإسلام: وعلى مشارف ولادة محمد -صلى الله عليه وسلم- هدد الأحباش النصارى العرب؛ بل أتبعوا التهديد بالغزو، وجاء أصحاب الفيل ليهدموا البيت الحرام ويزيلوه من الوجود ويحولوا الحجاج والمعتمرين إلى كنيسة القليس.
وما كان للعرب كافة ولأهل مكة خاصة قِبل بهذا الجيش العرمرم، وما كان أهل مكة حينها مسلمين بل كانوا وثنيين، ولكن الله وحده تولى الدفاع عن بيته والدفاع عن أمة قدر وقضى أن يبعث من رحمها رحمة للعالمين، وانتهى الظلم على أعتاب مكة ورد الله الظالمين وجعل كيدهم في تضليل، وأرسل الله عليهم جنداً من جنده قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الفتح:4]، وقال -تعالى-: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31]، فعادوا يجرون ذيول الهزيمة، وجعل الله من حدثهم عظة وذكرى تتلى في كتاب الله إلى قيام الساعة.
إخوة الإيمان، وفي غضون هذه الحادثة ولد محمد -صلى الله عليه وسلم- يتيماً عائلاً، فخلق له ربه من الضعف قوة، ومن القلة كثرة، ومن الفقر غنى، قال -تعالى-: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) [الضحى:6-8].
لقد كان فرداً فصار أمة، وكان أمياً فعلّم الملايين من البشر، وكان فقيراً ففتح الله له كنوز الأرض، وأبصر مفاتيحها قبل أن يفتح أصحابه مواطنها، وما ذهب الجيل الذي صحبه حتى زعزع أركان الكياسرة والقياصرة وفتحوا بلاد فارس والروم، وأورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم واستبدلوا حضارتهم القائمة على الظلم والطغيان والجحود والإنكار والتحريض لرسالات السماء بحضارة أشرقت شمسها فاستضاء الكون كله بضيائها، وطوى فجر الإسلام قروناً من الظلم والطغيان، وساد العدل والرخاء شعوب الأرض، وكذلك يصنع الإسلام، وتلك من ثمرات الإيمان.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:96-99].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العزيز الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو القوة المتين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أوحى إليه ربه فقال: (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:196-197]، اللهم صل عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإسلام: وحتى تكتمل الصورة في نماذج القرآن أعرض لنموذجين في كتاب الله آتاهم الله من الملك والقوة والعدل والرحمة ما كان سبباً للتمكين في الأرض، ونفع الخلق، وإقرار الحق والعبودية الحقة لرب العالمين.
أجل؛ إن ذا القرنين مكّن الله له في الأرض، وهيأ له من الأسباب ما طاف به الأرض، ودانت له الأمم، وخضعت له الشعوب، فساسها بالعدل، وأقام بالقوة حضارة، وبنى بالعلم والمعرفة سداً عظيماً، تعد المواد المستخدمة فيه سبقاً للعلم الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله.
بلغ ذو القرنين مطلع الشمس ومغربها، وهناك ساسهم بالعدل وقومهم بالإيمان، قال -تعالى- حاكياً عنه: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) [الكهف:87-88].
وحين بلغ بين السدين كان بنيانه للسد انتصاراً للمظلومين، ووضع به حداً للمفسدين، وذو القرنين في أوج قوته لا يتجبر ولا يستكبر؛ بل ينسب القوة العظمى لخالقه، ويعترف بأن تمكينه على هذه المقدرات من لدن العزيز الحميد، قال -تعالى- حاكياً عنه: (قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) [الكهف:95].
ولما أن أقام السد شامخاً لم ينس أن ينسبه لله الواحد القهار، ولم يتعاظم في نفسه تعاظم البناء؛ بل اعترف بأنه رحمة من الله، وهو القادر على جعله دكا إذا شاء، قال -تعالى-: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف:98].
إخوة الإيمان: وكذلك تكون دعائم التمكين الحق في الأرض قوة وتخطيطاً تأخذ بكل أسباب القوة المادية الممكنة شرعاً وعقلاً وتوكلاً على الله، وإيماناً بقدرته تنفي الغرور بالنفس وتعظيم الذات، ولا تنسى من خلق الأسباب وقدَّرها، وسياسة حازمة عادلة مع خلق الله تسوسهم بشرع الله، تكافئ المحسن، وتأخذ على يد السفيه، وتمنع الظلم، وتقيم دعائم الحق، ولا تدع الضعفاء نهباً للأقوياء، ولا تجعل من الناس سادة أو عبيداً أرقاء.
أمة القرآن: ومن ذي القرنين إلى سليمان -عليه السلام-، وكلاهما في عداد ملوك الأرض الأربعة كما يقال، ونبي الله سليمان -عليه السلام- دعا ربه ملكاً لا ينبغي لأحد، فكانت الإجابة: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) [ص:36-38] وفوق ذلك: (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) [سبأ:12]، أي: سخَّر الله له عين النحاس ليستخرج منها ما شاء، بل قال له ربه: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39].
لقد حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون، واستسلمت ملكة سبأ لسليمان وهي التي أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، ولكن؛ كان ملك سليمان وقبله النبوة نعمة ورحمة للعالمين بإنسهم وجنهم، برجالهم ونسائهم، بأقويائهم وضعفائهم، فملكة سبأ تتحول من الكفر إلى الإيمان، وتعترف بالظلم، وتسلم لرب العالمين، قال -تعالى- حاكياً عنها: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل:44].
والجن تُسلم قيادها لسليمان -عليه السلام- فيسخر قوتها في بناء المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات، وهذه الآليات كلها تستخدم للخير والجهاد وإطعام الطعام، ومن تمرد من الجن وعصى يوثق في الأغلال والأكبال وأبطل الله مكر الشياطين ودعواهم على الإنس بعلم الغيب، فسليمان الذي قهرهم واستخدمهم يموت حين يموت وهم ماضون في العمل وهم يظنونه على قيد الحياة قال تعالى: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) [سبأ:14] أي: عصاه التي يتكئ عليها.
إخوة الإيمان: إن سليمان -عليه السلام- لم ينس شكر الله حيث أنعم الله عليه وأمده بهذه القوى والمقدرات قال تعالى: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40] وأثنى ربه عليه وعلى أبيه داود -عليه السلام- بالشكر فقال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
إن التمكين في الأرض والتفضيل على الخلق لا يستدعي الكفر والظلم والكبرياء؛ بل هو في شرائع السماء سبيل للشكر الخالص، والإحسان للمخلوقين، قال -جل جلاله-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل:15-16].
معاشر المسلمين: وخلاصة القول: إن آيات القرآن وقصصه ترشدنا إلى الارتباط الوثيق بالخالق في حال القوة أو الضعف، وتهدينا للعبودية الحقة لرب العالمين في حال السراء والضراء، وتدعونا للشكر والعدل مع الله ومع خلقه، وتحذرنا من مغبة الظلم والكفر عاجلاً أو آجلاً، وتقص علينا من آثار الأمم والدول ما فيه مدكر، وصدق الله إذ يقول في هذه القصص: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111]. اللهم اهدنا بالقرآن، وانفعنا بمواعظ القرآن.
إن المتأمل في قصص القرآن يجد أن عدداً من الأمم والقرى الظالمة أخذها الله بنوع من العذاب لا قِبل للخلق عليه، ويرى أن أسباب الهلاك جاءت من السماء ومن حيث لا يحتسب أهل الأرض، ويرى من جانب ثالث أن العقوبة تمت على مشهد من الناس، فالغرق وقع حيث يبصر الناجون، والبعوض يهلك الجموع ويهلك النمرود، والرياح تهلك، والملائكة تقاتل قال جل ثناؤه: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) [الأحزاب:9] والطير الأبابيل ترسل وتدمر، والرعب في القلوب سلاح رباني قذف الله به في قلوب يهود بني النضير من حيث لم يحتسبوا، وأصاب به يهود بني قريظة حيث تحزبوا مع الأحزاب وظاهروا.
إنها أسلحة السماء والانتقام الرباني، ليس المقصود منها أن يتواكل العباد ويقعدوا عن العمل بل؛ ليستيقنوا أن النصر في النهاية من الله، فلا ترهبهم قوة مهما بلغت، فلله القوة جميعاً، ولا يرعبهم جمع وجنود مهما احتشدت، فالله له جنود السموات والأرض، قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].
إن على المسلمين أن يتوكلوا على الله حق توكله ويقدروه حق قدره، وينصروه إن رغبوا منه النصر، فالله يقول: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد:7]، ويثقوا أن الإيمان به والعمل بشرعه ضمانة للنصر، قال -تعالى-: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47]، ويقول -جل جلاله-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].
وكم يعجَب ربنا من خلقه حين يستمدون النصر من غيره وهو وحده واهب النصر والعزة، وحين يخيل لهم أن غيره من البشر قادرون على الضر أو النفع وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا يدفعون عنها ضراً، ويريهم من آياته في الآفاق وفي الأنفس ما يتبين لهم الحق ثم يظلون في مرية من لقاء ربهم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
هذا؛ وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء الأئمة النجباء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى الصحابة والقرابة والتابعين، وعنا معهم بعفوك ومَنِّكَ وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، وأيدهم بتأييدك واجعل بأسك على القوم الظالمين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وتتوب علينا، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
التعليقات