عناصر الخطبة
1/ كيفية التعامل مع هفوات الآخرين 2/أهمية الاعتراف بالخطأ وعدم المكابرة 3/الاعتذار عن الخطأ 4/وجوب التحرز عن كل ما يُعتذر منه 5/دلالات الاعتذار وآثاره 6/من آداب الاعتذار.اقتباس
ولئن كان الاعتذارُ هو التعاملَ الأمثلَ مع خطأِ العبدِ في حقِّ ربِّه؛ فكذلك هو التعاملُ الأمثلُ في خطئِه على الخلْق؛ بل هو ألزمُ؛ إذ حقوقُ اللهِ قائمةٌ على الكرمِ والمسامحةِ، وحقوقُ الخلْقِ قائمةٌ على المُشاحَّةِ والمطالَبةِ. وذاك ما يستدعي التحرُّزَ من فعْلِ ما يُوجبُ الاعتذارَ؛....
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الرزاقِ، واهبِ العطاءِ ومُقَسِّمِ الأخلاقِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العظيمُ الخلَّاقُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى آله وصحبِه إلى يومِ التَّلاقِ.
أما بعدُ، فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)[البقرة: 278].
أيها المؤمنون: إنَّ من شأنِ الشريعةِ الربانيةِ رَعْيَ الفِطَرِ التي جُبِلَ عليها البَشَرُ، وتقويمَ مُعْوَجِّها، وتهذيبَ ما نَدَّ منها. والخطأُ على الغَيْرِ وانتقاصُ حقِّه من مُقتضى الطبيعةِ البشريةِ اللازمةِ؛ فجاءتِ الشريعةُ الغَرَّاءُ برَأْبِ ذلك الصَّدْعِ المؤثِّرِ في جدارِ الحقوقِ، وسدِّ ما انثلمَ منه، وتقويمِ خَلَلِه، وإكسابِ صاحبِه جَلالةً وتقديرًا؛ بشرْعِ مبدأِ الاعتذارِ السامي؛ فنِعْمَ البديلُ من الزلةِ الاعتذارُ.
قال إسحاقُ الموصليُّ: "كان يُقالُ: الاعترافُ يَهْدِمُ الاقترافَ"، سواءٌ كان ذلك الخطأُ والتقصيرُ واقعًا في حقِّ اللهِ -جلَّ وعلا-، أو كان واقعًا في حقِّ الخلْقِ؛ فالاعتذارُ طريقُ المذنبِ في حقِّ اللهِ إلى الإنابةِ بإبداءِ التوبةِ؛ فهي أسمى صورِ الاعتذارِ، وأجلِّها قدْرًا عند اللهِ؛ حين يُقِرُّ العبدُ بزلَلِه، ويندمُ عليه، ويُقْلِعُ عنه، ويَعزِمُ ألا يعودَ إليه؛ فيكونُ ذلك الاعتذارُ مِعْراجًا للفوزِ بمحبةِ اللهِ وفَرَحِه ومغفرتِه.
قال ابنُ الجوزيِّ مُعَلِّقًا على قولِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البخاريُّ في صحيحِه: "قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)[البقرة: 58]، فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ".
قال: "مَن تأملَ هذا الحديثَ عَلِمَ فَرْقَ ما بين أُمَّتِنا وبني إسرائيلَ، فإنَّ أولئك لما أذنبوا دُلُّوا على طريقِ التوبةِ وأَتَوْها متلاعبين بالدِّينِ، وهذا يدلُّ على أنَّ الذنوبَ ما آلمتْهم، ولا دَخَلَ خوفُ الجزاءِ عليها في قلوبِهم، ولا اكْترثوا بالتحذيرِ من عواقبِها، ولا سُرُّوا بالدلالةِ على طريقِ النجاةِ من شرِّها. ومن كان تلاعبُه في أصْلِ دينِه ومع نبيِّه وفي بابِ توبتِه، فهو في غايةِ البُعْدِ. وهذه الأُمَّةُ إذا أذنبَ مُذنِبُهم انكسرَ وبكى واعتذرَ، ثم لا يزالُ يَنْصِبُ ذنبَه بين عينيه، ويَوَدُّ أنْ لو مُحِيَ بكلِّ ما يَقْدِرُ عليه، فالحمدُ للهِ الذي جعلنا من هذه الأمَّةِ".
عبادَ اللهِ: ولئن كان الاعتذارُ هو التعاملَ الأمثلَ مع خطأِ العبدِ في حقِّ ربِّه؛ فكذلك هو التعاملُ الأمثلُ في خطئِه على الخلْق؛ بل هو ألزمُ؛ إذ حقوقُ اللهِ قائمةٌ على الكرمِ والمسامحةِ، وحقوقُ الخلْقِ قائمةٌ على المُشاحَّةِ والمطالَبةِ.
وذاك ما يستدعي التحرُّزَ من فعْلِ ما يُوجبُ الاعتذارَ؛ بأنْ يَتبصَّرَ المرءُ موْضِعَ فعلِه وقولِه قبلَ أنْ يُوقِعَه ويُمْضيَه، خاصةً عندَ سَوْرَةِ الغضبِ؛ فهو قرينُ الزللِ الذي لا يَكادُ أنْ يَنفكَّ عنه، قال أحدُ الحكماءِ: "أمْلكُ الناسِ جميعًا لنفسِه مَن استغنى عن الاعتذارِ عند سكونِ الغضبِ"؛ فليس لكلِّ خطأٍ عذرٌ، ولا كلُّ عذرٍ مقبولٌ، وليس كلُّ مَن يُعتذَرُ إليه يَقبلُ الاعتذارَ.
وكثيرًا ما يكتنِفُ الاعتذارَ سَوْءَةُ الكذبِ، كما قيل: "أمران لا يَسْلمان من الكذبِ: كثرةُ المواعيدِ، وشدةُ الاعتذارِ"؛ فترْكُ الذنبِ أيسرُ من التماسِ العُذْرِ، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إياك وما يُعْتَذَرُ منه"، وفي روايةٍ: "انظرْ إلى ما تَعتذِرُ منه من القولِ والفعلِ؛ فاجتنبْهُ"(رواه الطبرانيُّ وحسَّنه الألبانيُّ).
ومع ذا فلا بُدَّ مِن بُدورِ الخطأِ، وليس ثمةَ مَخْرَجٌ منه إلا سبيلُ الاعتذارِ الذي يَحْمِلُ في معانيه العِظامِ ما يُسَهِّلُ على المُخْطِئ المبادرةَ بإبدائِه نحْوَ مَن أَخطأَ عليه؛ كائنًا مَن كان، كما تُرَغِّبُ تلك المعاني مَن وَقَعَ عليه الخطأُ بقَبولِ الاعتذارِ وحَمْدِ فاعلِه.
فالاعتذارُ سُمُوٌّ دالٌّ على ما قام في صاحبِه مِن تواضعٍ يَمْنعُه من السُّدُورِ في الخطأِ واحتقارِ الخلْقِ وردِّ الحقِّ، وكفى بالتواضعِ رفعةً إنْ كان للهِ؛ يقولُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ"(رواه مسلمٌ).
والاعتذارُ قوةٌ وشجاعةٌ في الانتصارِ على نفخةِ الشيطانِ وحظِّ النفسِ، سيما إنْ وَقَعَ الخطأُ مِن ذي شأنٍ على مَن لا يُؤْبَهُ بشأنِه. وفي الاعتذارِ إظهارٌ لقيمةِ المرءِ وسُمُوِّ نفسِه باحترامِه الحقَّ الذي فاقتْ رُتْبَتُه كلَّ رُتْبةٍ، كما أنَّ فيه إظهارًا لاحترامِ الآخرين وتنويهًا بشأنِهم الذي جاءَ الاعتذارُ جَبْرًا لانتقاصِه بالزللِ، واستبقاءً لحبْلِ الوُدِّ الذي أَوْهَى فَتْلَه حَزُّ الخطأِ الحادِّ، وترطيبًا ورَوَاءً ليَبْسِ الجَفاءِ الذي أحْدَثَه وَقْعُ الزَّلةِ في أرضِ المحبةِ.
ذُكِرَ مَرَّةً في مجلسِ الوزيرِ العالمِ ابنِ هُبيرَةَ قولٌ للإمامِ أحمدَ تفرَّدَ به عن الأئمةِ الثلاثةِ، فادعى أَبُو محمدٍ الأشتريُّ أنها روايةٌ عن مالكٍ، ولم يوافقْه على ذلك أحدٌ، وأَحضرَ الوزيرُ كتبَ مفرداتِ أحمدَ، وهي منها، والمالكيُّ مُقِيمٌ على دعواه، فقال له الوزيرُ: بهيمةٌ أنت؟! أما تسمعُ هؤلاء الأئمةَ يَشهدون بانفرادِ أحمدَ بها، والكتبَ المُصَنَّفَةَ، وأنت تُنازِعُ؟! وتَفَرَّقَ المجلسُ.
فلما كان المجلسُ الثاني، واجتمع الخلْقُ للسماعِ أَخذَ القارئُ في القراءةِ، فمَنَعَه الوزيرُ، وقال: قد كان الفقيهُ أَبُو محمدٍ جَرِيئًا في مسألةِ أمسِ على ما يَليقُ به عن العدولِ عن الأدبِ والانحرافِ عن نَهْجِ النظرِ حتى قلتُ تلك الكلمةَ، وها أنا فليقلْ لي كما قلتُ له؛ فلستُ بخيرٍ منكم، ولا أنا إلا كأحدِكم، فضجَّ المجلسُ بالبكاءِ، وارتفعتِ الأصواتُ بالدعاءِ والثناءِ، وأَخذَ الأشتريُّ يَعتذرُ، ويقولُ: أنا المذنبُ، والأوْلى بالاعتذارِ مِن مولانا الوزيرِ، والوزيرُ يقولُ: القِصاصَ القصاصَ.
فقالَ أحدُ العلماءِ الحاضرين: يا مولانا، إذا أبى القصاصَ فالفداءَ، فقال الوزيرُ: له حكمُه، فقال الأشتريُّ: نِعَمُك عليَّ كثيرةٌ، فأيُّ حُكمٍ بقيَ لي؟! فقالَ: قد جعلَ اللهُ لك الحكمَ علينا بما أَلجأْتَنا به إلى الافتياتِ عليك، فقال: عليَّ بقيةُ دَيْنٍ منذُ كنتُ بالشامِ، فقال الوزيرُ: يُعطى مائةَ دينارٍ لإبراءِ ذمتِه وذمتي، فأُحضرَ له مائةٌ، فقال له الوزيرُ: عفا اللهُ عنك وعني! وغفرَ لك ولي!
وسَحَابُ الاعتذارِ وارِفٌ؛ عطاؤه مباركٌ مِدْرارٌ؛ سريعًا ما يُثْمِرُ إنْ هَمَى على مَغارسِ الوئامِ؛ فتنْبِتُ من ثمارِ الألفةِ ما يُبْهِجُ القلوبَ ويَسُرُّ الناظرين. وفي الاعتذارِ طَلَبُ السلامةِ من رِبْقةِ المظالمِ، وصيانةٌ لكنْزِ الحسناتِ من قِصاصِ الإفلاسِ يومَ الدِّينِ. وإذا كان بلغَ شأنُ الاعتذارِ في سماءِ الحُسْنِ عند اللهِ وعند خلْقِه مبلغَ الذُّرَى؛ فلا غَرْوَ أنْ يعيشَ صاحبُه مُرْتاحَ الضميرِ، طيِّبَ النفْسِ، محمودَ المُنْقلَبِ، محبوبًا عند اللهِ وعند خلْقِه.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ، فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ ...
أيها المؤمنون: وحتى يقعَ الاعتذارُ موْقعَ الحُسْنِ؛ فلا بدَّ من الإتيانِ بأدَبِه؛ وذلك بأنْ يُبادِرَ المعتذِرُ ببيانِ وجهِ عُذْرِه المقبولِ إنْ فُهِمَ من تصرفِه غيرُ ما أرادَ من الخيرِ، أو خَشِيَ أنْ يَقذفَ الشيطانُ بهذا التصرفِ في قلوبِ الناسِ نحوَه شرًّا؛ فرَحِمَ اللهُ مَن ردَّ عن نفسِه ظنَّ السَّوْءِ وقالتَه.
وإنْ ظَهرَ الخطأُ في التصرفِ، أو لم يكنْ له فيه عذرٌ مقبولٌ؛ فليس ثمَّ إلا المبادرةُ بالاعترافِ الصادقِ بالزللِ وانعدامِ العُذْرِ، وطَلَبِ المسامحةِ؛ فماءُ الاعترافِ يمحو دَنَسَ الاقترافِ.
إذا كان وجهُ العذرِ ليس بواضحٍ *** فإنَّ اطِّراحَ العذرِ خيرٌ من العذرِ
والمبادرةُ بالاعتذارِ والاستسماحِ من قبيلِ المسارعةِ في الخيراتِ المأمورِ بها شرعًا، والمتفَقِ على استحسانِها طَبْعًا. واختيارُ الأسلوبِ الأمثلِ في الاعتذارِ بحسَبِ ما يناسبُ الخطأَ ومن وقعَ عليه مما لا يَكْمُلُ ولا يَجْمُل الاعتذارُ إلا به؛ إذ جنايةُ العلنِ لا تُعالَجُ باعتذارِ السرِّ، والجنايةُ المتعديةُ لا يمسحُها إلا الاعتذارُ الذي يتعدَّى ويصلُ كلَّ مَن طالَه ضررُ الجنايةِ وإنْ تعدَّدُوا. وتمهيدُ لقاءِ المعتذِرِ بالمُعتذَرِ منه، وإِلانةُ الحديثِ له مِن خيرِ ما تُسَلُّ به سَخِيمَةُ قلبِه، قال ابنُ حزْمٍ: "اللِّقَاءُ يَذْهَبُ بالسخائمِ -أي: الضغائنِ-؛ فَكَأَنَّ نظرَ الْعينِ للعينِ يُصْلِحُ الْقُلُوبَ".
عبادَ اللهِ: وكما أنَّ للاعتذارِ أَدَبًا يَلْزَمُ المعتذِرَ؛ فإنَّ له أدبًا ينبغي للمعتَذَرِ منه أنْ يراعيَه؛ وذلك أنْ يَبْذلَ وسْعَه في تلمُّسِ الأعذارِ لمن أخطأَ عليه؛ فذاك من استواءِ عقلِه وإراحةِ نفسِه، قال عمرُ -رضي اللهُ عنه-: "أعقَلُ الناسِ أعذَرُهم"، قال جعفرُ بنُ محمدٍ: "إذا بَلَغَك عن أخيك الشيءُ تُنْكِرُه؛ فالتمسْ له عذرًا واحدًا إلى سبعينَ عذرًا، فإنْ أصبْتَه، وإلا قُلْ: لعلَّ له عذرًا لا أعرفُه".
تَأَنَّ ولا تَعْجَلْ بِلَوْمِكَ صاحِبًا *** لَعلَّ لَهُ عُذْرًا وأنْتَ تَلُومُ
وإنْ جاءه معتذِرٌ يومًا؛ فليقبلْ عذرَه وإن كان أعوجَ، دون مُحَاقَقَةٍ واستقصاءٍ؛ فذاك علامةُ رفعةٍ وسموٍّ وكرمٍ وتواضعٍ، سيما إنْ ضاقَ بالمعتذِرِ وجهُ العُذْرِ، قال حكيمٌ: "أوسعُ مَا يكونُ الْكَرِيمُ مغْفرَةً، إِذا ضَاقَتْ بالمذنبِ المعذرةُ".
إذا اعتذرَ المسيءُ إليك يومًا *** من التقصيرِ عُذْرَ فتًى مُقِرِّ
فَصُنْهُ عن عتابِك واعفُ عنه *** فإنَّ العفوَ شيمةُ كلِّ حُرِّ
ويَعْظُمُ ذلك مع كلِّ ذي حقٍّ وفضلٍ، كالزوجِ، والقريبِ، والجارِ، والعالِمِ، يقولُ ابنُ القيمِ: "مَن أساءَ إليك، ثم جاءَ يعتذِرُ مِن إساءتِه؛ فإنَّ التواضعَ يوجبُ عليك قبولَ معذرتِه، حقًّا كانت أو باطلاً، وتَكِلُ سريرتَه إلى اللهِ -تعالى-، كما فعَلَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين الذين تخلَّفوا عنه في الغزوِ، فلما قَدِمَ جاؤوا يَعْتذرون إليه، فقَبِلَ أعذارَهم، ووَكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ -تعالى-. وعلامةُ الكرمِ والتواضعِ: أنك إذا رأيتَ الخللَ في عذرِه لا توقِفُه عليه، ولا تحاجُّه، وقلْ: يمكنُ أنْ يكونَ الأمرُ كما تقولُ، ولو قُضِيَ شيءٌ لكان، والمقدورُ لا مَدْفَعَ له، ونحوَ ذلك".
إِذَا اعْتَذَرَ الْجَانِي مَحَا الْعُذْرُ ذَنْبَهُ *** وَكُلُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعُذْرَ جَانِيَا
التعليقات