اقتباس
أما في حال السلم التي لا تعدوا الخطبة فيها أن تكون نصيحة فلا داعي لهذه الشدة ويكفي استعمال الألفاظ المألوفة والرقيقة, وإننا نجد هذا في أسلوب القرآن حيث كانت السور التي نزلت تخاطب قوماً معاندين أشداء وكانت التي نزلت بالمدينة تخاطب قوما طائعين مستعدين لتنفيذ ما يلقى عليهم فاختلف أسلوب كل منهما بحسب مقاماته.
يختلف أسلوب الخطبة وتعبيراتها عن غيرها من الأساليب الكتابية والإلقائية، فأسلوب الشعر وطريقته يختلف كثيرا عن الأسلوب الخطابي وطريقته، وكذلك أسلوب الكتابة الفنية وكتابة المقالات؛ فالكتابة الفنية تجنح إلى جمال العبارات، وتقسيم الجمل، وتحلية التعبير ببعض المحسنات البديعية، ويدخلها أيضا شيء من خيال الشعر, وكتابة المقالات تعتمد على توضيح المعنى ولكنها غالبا ً تميل إلى الإيجاز، ولا يجمل بالكاتب أن يكثر من تكرار العبارات والمترادفات, وفي وسع القارئ أن يقرأ الجملة مرتين أو أكثر حتى يتعمق المعنى الذي يراد منها، وهذه فرصة لا تتاح لسامع الخطبة.
لهذا يعتمد الأسلوب الخطابي المقنع على التوضيح والإبانة, وقد يكرر الخطيب بعض الجمل, أو يعبر عن المعنى الواحد بعدة عبارات, أو يذكر في الجملة الواحدة كلمتين مترادفتين, كل ذلك مع مراعاة الأناة وقواعد الإلقاء, لهذا كان للأسلوب الخطابي المقنع أو الناجح سمات خاصة نجملها فيما يلي:
أولا: وضوح العبارات
بمعنى ظهور معانيها بحيث يكون الغرض الذي يهدف إليه مفهوماً للسامعين. ولهذا لا يستعمل الخطيب كلمات لغوية غامضة. ولا تعبيرات مجازية بعيدة المعنى, ويختلف موقف الخطيب باختلاف سامعيه, فهو حين يخطب في طلاب جامعة أو أوساط مثقفة يستطيع أن يستعمل العبارات البليغة والمجازات البلاغية.
وليس الأمر كذلك حين يقف بين مجموعة من عامة الناس, وخطيب المسجد يستمع إليه أخلاط من الناس منهم المثقف العميق ومنهم الساذج قليل الثقافة أو عديمها. ومنهم من هو بين بين. وهؤلاء تختلف درجاتهم العقلية والثقافية. ومن هنا كان التكرار والإلحاح على المعنى الواحد بعبارات مختلفة له أهميته, فمن خفيت عليه جملة بينتها الأخرى, ولا بأس أن يستعمل الخطيب بعض الجمل العامية بلهجة بيئته لتوضيح غرضه على ألا يكثر من إيرادها. وبعض الخطباء يجعل خطبته كلها باللغة العامية الدارجة، وهذا خطأ كبير, فاللغة الفصحى لها جمالها وتأثيرها حتى على العامة, واستعمال العامية الخالصة أو الإكثار منها يفقد الخطبة هذا التأثير, ثم إن بين المستمعين مثقفين, لا يستريحون لهذا الأسلوب, بل يؤذي شعورهم، وكما أن الخطيب يعلم سامعيه ديناً وعلماًَ هو أيضاً يعلمهم اللغة والتعبير. ويستفيد ناشئو الطلبة كثيرا ً من خطباء المساجد. والخطبة الجيدة تجذبهم إلى سماعها, واللغة العامية كثير ما تنفرهم.
ثانيا: التوسط بين الإيجاز والإطناب
بالاعتماد على الجمل القصيرة، وعدم الفصل البعيد بين أجزائها, فإذا ذكر المتكلم مبتدأ, ثم أردفه بجملة أو عدة جمل معترضة, ثم جاء بعد ذلك بخبر المبتدأ فإن هذا قد يخفى على السامع, وأولى أن يجعل كل جملة مستقلة بنفسها. كذلك الجمل الطويلة التي تكثر فيها المتعلقات من مفعول به ومفعول مطلق وظروف ومجرورات بما يشق فهمه عادة ويشتت الأذهان, وهذا مما يضعف تركيب الجملة, ولكنها في حال الكتابة يمكن أن تستعاد وتفحص على مهل أما في حال الخطابة فقد تمر بدون فهم وتذهب فائدتها نهائياٌ.
تنويع الخطب أيضاً طولاً وقصراً بحسب مقاماتها فالخطبة التي تقال لإطفاء شغب على الوالي لعمله أمراً لم يرضه قومه, تكون قصيرة مقتصرة على أهم أغراضها وتستعمل مع ذلك الأسلوب القوي وتجمع بين التحذير والتبشير, تهدد المتمردين, وتبشر الطائعين على نحو ما يفعل القرآن. ونجد مثلا ً جيدا ً لهذا في خطبة أبي جعفر المنصور بعد قتل أبي مسلم الخراساني وكان أبو مسلم قائدا ورئيس الجند في خراسان، وهو من مقوضي الدولة الأموية، وخافه أبو جعفر فقتله, ولكي يهدئ أنصاره الغاضبين لقتله، خطبهم خطبة جاء فيها: " أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية, ولا تبطنوا غش الأئمة فإنه ما أضمر أحد لإمامه سوءا إلا أظهره الله عليه, لإظهار دينه وإعلاء كلمته, إن من نازعنا عروة هذا القميص أوطأنه خبئ هذا الغمد، وإن أبا مسلم قد بايعنا وبايع الناس لنا على أنه من غدر بنا فقد أهدر دمه, ثم غدر بنا فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على الناس لنا ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه".
الخطبة موجزة حتى لا تفتح مجالا للمناقشة, وقائمة على منطق, فقد جعل نفسه القائم على الدين, وإن من خرج عليه استحق أن يقتل لخيانته خليفة يقوم على دين الله, وان الله أطلعه على ما دبر له لأنه موال لربه, وأردف ذلك بتهديد سامعيه, أن من بادرنا بأدنى شغب. جعلناه جزراً لخبئ هذا الغمد, يعني تمزيقه بالسيف وذبحه, - ثم ألبس عمله ثوب العدالة التي لا تحابي أحداً مهما كانت قرابته. فهناك عهد أخذه أبو مسلم على الرعية كلها وهو واحد منها, وقد أخل بهذا العهد – مع أنه من أولياء الخليفة, لكن رعاية حقه إنما هي للصداقة الشخصية, أما إقامة الحد عليه بقتله فهي رعاية لحق الله وحق الله مقدم على حق الصداقة.
فأخذ على القوم أقطارهم بهذا المنطق ثم رمى بينهم رأس أبي مسلم مع بدر الذهب ثم انصرفوا يقولون بعنا قائدنا وعدنا بثمنه.
أما الخطب التي تتعرض لشرح منهج إصلاحي أو لشرح مبادئ يريد الخطيب أو المتكلم إيصالها للسامعين وإقناعهم بها، فإنها تطول وتمتد حسبما يقتضي الأمر وهذا كثيراً ما تجده في الخطب العامة, وكذلك الأمر في الخطب السياسية لأنها قد تتعرض لدفع تهم متعددة وإقامة براهين عديدة أيضا, فيدعو ذلك لإطالتها.
وللعرب السابقين من ذوي العلم والدراية بوقع الكلام ومواقعه مالا يستغنى عنه الخطيب المحدث, وإذا استعرضنا أقوالهم وآراءهم بوجه عام نجد أنهم أكثر ميلا إلى الإيجاز ما لم يكن ثم سبب خاص يستدعي طولا, حتى قال عبد الله بن المقفع: " الإيجاز هو البلاغة فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين, فالإكثار في غير خطل والغطالة في غير إملال, وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك "، وسئل عما يكون إذا مل السامع الإطالة التي قال هو إنها حق ذلك الموقف ؟ فقال: " إذا أعطيت كل مقام حقه وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فإنه لا يرضيهما شيء وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيء لا تناله ". وقيل: " لا يستحق الكلام اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه, ولا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك". وقال شيبة بن شيبة وهو أحد بلغاء العرب: "فإن ابتليت بمقام لا بد لك من الإطالة فقدم أحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل, قبل التقدم في أحكام البلوغ في شرف التجويد, وإياك أن تعدل بالسلامة شيئا ً فإن قليلاً كافياً خير من كثير غير شاف".
ثالثا: تنويع الصيغ حسب المقتضى
ففي مقامات التهويل والإثارة يحسن استعمال صيغ الاستفهام وصيغ التعجب لأنها تؤدي في هذه المقامات ما لا تؤديه الجمل الخبرية, والاستفهام الإنكاري يكاد يكون حجة مسلما ً بها، فضلا ً عما فيه من تشويق وإثارة. ولكن لا ينبغي أن يكثر الخطيب من كل الصيغ إكثاراً مسئماً، وإنما تستعمل في الوقت المناسب. وبحيث لا تفقد تأثيرها. وتنويع ألفاظ الخطبة وعباراتها بحسب المقام الذي تقال فيه, فخطب التهديد والوعيد, وخطب الحرب وإخضاع المتمردين تمتاز بقوة العبارة وفخامة التعبير واستعمال الكلمات الشديدة الغليظة, كما تجد ذلك في معظم خطب الحجاج بين أهل العراق. وقد جاء في خطبته الأولى: ( إنى والله ما يقعقع لي بالشنان, ولا يغمز جانبي كتغماز التين, ولقد فررت عن بصيرة وفتشت عن تجربة, إن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم أعوادها فوجدني أمرها عودا وأصلها مكسراً فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة ورقدتم في مراقد الضلال, أما والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم غرائب الإبل. .....الخ ).
ومع هذه الجمل القوية استعمل أيضاً رجزاً وشعراً من هذا القبيل منه:
فقد شمرت عن ساقها فشدوا *** وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وتر عـود *** مثل ذراع البكر أو أشــد
أما في حال السلم التي لا تعدوا الخطبة فيها أن تكون نصيحة فلا داعي لهذه الشدة ويكفي استعمال الألفاظ المألوفة والرقيقة, وإننا نجد هذا في أسلوب القرآن حيث كانت السور التي نزلت تخاطب قوماً معاندين أشداء وكانت التي نزلت بالمدينة تخاطب قوما طائعين مستعدين لتنفيذ ما يلقى عليهم فاختلف أسلوب كل منهما بحسب مقاماته.
فانظر إلى قوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ) [مريم: 88 - 92]. وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37].
فنجد في الأولى تهويلا ً عظيما وشدة استنكار, ونجد في الثانية مجرد أمر.
وانظر أيضاً قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور: 2].
وقوله تعالى في السورة نفسها. ... (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور: 27]. فنجد في الآية الأولى عددا ً من التشديدات, أمر بالجلد مائة مرة وعدم الرأفة وربط ذلك بالإيمان بالله, والأمر بشهر العذاب أمام طائفة من المؤمنين, أما في الآية الثانية فهي مجرد نصيحة تبين أن بها خيراً للمؤمنين.
رابعا: الاستعانة بالقصص
من القرآن والتاريخ، فقد يستعين الخطيب بعرض قصة أو حدث تاريخي للاستشهاد به على ما يقول, وهذا مفيد وناجح في أكثر أحيانه, ولكن يفسده طول القصة أو الإكثار من ذكرها. فهذا يجعل الخطبة درساً. والدرس عادة للتفهيم وليس للاستمالة, والقصة التي تورد في الخطبة يراد منها الاستمالة ويكفي فيها قص حدث أو واقعة قصيرة تأييدا ً لما جاء في الخطبة. ومن الخطباء من يخصص خطبته لشرح غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم أو الحديث عن صحابي من الصحابة – بلال أو صهيب أو سلمان الفارسي أو غيرهم – وهذا يجعل الخطبة درساً، قد تكون ذات فائدة ولكنها ليست خطبة على أي حال، إلا إذا تم توظيفها بصورة يستخرج منها الخطيب عبرا كلية ودروسا هامة تنفع عموم الأمة.
--------
المراجع والمصادر:
- البيان والتبيان للجاحظ
- تاريخ الخلفاء للسيوطي
- محاضرات الخضري ـ الجزء الثاني
- الخطابة لعبد الجليل شلبي
- الخطابة لأبي زهرة
- فن الخطابة للحوفي
- الإقناع في القرآن الكريم، رسالة ماجستير للطالب معتصم بابكر
التعليقات